تُعتبر الدبكة من أهم الفنون التراثية في التاريخ الفلسطيني. قبل الاحتلال، كانت تحضر في الاحتفالات من أعراس وأعياد. أما بعده، فقد باتت وسيلة الفلسطينيين للحفاظ على هويتهم وثقافتهم وأحد أهم أشكال النضال والمقاومة ضد إسرائيل.
والدبكة هي رقصة فلكلورية، تُمارَس من خلال حركات ضرب الأرجل على الأرض، وتتكون الفرقة التي تؤديها من مجموعة "دبّيكة" وعازف اليرغول (ناي ذي أنبوبتين) أو الشبابة أو الطبل.
ويقول وزير الثقافة الفلسطيني السابق حسن عصفور لرصيف22 إن "الدبكة فن يحتوي على الكثير من الحرارة، ويعطي إحساساً ببعد مختلف لحب الوطن والنضال من أجل حريته، باستخدام كلمات بسيطة، وهذا يتشكل في وجدان الناس، ويغذّي استمرارية العلاقة الوطنية مع الوطن وماضيه".
هناك عدة أنواع من "الدبكة"، كما يشرح عضو اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين فائق عوكل، أشهرها "الدلعونا" وهي ذات إيقاع متوسط وصارت تُغنّى بأغانٍ كلماتها جديدة لكنها تسير على نفس الإيقاع القديم، و"دبكة الشعراوية" ذات الإيقاع السريع وتؤدّى عبر شبك الأيدي وتُدبك على أنغام اليرغول.
أيضاً هناك "الكرادية" التي تتميز بالإيقاع السريع وتحتاج إلى لياقة بدنية عالية لأنها تتضمّن حركات سريعة ومتجانسة، و"ظريف الطول" التي يطغى عليها المديح والبحث عن مناقب البشر، بالإضافة إلى دبكة "الدحية" التي توصَف بالبدوية وكلمات أغانيها صعبة الفهم على البعض.
"الفن مقاومة"
إحدى أشهر الفرق الفلسطينية التي تُبدع في فن الدبكة هي فرقة "الفالوجا" التي تأسست عام 1983، وتحمل شعار "الفن مقاومة". [caption id="attachment_145871" align="alignnone" width="1000"] فرقة "الفالوجا"[/caption] يقول خالد أبو الفحم، المسؤول في الفرقة التي تنظم عروضاً في فلسطين ودول عربية أخرى لرصيف22: "نحن نحمل قضية مهمة، دورنا الحفاظ على التراث الفلسطيني في مواجهة إسرائيل التي تحاول طمس هويتنا". ويضيف: "مقاومتنا ليست بالسلاح لكنها بالكلمة... سنُظهر التراث الفلسطيني في كل مكان لنصرة قضيتنا". تناسلت الدبكة من الطقوس الدينية التي كانت تُمارَس في الأزمنة القديمة، في زمن الكنعانيين، بهدف طرد الأرواح الشريرة من تربة الأرض ومن البيوت، ثم تحوّلت إلى فنّ يؤدى في المناسبات السعيدة. ولكن مع الفلسطينيين، حملت الدبكة بعداً خاصاً بهم، بحسب عوكل، إذ صارت "الخبطة الراسخة على الأرض، والقدم التي تدبّ لتؤكد ملكيتها". صارت الأغاني التي كانت تتحدث عن المنجل تتحدث عن البندقية، وصار الغناء عن الأرض غناءً عن الخندق، و"بالتالي أصبح هذا الفن داعماً كبيراً للثورة الفلسطينية"، بحسب عوكل. [caption id="attachment_145874" align="alignnone" width="1000"] فرقة "الفالوجا"[/caption] وكانت النساء يغنين "جذوا لحبيبي مرسال"، فصارت تغنّي "جذوا لأبو عمار طيارة حربية" وفي أغنية أخرى تحوّلت جملة "رزعنا المرامية ع باب الدار.. فلسطين يا أهل الفرح بترحب كل الزوار"، إلى "فلسطين بتنادي هي الثوار".الدبكة والنضال الفلسطيني... "طالما أنّ الفلسطينيين خارج الوطن يحافظون على الدبكة والزي الفلسطيني وتناول الطعام الفلسطيني فهذا نوع من المقاومة"
