حاولنا الدخول إلى التلفزيون لمصافحة الممثلين، واستغربنا كيف ولجوا إليه رغم حجمهم الكبير، ومنا من حاول اختراق الكاسيت ليشاهد شكل المطربين، وطلب بعضنا من أمه أن تأخذه إلى المكان الذي تبيت فيه الشمس، والآخر صعد فوق سطح المنزل ليحدد: هل يأتي القمر من ناحية منزل العم "فلان" في نهاية القرية، أم من ناحية وابور المياه؟
منا من حاول استكتشاف المكان الذي يبيت فيه مازنجر، أو حاول تسديد الضربة "السريعة" تيمناً بكابتن ماجد، فرد عليه آخر بتسديد ضربة "النمر" تقليداً لبسام، فتقمص ثالث شخصية "رعد" أو "وليد"، لصد تلك الكرة ومنعها من دخول المرمى.
يا لها من أحاسيس لذيذة، نفتقدها كلما فهمنا، وكبرنا؛ فإدراكاتنا قد تمرض خيالنا، وتجهض أحلامنا، وتقتل الرومانسية لدى الكثيرين منا.
حكايات وخيال
حين ذهبتُ إلى المصيف في الإسكندرية لأول مرة، تركت والدي وأمي على البلاج، وحاولت الغطس بحثاً عن "نيري" وحوتِها، ولكني وجدت أنني لا أزال على الشاطئ، بعيدة عن الجزيرة التي تعيش عليها فتاة المحيط. وقتها كنت أظن أن جزيرة ميامي التي يستطيع أي مُصطاف رؤيتها من على الشاطئ، هي التي تسكنها "فتاة المحيط"، فقلت: ها هي جزيرة نيري، ولكني فوجئت بذراعي والدي تحيطان بي في لهفة وغضب: "ازاي تسيبينا وتنزلي البحر لوحدك!" تحكي لنا أماني السيد (30 عاماً) عن محاولتها استكشاف مكان نيري، بطلة مسلسل " Ocean Girl- فتاة المحيط"، الذي كان يذاع في منتصف التسعينيات، ويحكي قصة فتاة تعيش في جزيرة، ولديها القدرة على الغوص والسباحة لمسافات طويلة، لتلتقي بالحوت صديقها. الأمر كان مختلفاً مع جورج سمعان (34 عاماً)، الذي كان يعلم أن مازنجر مجرد كارتون، ولكنه آمن باستطاعته تقليده، وإطلاق صواريخ من بطنه، وأشعة بنفسجية من صدره، ورياح عاصفة من رقبته. فكر جورج في ارتداء درع حديدية، وثقبها من أمام بطنه، ووضع بنزيناً وراءه، ليطلق نيرانه على الأعداء. وتسبب الأمر في "علقة ساخنة" له من والدته، بعد أن رأته يحاول شفط بنزين من سيارتها. أما سارة هشام (40 عاماً) فكان الخيال في قريتها ساحراً، وتحكي أنها كانت تدخل سباقات عدة مع القمر، فكانت تجري دائماًً على أمل أن تسبقه، ولكنه كان يبهرها بسرعته، حتى أنها سافرت مع الأسرة إلى القاهرة بسيارة والدها، وحين وصلت عند أقاربها وجدت القمر في انتظارها هناك، حينذاك علمت أن هذا القمر كائن خارق يستطيع الجري أسرع من السيارة، وأنه بالتأكيد يريد أن يغيظها، ولكن والدتها أخبرتها بأنه يحبها، ولا يستطيع العيش بدونها، ولذلك يلاحقها في أي مكان تذهب إليه. محمد سامي (36 عاماً) كان خياله أقرب إلى الواقع بقليل، فيحكي أنه كان متأثراً بأفلام الحركة للنجم الهندي أميتاب بتشان، وكان التلفزيون حين يعرض أحد أفلامه (عادةً في أيام عيد الأضحى أو الفطر في بدايات التسعينيات) يذهب محمد في اليوم التالي إلى المدرسة، ويتعامل مع زملائه كأميتاب