يمضي معظم الأشخاص حياتهم وهم يهربون من عيش "اللحظة الحالية"، فيشغلون أنفسهم في التخطيط المفرط للمستقبل، أو في التعلق بحبال الماضي مما يجعلهم في منأى عن عيش الحاضر واختبار لذة الحياة.
"كيف نقضي أيامنا هو بالطبع كيف نقضي حياتنا". هذا ما أوضحته "آني ديلارد" في كتابها The Writing Life"، مشيرةً إلى أننا بسبب هاجسنا في تعظيم إنتاجيتنا وتحسين إبداعاتنا الروتينية، ننسى حقاً كيف نكون في عمق الحياة.
تعتبر "آني" أن جدول الأعمال المكتظ يحمينا من الفوضى ومن النزوة، لكونه يعيد ترتيب حياتنا بطريقة عقلانية، مشبهةَ إياه بزورق نجاة "إنه سلام وملاذ يقع في حطام الزمن. إنه شبكة لصيد الأيام وسقالة يمكن للعامل أن يقف عليها ويلمس أجزاء من الزمن".
شغل موضوع "الانشغال المفرط" والجداول المكتظة المفكر الدانماركي "سورين كيركيغارد"، الذي حاول الإجابة عن السؤال التالي: كيف يشكل الهروب المستمر من حياتنا أكبر مصدر لتعاستنا؟
في العام 1843، تحدث "سورين" في كتابه Either/Or: A Fragment of Life عن ثقافة "الوقت المزدحم"، قائلاً: "من بين كل الأشياء السخيفة، يبدو أن أكثر أمر سخيف بالنسبة إلي هو أن أكون مشغولاً- أن أكون رجلاً مستعجلاً لدى تناول طعامه وإتمام عمله".
وفي الفصل الأخير، عنوانه "الرجل الأكثر تعاسة"، يعود "كيركيغارد" إلى نفس الموضوع إنما مع إعطاء المسألة بعدًاً أعمق: "إن الشخص غير السعيد هو الشخص الذي لديه مثال، محتوى حياة، جوهر وجود، بطريقة خارجة عن نفسه. فالإنسان التعيس هو الشخص الغائب دائماً عن نفسه، والذي لا يكون حاضراً لنفسه"، مشيراً إلى أن الهوس بتحقيق الأهداف المستقبلية والتلهي بأمور معينة، هما الطريقة التي يتبعها البعض لإلهاء نفسه عن الواقع.
via GIPHY
وبالتالي يبيّن أستاذ الفلسفة في جامعة بايلور "ستيفن إيفانز" أن الانشغال في نظر "كريكيغارد" ما هو إلا وسيلة لإلهاء النفس عن أسئلة وجودية مهمة مثل "من أنت؟ ما هي الحياة؟".
ولكن ما علاقة التعاسة بالموضوع؟
بحسب كريكيغارد"إن الأشخاص الذي يملؤون وقتهم ويجدون دوماً أشياء للقيام بها هم الأكثر تعاسةً، لكونهم يعيشون من دون مبدأ واضح "كل شيء مهم ولكن في الحقيقة لا شيء مهم".
via GIPHY
يرى الفيلسفوف الدانماركي أنه من دون الإجابة عن الأسئلة الوجودية والشائكة حول الحياة، ومن دون الالتحام بمبدأ موحد، لا يمكن للمرء أن يطور ذاته، من هنا يصف"سورين" أولئك الذين ليس لديهم هدف واضح في الحياة بـ"مزدوجي التفكير"، لافتاً إلى أن هذه العقلية تسبب الانشغال.
وعليه، فإن هاجس التفكير بالمستقبل والانهماك بأمور كثيرة، هما حِيل تلهي العقل عن التفكير باللحظة الآنية، مما يتسبب بعدم إدراك الهوية الخاصة، وهو أمر يوافق عليه "ستيفنز" بالقول:" إذا لم تكن لديك هوية خاصة، فإنك لا تريد أن تكون على دراية بذلك، بل تحاول دائماً أن تبقي نفسك مشغولاً".