الدبكة الفلسطينية... "فن يعطي إحساساً ببعد مختلف لحب الوطن والنضال من أجل حريته، ويغذّي استمرارية العلاقة الوطنية مع الوطن وماضيه"ويقول عوكل: "تبدّلت الأغنيات من الطقوس الدينية والمناسباتية المعتادة إلى غناء ثوري وأهازيج ثورية تدعم الكفاح بالروح والنفس إلى جانب الكفاح المسلح، خاصةً أن الدعم الجماهيري كان يتحرك من خلال هذه الأهازيج". [caption id="attachment_145873" align="alignnone" width="1000"] فرقة "الفالوجا"[/caption]
"العاشقين" والكلاشينكوف
يحدد عوكل أشهر الفرق الفنية الشعبية في مختلف المناطق الفلسطينية، بالفرقة العصرية للفلكلور الشعبي في غزة، وسرية رام الله في الضفة الغربية، وفرقة الأصايل في أراضي 48. ويتذكّر عصفور فرقة العاشقين التي تأسست في سبعينيات القرن الماضي ويقول: "قدمت أناشيد هامة جداً تعمل على التعبئة من أجل نصرة قضية الوطن"، ويضيف: "عندما يكون لديك حدث مهم فإنّ أفضل سلاح للتعبئة هو الفن، سياسياً وفكرياً". ويرى الخبير في التاريخ الفلسطيني بركات الفرا أنّ هذه الفرق الفنية تساهم في بث الروح الوطنية في مواجهة الاحتلال، ذاكراً أن "دبكة الكلاشينكوف" التي يدبكها راقصون يحملون هذا السلاح هي الأكثر تأثيراً بجانب أعمال فرقة العاشقين. ويقول لرصيف22: "هذه الفرق تؤكد على عروبة فلسطين وعلى الانتماء إلى الوطن والثورة والشرعية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، وتؤكد للعالم أنّ الشعب الفلسطيني مثل شعوب الأرض له تراث وحضارة". [caption id="attachment_145875" align="alignnone" width="1000"] فرقة "الفالوجا"[/caption] الجانب النضالي في عروض "الدبكة" يتجلى كثيراً في مسيرات العودة، فأبناء القرى الواقعة على الحدود يقيمون الخيم وينظمون حلقات "دبكة"، ليوصلوا رسالة مفادها أنّهم لم ينسوا أرضهم. ويقول عصفور: "الدبكة تمثل سلاحاً قوياً للغاية في مقاومة التهويد أكثر من مواجهة الاحتلال بالسلاح، وهي سلاح من أسلحة الثورة الفلسطينية. الفن الشعبي لا يقتصر على كلمات، فخروج الدبيكة بالزي الفلسطيني تعبير عن تاريخ وثقافة وهوية، وعن مواجهة التهويد الطارئ على الأرض". [caption id="attachment_145876" align="alignnone" width="1000"] فرقة حنظلة[/caption] وفي رسالة عبر موقع فيسبوك، قال المشرف على صفحة فرقة "أغاني العاشقين": "نحن نرفع شعار الفن من أجل فلسطين، ولن تنجح محاولات إسرائيل في تهويد ثقافتنا وهويتنا العربية... فلسطين دائماً منتصرة". [caption id="attachment_145881" align="alignnone" width="1000"] فرقة "أغاني العاشقين"[/caption]بين تراث وطن وادعاءات محتل
أمام الدور الكبير الذي يلعبه الفن الشعبي الفلسطيني في ما يتعلق بالمقاومة الثقافية، حاولت إسرائيل مصادرته، كما تفعل إزاء أطباق الحمّص والفلافل. ويقول عوكل: "حاولت إسرائيل تزوير هذا الفن بإدعاء أنّه فن صهيوني، لذلك غنّت الألحان الفلسطينية مثل يا مريوما سيدك روما باللغة العبرية بنفس اللحن الفلسطيني، وهي تشارك في مهرجانات دولية بالدبكة الشعبية". ولكنّه يشدّد على أنّ محاولات إسرائيل على هذا الصعيد لن تنجح، "لأن هذا الفن موجود في وجدان الناس وبيئتهم". ويضيف أن "مساحة فلسطين ضيقة جداً لكن تنوّع الفنون من قرية إلى قرية يجعلها تختلف بشكل كبير، فنجد لهجة الأغنية تختلف بين قرية وأخرى لا تبعد عنها أكثر من حوالي نصف كيلومتر، وتنوّع البشر واختلافهم يصبّ في صالح فلسطينية الأرض ولهوية والتاريخ". ويؤكد رئيس مركز الدراسات الإسرائيلية الدكتور خالد سعيد أن "الفلسطينيين يستخدمون الدبكة داخل وخارج الوطن باعتبارها أحد أشكال الهوية، والحفاظ على التراث هو أحد أشكال المقاومة". ويضيف لرصيف22: "طالما أنّ الفلسطينيين خارج الوطن يحافظون على الدبكة والزي الفلسطيني وتناول الطعام الفلسطيني فهذا نوع من المقاومة".الدبكة والسلطة
