"الموت يوجع الأحياء". لا يختلف إثنان على ذلك، لكن بالنسبة للكثيرين من اللاجئين السوريين في لبنان ثمة بُعد آخر لهذا الوجع. ففي بلد اللجوء لا وقت لـ"ترف" التعايش مع الخسارة، وثمة ما هو أشد إلحاحاً من الحزن على الميت نفسه: تأمين قبر ودفع تكاليف الطبيب الشرعي وسيارة النقل وشهادة الوفاة، وفي كثير من الأوقات المبالغ الطائلة لتخليص الجثة من المستشفى.
ويبلغ الحدّ الأدنى لتكلفة الموت في لبنان مليون ليرة لبنانية (حوالى 700 دولار). هكذا يجد اللاجئ نفسه مجبراً على تأمين هذا المبلغ فور وفاة أحد ذويه، وهو مبلغ قد لا يملك منه شيئاً في أغلب الأحيان.
"هل نرمي الجثث في البحر؟"
في مبنى مكتظ بأكثر من 182 عائلة سورية في منطقة صيدا، جنوبي لبنان، كانت تعيش ولاء مع أخيها. وقبل أيام قليلة تناول أخوها عن طريق الخطأ كمية كبيرة من الدواء، بسبب مشاكل في نموه العقلي. رفضت مستشفيات كثيرة استقباله لأنه غير مسجل في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، وعندما استقبله أحدها أخيراً اضطرت ولاء إلى إخراجه منها بسبب تكلفة الاستشفاء الباهظة. لم يحتمل وضع الأخ طويلاً فأصيب بجلطة دماغية وتلف كبده ومات.
وقالت ولاء لرصيف22: "لم أحظ بوقت للبكاء على أخي، فقد واجهت صعوبات لتأمين دفنه" وشرحت: "طلب الطبيب الشرعي مبلغ 500 ألف ليرة (333 دولار) خفضها بعد وساطات عدة إلى 400، والمقبرة طلبت ألف دولار لقاء القبر. وأنا لا أملك منها شيئاً". لا يظهر من وجه ولاء الذي لفته بغطاء أسود سميك سوى عينيها، لكنهما تبوحان بالكثير. بعد وساطات عدة ومساعدة بعض الجمعيات الأهلية، خُفضت تكلفة الدفن إلى مليون ليرة ليوارى الثرى عند صلاة المغرب أي بعد مرور أكثر من 10 ساعات على الوفاة.
من جانبه، واجه أبو بلال الصعوبات نفسها عند وفاة شقيقته. وقال لرصيف22: "طلبوا مني تأمين المال وعرقلوا عملية الدفن إلى حين تمكنت من جمعه من فاعلي الخير ومن اللاجئين الذين تبرع بعضهم بألف ليرة (أقل من دولار). ثم قالوا لي: لن تتمكن من دفنها قبل يوم غد". مشكلة أبي بلال لم تكن في المال وحده، فتأجيل الدفن إلى اليوم التالي تعني إبقاء الجثة في غرفة لا تتجاوز المترين مع أبناء الفقيدة الصغار. "لا برادات لدينا في المخيم ولا نستطيع دفع تكلفة إبقائها في براد أحد المستشفيات. ثم إن إكرام الميت دفنه فكيف نتحمل كل ذلك الأذى الجسدي والمعنوي وكيف يمضي الأطفال ليلتهم مع جثة أمهم؟"، أضاف.
المشكلة إذاً متعددة الأوجه. تحدّث المسؤول عن ملف اللاجئين في صيدا كامل كزبر عن أزمة مساحة وبررها بـ"طول عمر الأزمة، وزيادة عدد الوفيات، وهكذا لم تعد المقابر تتسع للمزيد منهم. وهذا لا يحدث فقط في صيدا بل في لبنان كله". وأضاف لرصيف22: "في الأساس هناك مشكلة اكتظاظ في المقبرة بالنسبة للموتى اللبنانيين فكيف باللاجئين؟".
وتحدث كزبر عن "حالات عدّة قمنا فيها بوضع الجثة أمام باب المقبرة أو المستشفى وطالبنا المعنيين بإيجاد حلّ"، وأضاف: "لتقل لنا الجهات الدينية هل يجوز رمي الجثث في البحر أو في مكب النفايات أو هل يمكننا حرق هذه الجثث. فليجدوا لنا حلاً لأن المشكلة أكبر من طاقتنا".
"نريد حلولاً متكاملة"
المشكلة في صيدا ليست إلا مثالاً عن واقع مرّ يعيشه اللاجئون بعد مرور أكثر من أربع سنوات على وجودهم في لبنان. في البداية، سمح مفتي صيدا سليم سوسان للاجئين من مختلف المناطق في لبنان بأن يدفنوا في المدينة، واستُحدثت مساحات إضافية في المقبرة خاصة بالسوريين. لكن طول مدة اللجوء وتكلفة الدفن الباهظة في بيروت أدت إلى امتلاء مقبرة صيدا، ما جعل المفتي يتخذ قراره قبل أربعة أشهر بمنع دفن أي سوري من خارج صيدا في المقبرة.
ولكن ذلك لم يحلّ حتى مشكلة اللاجئين في صيدا كون مقبرتهم امتلأت. وقال إمام مسجد الغفران حسام العيلاني لرصيف22 "إن المفتي أجاز للبنانيين دفن الميت في القبر نفسه مع أحد ذويه بعد مرور ثلاث سنوات على دفن الأول، ويمكن للسوريين البدء بالقيام بالأمر نفسه بعد مرور هذا الوقت، وهذا قد يشكل حلاً جزئياً".
