شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كيف تحوّلت تونس إلى

كيف تحوّلت تونس إلى "المصدّر" الأول للجهاديين في العالم؟ (تحقيق مطوّل - جزء 2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 31 مايو 201705:44 م
نسخة مترجمة عن التحقيق المطول الذي نشر في صحيفة The New Yorker تحت عنوان: Exporting Jihad، لـGeorge Packer. يمكن الاطلاع على الجزء الأول من الموضوع على هذا الرابط.   في أغسطس 2013، بدت الأمور في تونس متجهة نحو حرب أهلية، فامتلأت الشوارع بالمعارضين للنهضة، الداعين إلى تدخل الجيش، كما دخل الاقتصاد في مرحلة ركود. أدى التدخل العسكري والاحتجاجات الشعبية في مصر إلى إنهاء حكم زعيم الإخوان المسلمين محمد مرسي في مأساةٍ دموية، وبدت تونس كأنها في طريقها لخوض التجربة نفسها. حذّر الغنوشي مرسي من مشاركة الحكم مع العلمانيين، قائلًا: "لم يستمع مرسي للنصيحة وهو الآن موقوف". في 3 أغسطس شارك الغنوشي في تظاهرةٍ غاضبة إلى جانب نشطاء النهضة، ودعاهم إلى العمل لتحقيق الوحدة الوطنية، وختم أن النهضة ستنجح في تونس إن بقيت البلاد آمنة، ولتحقيق ذلك على المدى الطويل، على النهضة التخلي عن القوة على المدى القصير. كان للغنوشي خصمٌ قوي، هو عميد علمانيي تونس، ابن الـ86 عاماً، الباجي قائد السبسي الذي شغل منصب وزير الداخلية في عهد بورقيبة، ومناصب عدّة في فترة بن علي، ورئيس الوزراء المؤقت بعد الثورة. عقب انتصار النهضة في انتخابات أكتوبر 2011  ألّف السبسي جبهة معارضة تدعى نداء تونس، التي مثلت اليساريين ورجال الأعمال والنقابيين، الذين جمعهم كرههم للإسلاميين. وكما يفسر روبرت وارث في كتابه "غضب من أجل النظام: الشرق الأوسط في فوضى من ساحة التحرير إلى داعش" A Rage for Order: The Middle East in Turmoil, from Tahrir Square to ISIS,، فإن السبسبي، وهو واحد من النخبة المتعجرفة الموالية لفرنسا من جهة، والغنوشي ابن مزارع متدين من المحافظات من جهة أخرى، أجريا سلسلة من المحادثات السرية ووضعا تونس على طريقٍ جديد. وفي يناير 2014 قامت النهضة طوعياً بالتنحي عن الحكم لمصلحة نظام تكنوقراط. وبذلك فضل الغنوشي مصالح حزبه الطويلة الأمد على الحكم في تلك المرحلة. لم تحصل مساواة سلمية كهذه في المنطقة من قبل. وُجب عليهما مخاطبة مؤيديهما ودعوتهم إلى تجنب الصدام، لكن بعض مؤيدي النهضة اعتبروا استراتيجية الغنوشي خيانة لهم. تونس كانت محظوظة بقيادتها العجوز. في أواخر العام 2014 فاز نداء تونس بالأكثرية في الانتخابات البرلمانية، وانتخب السبسي رئيساً للجمهورية. وصوّت الغنوشي لخصمه وصديقه الجديد كما دخلت النهضة في حكومة ائتلافية كشريكٍ لنداء تونس. لم تعطِ المصالحة على مستوى القيادات الشعب التونسي، خصوصاً الشبان الإحساس بملكية ديمقراطيتهم الجديدة، فبالنسبة إليهم لا تزال السياسة لعبة غامضة يلعبها بعضهم. اندلعت حربٌ بين الفصائل التونسية للإيقاع بنجل السبسي، الذي وضع نداء تونس في مواجهة أمينها العام محسن مرزوق. كان من المخطط أن التقي مرزوق في مكاتب نداء تونس، ولكن في الدقائق الأخيرة تغير المكان، وأقلني معاونوه إلى فيلا في حي راق. ترك مرزوق نداء تونس، وخطط لتأسيس حزب جديد، ووصف الخلاف مع نداء تونس بالصراع بين الديمقراطية والنهج المافياوي. بدا نداء تونس لغالبية التونسيين النسخة الجديدة عن النظام القديم، برجال السياسة ورجال الأعمال والممارسات البوليسية القديمة نفسها. أمّا وزارة الداخلية، فما هي إلا بناءٌ قبيح من 7 طواق بشرفات مليئة بأطباق الأقمار الاصطناعية، وبأسلاك شائكة تقطع الطريق إليها وسط العاصمة التونسية. توظف الوزارة 8000 تونسي، لكن هناك شائعات عن إعادة تشكيل جهاز الأمن التونسي بمساعدة على الصعيدين المالي والتأهيلي. قامت الولايات المتحدة، بمضاعفة