الهروب من الحاضر
يتحدث "كريكيغارد" عن شكلين رئيسيين من الهروب من الوجود، سواء كان ذلك عن طريق الأمل أو الذكريات: فمن جهة هناك الشخص الذي لديه الأمل ويتطلع إلى المستقبل إنما يتخلى ضمنياً عن عيش اللحظة الحالية، فيكون بالتالي غائباً عن نفسه ليس فقط في الحاضر بل في المستقبل أيضاً ويختبر نوعاً من التعاسة. ومن جهة أخرى، هناك الشخص الذي يعيش في الماضي والمنغمس في ذكرياته، وبالتالي يعيش حالة من التعاسة لكونه يفقد متعة الحاضر.في حال اكتشفتم أن لديكم وقت فراغ هل تحاولون بشكل تلقائي أن تملؤوه بطرق معينة مثل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؟بمعنى آخر، إن التعلق بالمستقبل ودفن أنفسنا في الماضي هما وجهان لعملة واحدة: التعاسة التي تجعلنا غرباء حتى عن أنفسنا. أما أخطر ما في الموضوع بحسب "كريكيغارد" فهو قيام المرء بعيش تجارب "مزيّفة" وغير حقيقية، أي التعلق بذكريات لم تكن يوماً حقيقية أو الأمل في مستقبل لا يمكن تحقيقه، مما سيتسبب بخيبات أمل لا تنتهي.
دفن المشاعر
بعد انفصالكم عن الحبيب، أو فقدان أعز شخص على قلبكم، أو الوقوع في مأزق مالي... قد تجدون أنفسكم منهمكين لدرجة أنه ليس لديكم الوقت الكافي للتفكير بما حدث لكم. فبالرغم من أن مهماتكم كثيرة والتزاماتكم لا تنتهي، تقررون فجأة أن تضيفوا مهمة جديدة إلى جدول أعمالكم المزدحم، أما السبب فلا يعود بالضرورة لنشاطكم "المفرط" بل قد يكون مرتبطاً برغبة ضمنية في "دفن" المشاعر الحزينة التي تسبب لكم الألم. ولكن كيف تعرفون أنكم أصبحتم تتهربون من مشاكلكم من خلال إلهاء أنفسكم بنشاطات متعددة؟ via GIPHY لمعرفة الجواب، تقترح عالمة النفس "أندريا بونيور" طرح هذه الأسئلة على أنفسكم:" هل تشعرون أن انشغالكم هو بمثابة هروب من شيء ما (مقابل الجري نحوه)؟ هل تشعرون بالقلق أو بعدم الراحة عندما لا يكون لديكم أي مهمة لتقوموا بها؟ في حال اكتشفتم أن لديكم وقت فراغ هل تحاولون بشكل تلقائي أن تملؤوه بطرق معينة مثل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؟ تعتبر "كلوديو زانيت"، متخصصة في العلاقات العائلية والزوجية، أن أحد أهم الطرق التي يتبعها المرء لتجنب المشاعر، هو إجهاد نفسه وإبقاء نفسه مشغولاً طوال الوقت: الانغماس في العمل، نقل المهمات الوظيفية إلى البيت... وبالتالي فإن الانشغال في العمل يصرف نظر البعض عن عيش الحزن، الذي يعدّ أمراً حيوياً للمضي قدماً في الحياة. via GIPHY توضح "زانيت" أنه بالنسبة إلى الأشخاص الذين يبقون أنفسهم مشغولين بشكل دائم، فإنهم "أدرجوا ذلك في بنية دفاعهم كأداة لحماية أنفسهم من المشاعر الصعبة"، مشيرةً إلى أن هذه الإستراتيجية قد تساعدهم على التغلب على المشاكل والتعامل معها لسنوات إلا أنها توقعهم أيضاً في دوامة القلق والاكتئاب. واللافت أن السعادة بدورها قد تتحول لدى بعض الأفراد إلى شعور مؤلم، إذ يعيش هؤلاء قلقاً وخوفاً من حدوث الأسوأ على اعتبار أن هذه اللحظات الجميلة لن تدوم، ويطلقون العنان للأفكار السلبية.حسن التعامل مع المشاعر
في حال كنتم من المتشائمين والسوداويين، ينصحكم موقع "سيك سنترال" بعدم إرهاق أنفسكم بالمشاعر وإتباع الخطوات التالية: -اِفصحوا عن شعوركم من خلال تدوين الأمور والأحاسيس التي تشعرون بها. -اِعطوا أنفسكم الوقت الكافي لاختبار الشعور، وحددوا هذا الوقت بشكل يجعلكم تذكرون أنفسكم بأنه عليكم عدم التفكير في الأمر خارج هذا الوقت. -تحدثوا عما تشعرون به لشخص جدير بالثقة وداعم لكم. -ترجموا مشاعركم عبر الرسم. -لا تترددوا في الذهاب إلى معالج نفسي، لكون هذه الطريقة هي الأفضل لتعلم كيفية معالجة المشاعر الصعبة. وينصحكم الموقع بالتعامل بهدوء وروية مع مشاعركم، إذ كلما قمتم بمعالجتها بحنكة، أصبح الأمر أكثر طبيعياً، فعواطفنا هي بمثابة أساتذنا ونحن مدينون لأنفسنا من أجل تكريمها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...