كما أمنت مقبرة مخيم عين الحلوة الفلسطيني في صيدا بديلاً جزئياً للاجئين السوريين وبتكلفة مخفضة (250 دولار)، لكن هذه المقبرة امتلأت بدورها، هذا عدا عن الإجراءات الأمنية المشددة التي يفرضها الجيش اللبناني على مداخل المخيم والعراقيل التي تحدث عند إدخال الجثث، والمماطلة في إعطاء أذونات الدخول ما يؤخر الدفن أحياناً إلى اليوم التالي.
لكن ماذا عن الحلول المتكاملة؟ فالمبادرات الإنقاذية لدفن اللاجئين تبقى مرحلية وتقوم على مساعدة من دار الإفتاء من هنا أو تبرعات مالية من فاعلي خير من هناك، بينما تغيب أيّة خطة جدية لحلّ الأزمة. ويأتي ذلك وسط غياب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمنظمات الإنسانية الدولية التي لا تلحظ ضمن مساعداتها تكاليف الدفن.
وفي هذا الإطار، أوضحت المفوضية على لسان الناطقة باسمها دانا سليمان أنها "ليست معنية بموضوع الدفن، ويقتصر تدخلها على تأمين مراكز اجتماعية لتقبل التعازي والتنسيق مع المستشفيات لخفض التكاليف من أجل تسليم الجثامين في حال كان الشخص المتوفى مسجلاً لديها".
"تركت ابنتي الميتة في المستشفى"!
المشكلة تخليص الجثامين من المستشفيات حكاية أخرى مع اللاجئين. كثر اضطروا إلى ترك جثة قريب أو صديق في براد المستشفى لأيام لأنهم عجزوا عن دفع تكلفة إخراجه. أبو محمد "كاد رأسه ينفجر" وهو يفكر بأن ابنته الميتة قابعة في البراد وهو عاجز عن دفنها. "من أين لي أن أؤمن مبلغ 2000 دولار لإخراجها؟"، قال لرصيف22 وأضاف: "صحيح أن المفوضية تكفلت بـ50 في المئة من الفاتورة لكن المبلغ الذي ترتب عليّ كان باهظاً". وأكمل أبو محمد حديثه وهو يشد على رأسه مستعيداً المشاعر التي انتابته في تلك المرحلة واستطرد: "ليال أمضيتها بلا نوم حتى تبرع فاعلو خير بالتكاليف التي خفضت المستشفى جزءاً منها بعدما قطعت الأمل مني. استلمتُ الجثة وبدأت بعدها رحلة لإيجاد قبر ودفع تكاليفه".
يقترح البعض أن ينقل الجثمان إلى سوريا ليدفن في مسقط رأسه. لكن هذا الحل دونه عقبات كثيرة. بالنسبة لأحد اللاجئين، الذي رفض الكشف عن اسمه، فإن هذا الخيار قد يكون متاحاً فقط للموالين للنظام لأن عملية النقل يجب أن تتم عبر السفارة السورية في لبنان أو المخاطرة باجتياز الحدود بشكل غير شرعي وهو ما بات متعذراً في ظلّ التوتر الأمني في المناطق الحدودية مع سوريا. في المقابل، توضح السفارة السورية في لبنان أنها تسهل نقل الجثامين إلى سوريا ولا تطلب سوى الأوراق الثبوتية وشهادة وفاة من المستشفى، وحتى في حال عدم توفر الأوراق الثبوتية فهي تأخذ الموضوع بعين الاعتبار، بينما يتكفل الصليب الأحمر الدولي بعملية نقل الجثمان وتدفع العائلة التكاليف.
مقابر في البقاع؟
مع انعدام الشروط الصحية للعيش في المخيمات، ترتفع نسب الوفيات بين اللاجئين. وفي إحصاء للمفوضية مطلع العام الحالي وصل عدد الوفيات (المسجلة طبعاً) إلى أكثر من 1200 حالة. وسط كل هذا، طبيعي ألا تعدّ بيروت خياراً للاجئين بسبب ارتفاع تكلفة الدفن في مقابرها، المكتظة أساساً. مع العلم أن هذه التكلفة ترهق كاهل اللبنانيين أنفسهم وتبدأ من 3 آلاف دولار لتصل إلى 20 ألف دولار لـ"الدفن المترف".
إزاء هذا الواقع، خرجت اقتراحات تتحدث عن استحداث مقابر في منطقة البقاع ذات الأراضي الشاسعة، لكن تجربة اللاجئين في بعض المناطق في البقاع عند دفن موتاهم لم تكن بهذه السهولة. في بلدة عرسال الحدودية، الأكثر اكتظاظاً باللاجئين، استحدثت البلدية عام 2013 مدفناً للسوريين ولم تفرض حينها أي بدل مادي عليهم. وبعدما امتلأت المقبرة، اضطرت البلدية إلى إنشاء مقابر إضافية إلا أن الأمور خرجت عن السيطرة. الحال نفسه عرفته بلدية برّ الياس في البقاع الأوسط حيث ضاقت المقبرة بلاجئيها ما دفع باللاجئين إلى البحث عن مقابر في مناطق مجاورة.
وفي مطلق الأحوال بقيت الحلول فردية موقّتة تعتمد على المساعدات وسعة صدر أهالي المنطقة الذين يتبرعون أحياناً بقطعة أرض تصلح للدفن أو يساهمون في خفض تكاليفه.
نشر هذا الموضوع على الموقع في 16.04.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...