بتشان، وكانت الخسائر في صفوفهم تؤدي به إلى "علقة ساخنة" من ناظر المدرسة، بحسب ما حكى لنا. ولم ينافس النجم الهندي لدى محمد إلا الفنان فريد شوقي، خاصة في دور عنترة بن شداد، رغم صعوبة الحصول على سيوف وأقواس ورماح، ولكن أغصان الأشجار كانت تحل المشكلة. ولم تكن تتوقف الحرب إلا بدق أجراس طابور الصباح، لتُستأنَف في الفُسحة (break)، وقد تستمر الحرب لأيام بين فريقين من الزملاء. https://youtu.be/numxVDUv26I?t=7687من أين ينبع خيال الأطفال؟
التخيل نشاط أصيل لعقل الطفل يبدأه مع مستهل وظيفة الكلام، ويتحول بالتدريج إلى خيال إبداعي يتميز بانتماءات جديدة، وطريقة ملائمة للواقع، ومتوافقة معه في نفس الوقت، ويبلغ ذروته عند سن السابعة أو الثامنة، بحسب ما ذكرت الدكتورة عفاف أحمد عويس، أستاذة علم النفس وثقافة الطفل بكلية رياض الأطفال بجامعة القاهرة، في كتابها "خيال الطفل المصري: دراسة في تحليل مضمون 365 قصة، من خيال الأطفال سن 4-8 سنوات". تقول عويس إن الخيال ينمو في مرحلة الطفولة المبكرة بزيادة مُطردة، ويهبط في حوالي العاشرة، إذ ينساق الطفل في هذه السن لمعايير الجماعة "الأصدقاء والأقران"، وتضع هذه المرحلة نهاية للإبداع عند معظم الأطفال، وعدد قليل منهم فقط يستطيع أن ينسحب أو يبتعد عن ضغط الجماعة، ومن ثم العودة إلى الإبداع بعد مرور هذه المرحلة. ويختلف خيال الطفل باختلاف بيئته، فنمو وظائفه النفسية من لغة وخيال ومعارف، يحتاج إلى استثارات بيئية، بالإضافة إلى السياق الذي يمارس فيه الطفل نشاطه. وهناك فروق بين أنشطة الأطفال التخيلية، باختلاف ثقافاتهم النابعة عن بيئاتهم، بل هناك اختلافات بين الأطفال داخل الثقافة الواحدة، والتي ترجع إلى ما يسمى بالثقافات الفرعية، بحسب ما نقلت عويس عن فيوليت فؤاد في بحثها عن العوامل المؤثرة في نمو الوظائف النفسية للطفل. ولكن ما أثبتته دراسة عويس، التي رأته يتفق مع دراسات سابقة، يؤكد أن خيال الطفل "خاصة القصصي" في عمر 4-8 سنوات، لا يكاد يتأثر بالعمر أو الجنس أو مستوى تعليم الوالدين، بقدر ما يتأثر بالظروف التي تتيح له فرص اللعب التلقائي الحر بمشاركة الوالدين. وليست هذه الظروف بالضرورة، هي ظروف المجتمعات والأسر التي تتمتع بمستوى اقتصادي اجتماعي مرتفع، بل هي ظروف تتعلق بمقدار الحريات التي يمنحها مجتمع ما، أو أسرة ما، للأطفال لينطلق إبداعهم.بين الصدمة والسخرية: ماذا يحدث حين ندرك؟
تساءل الشاعر المصري سيد حجاب في تتر مسلسل "ليالي الحلمية": "ومنين بييجي الشجن؟" ورد على نفسه، قائلاً: "من اختلاف الزمن"، ثم سأل لائماً: "ليه يا زمن ماسبتناش أبرياء؟". الزمن يغير قناعاتنا ونظرتنا البريئة للأمور، وحين نتذكر قناعاتنا وخيالاتنا حين كنا أطفالاً، ينتابنا الشجن، وقد نسخر من واقعنا المادي، أو نتحسّر على ماضينا الحالم، أو العكس. فكيف يحدث ذلك؟ الحياة عبارة عن صدمات معرفية متدرجة، فما كنا نتخيله ونحن صغار لا يتغير فجأة ويصبح شيئاً آخر، وإنما نمر بمراحل حتى نصل إلى قناعاتنا الناضجة، هذه المراحل أوردها عالم النفس وصاحب نظرية التطور المعرفي، السويسري جان بياجيه، في كتابيه "لغة وأفكار الطفل - Language and Thoughts of the child"، و"حُكم وتفكير الطفل - Judgement and Reasoning of the Child". فحين نتلقى شيئاً مغايراً لما نعتقده نمر بمرحلتين، أولاها التمثل والاستيعاب بأن هناك جديداً فيما يخص ماهية هذا الشيء، فرضته البيئة المحيطة بنا، تليها المواءمة مع الغير في تعاملهم مع هذا الشيء الجديد بالنسبة لنا كأطفال. هذه المرحلة تشهد صداماً بين القديم والجديد بداخلنا، ثم تبدأ نفوسنا في إحداث توازن بين الاستيعاب الجديد وبين تلاؤمنا معه، ثم تنتظم هذه الأفكار والمشاعر داخل عقولنا، لنبني تراكيب معرفية خاصة بها، توضح أن الشمس ليس لها بيت، وأن القمر لا يمشي معنا. بعد هذا التنظيم تأتي مرحلة حفظ تلك المعلومات في العقل، على شكلها النهائي، الذي قد تطرأ عليه تغيرات، ولكن يبقى قوامه الأساسي ثابتاً.هل هناك علاقة بين الوعي والتعاسة؟
"زمان وأنا صغير كنت باحلم أبقى كبير.. تعب القلب واتحير من الدنيا ومن المشاوير.. الحلم كان بريء مفروش بالورود.. والقلب كان جريء مليان بالوعود.. ولما كبرت قلت ياريت ما كنت حلمت ولا اتمنيت.. قلت ياريتني فضلت صغير، زي زمان". هكذا غنى هشام عباس معبّرًا عن شخص أصيب بالتعاسة حين كبر ووعي، وترك ماضيه الحالم البريء. الوعي بشيء جديد، أو المفارقة التي تتجسد في الذهن نتيجة مقارنة معرفة أو عواطف قديمة بمعرفة أو عواطف جديدة، قد يسبب التعاسة. يرى المعلم الروحي الألماني إيكهارت تول في كتابه "أرض جديدة"، أن عدم الاتساق مع اللحظة الراهنة، والذي يصحبه نكران أو استنكار لواقعنا، وإدراك بأن تلك اللحظة الراهنة هي الحقيقة الحتمية، يشعرنا بالتعاسة. حين تسيطر علينا الذكريات التي شكلت أفكارنا عن الماضي، تتحول تلك الذكريات إلى عبء ومشكلة، إذ تصبح جزءاً من إحساسنا بذاتنا، وعندئذ تصبح شخصيتنا المشروطة بالماضي هي سجننا الخاص. تلك الذاكرة ليست عقلية فقط، وإنما عاطفية أيضاً، وهي قديمة وتتجدد باستمرار. معظم الناس يحملون قدراً كبيراً من العواطف والأفكار غير الضرورية، على امتداد حياتهم. يحدّون أنفسهم بالحزن والندم والعدوانية والإحساس بالذنب. التفكير العاطفي أصبح ذاتهم، ويتشبثون بالعاطفة القديمة لأنها تقوّي هويتهم. وبسبب النزوع الإنساني إلى تأييد الذكريات القديمة، يحمل كل شخص "تقريباً" في حقل طاقته تراكماً لألم عاطفي قديم، يسمى "كتلة الألم"، يقول إيكهارت. ويوصي إيكهارت بتجاوز هذا التفكير الماضوي، والاستغراق في الحاضر والمستقبل بأحلامه ومشروعاته المتجددة، لأن هذه هي الحياة التي يصح أن نحبها ونعيشها بابتهاج.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...