لأن "الفن هو الذي يشحذ الهمم وهو ما يأتي بالناس إلى صفوف الثورة، والأناشيد هي التي دعت الناس لدخول الثورة"، كما يرى عوكل، فإن منظمة التحرير الفلسطينية دعمت فن الدبكة، والفنون الأخرى، بشكل كبير. ويقول عوكل إن المنظمة دعمت فرقة الفلوجة وفرقة القدس للثقافة والفنون وفرقة العاشقين وفرقة العائدون، "وكان المتاح للمنظمة هو الشتات في مخيمات اللجوء، ولما عادت السلطة إلى قطاع غزة والضفة الغربية لعبت المنظمة دوراً كبيراً في دعم الفرق المحلية من خلال إنشاء مؤسسات مدنية داعمة للفنون". ويضيف عوكل وهو أحد قيادات حركة فتح: "إذا كنا في المرحلة الحالية لا نستطيع حمل السلاح المتكافئ مع القوة الإسرائيلية فإنّ السلاح المتاح هو الفن". كما يشير بركات الفرا إلى أن فرق الدبكة لاقت "كل رعاية من وزارة الثقافة الفلسطينية". في المقابل، يرى خالد سعيد أن "السلطة تؤيد مثل هذه الفنون باعتبارها أحد أشكال التراث الفلسطيني، لكنها ترى فيها أقصى أمانيها في المقاومة". وبرأيه، فإن "النضال يقوم على حمل السلاح في ناحية والحفاظ على التراث في الناحية الأخرى لكن السلطة الفلسطينية ممثلة في حركة فتح لا تعتمد على حمل السلاح، وهذا الفن هو المقاومة الثقافية". إلا أن عصفور يعتبر أن دعم السلطة الحالية لفرق الدبكة أقل مما كان عليه في الماضي، ويقول: "قديماً، كان الدعم أكبر بكثير. كانت هناك فرق فنية فلسطينية خلال فترة الثورة، أغانيها تملأ الإعلام الرسمي للدولة. لكن الآن لا يوجد ذلك، فهذا الفن الشعبي ممنوع عرضه لدى إعلام سلطة أبو مازن". يفسر عصفور هذا التراجع بأن "السلطة تعتبر هذا الفن تحريضاً ضد إسرائيل، والسلطة منسجمة مع نفسها، وأولوياتها ألا تضايق إسرائيل حتى لو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني، لأن غضب إسرائيل مُتعِب".جدلية الاختلاط بين الجنسين
تضم بعض الفرقة الفنية شباباً وشابات يؤدون فنونهم بعضهم بجانب بعض. هذه الجزئية، أي جزئية الاختلاط بين الجنسين، ولّدت جدلاً طويلاً في أوساط الفصائل الإسلامية لا سيّما حركتي حماس والجهاد اللتان اشتهرتا أكثر بتطوير الإنشاد الديني وحقّقا فيه نجاحاً كبيراً. ويقول عوكل: "في السابق، كان التيار الإسلامي يرفض الموسيقى من باب التحريم، لكنّه وجد في ما بعد أن هذا الفن مطلوب. حماس نفسها أصبحت تلعب الدبكة. وفي الأصل الدبكة للرجال، والنساء لهن الأهازيج المميزة. لكن التطور في الفنون يحتاج إلى أن يكون هناك عنصر نسائي". ويتابع: "الشعب الفلسطيني سواء الحمساوي أو الفتحاوي أو الجبهاوي يؤدي الدبكة في الأفراح ولا يتحاشاها أحد، وهذا يكون للرجال فقط. لكن وجود العنصر النسائي في الفرق الفنية صار مطلوباً، والفصائل الإسلامية تعتبر أنّه، طالما أنّ الرجال في الفرق لن يستطيعوا تقديم هذا العمل لوحدهم، فبالغنى عنه". ويؤكد عصفور أن هذا "التشدد" في قبول عضوية المرأة في الفرق الفنية لم يكن سائداً في السابق، وتحديداً خلال فترة الثورة الفلسطينية، ويقول: "لم تكن هناك أزمة في الاختلاط بين الجنسين في العروض الفنية، لكن ظهر بعد ذلك بعض الإسلامويين الذين يرفضونها، ورصدنا ذلك في بعض الأوقات لدى حركتي حماس والجهاد".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...