دعمها لتونس، لكن العادات القديمة لجهاز الأمن لا تزال على حالها، ففي فترة وجودي في تونس، وضعت تحت المراقبة، كما تعرض مترجمي للتحقيق أكثر من مرّة في الشارع. وفي فترة ما بعد الظهيرة، وقفت على شرفة مبنى قديم في وسط العاصمة بجانب أنس عبد الكريم رئيسة جمعية "البوصلة". أشارت إلى مبنى وزارة الداخلية وقالت: "كان عليهم تحويله إلى متحف لكنهم لا يزالون يستعملونه". تراقب جمعية البوصلة النشاط في مجلس النواب، واستناداً إلى موقعها الالكتروني، تحاول دعم أفضل الممارسات الحكومية والأخلاق السياسية. قالت عبد الكريم: "نطلق على الشخص الذي يملك القوة في اللغة العربية صفة الحاكم، سواءً كان رئيس الجمهورية أو رجل شرطة. وهذا ما يظهر موقف المواطن من الدولة، فهو لا يعتبر الدولة موجودة لخدمته بل للاستفادة منه، ما يؤدي إلى انهيار كامل لمفهوم المواطنة. أتت عبد الكريم على ذكر النقاش الذي أجراه ناشطو البوصلة مؤخراً مع السكان وانتخبوا ممثلين عن قريةٍ بالقرب من جبال الشعانبي. لم يرَ سكان تلك المنطقة أي مسؤول من قبل، ولم يكن في المنطقة مستشفى واحد. تقول أنس: "لم يشعروا بالانتماء إلى تونس وتساءلوا ما الذي قدمته لهم الثورة والنواب؟". تخطط البوصلة لتوظيف منسق ليعمل مع 264 بلدية. يصل أعمار موظفي الجمعية إلى 27 عاماً، أما مكاتبها، فكانت المكان الوحيد في تونس الذي شعرت به بالأمل والثورة. أعربت عبد الكريم عن سعادتها لرؤية النواب التونسيين يناقشون التشريعات تحت قبة البرلمان، عوضاً عن القتال في الشوارع. تضيف: "كل من يعمل هنا لا يزال يؤمن. ليس لدينا الحق في خسارة الأمل، فإذا حصل ذلك فما الذي سيقوله الآخرون؟ نحن الدليل على أن شيئاً ما تغير. لم يتغير أي شيء في تونس، لكن البلاد تمتلك اليوم الفرصة للتغيير. لدينا فرصة للقول كبلدان عربية ومسلمة إننا لسنا مجبرين على الاختيار بين الديكتاتورية والعنف". في الصباح التالي قدت سيارتي نحو 4 ساعات باتجاه القصرين، التي تقع على كعب جبال الشعانبي الصخرية. يبدو المنظر على طول الطريق السريع كمنطقةٍ نائية، فعلى طول أميال، لا يوجد شيء سوى بساتين زيتون ونقاط عسكرية. عام 1943 كانت القصرين موقع المواجهة الأولى بين الجيش الأميركي وفرقة روميل المؤلفة من الدبابات. لم يعلم أحدٌ من أولئك الذين التقيتهم عن التاريخ العسكري للمنطقة. شكا السكان المحليون من الضجيج الدائم، الذي يصدر عن المروحيات في النهار، والقصف في الليل. وقبل فترةٍ وجيزة سبقت زيارتي، قطع رأس راع في الجبال اشتبه أنه يسرّب معلومات لرجال الشرطة. كان سكان منطقة القصرين المهمشون من قبل الدولة، شغوفين في الدفاع عن حقوقهم. فقد لعبوا دوراً مهماً في إسقاط النظام الديكتاتوري، حين بدأوا الاعتصامات عقب حادثة البوعزيزي. ومع أن القصرين مصدر تجنيد للجهاديين، إلا أن مناطق تونس الغنية نائية لدرجة أنها لم تكن بتلك الأهمية التي كانت عليها دوار هيشر وبن قردان. التقيت بطارق خضراوي، وهو رجل أربعيني، في أحد المقاهي، وقال: "قبل ثورة الياسمين اعتقدت أن الشعب التونسي شعب ذكي ومتحضّر، لكنني أرى الآن أنه لدينا الكثير من العنف في داخلنا والكثير من الفساد في نظامنا. بدونا متحضرين ولكن الأمر كان سراباً. لقد كانت الثورة إيجابية لأنها كشفت المستور، وأعطتني فكرة واضحة عن طريقة التشخيص. نكتشف الآن مهارات جديدة وأشخاصاً جدداً يستطيعون قيادة البلاد نحو التطور". انضم إلينا شابان أحدهما شكري سلوغي، وهو موظف حكومي. يقول سلوغي: "لم يتغير شيء. فتحت المساحات للحوار والانتقاد، لكن لم يتغير شيء في المجتمع أو في الاقتصاد". ذكر الخضراوي أن الضغط الشعبي أجبر أعضاء البرلمان على مراجعة التشريعات المثيرة للجدل، التي في حال تمت المصادقة عليها، ستضمن العفو للمسؤولين ورجال الأعمال، المتهمين بالفساد في ظل حكم بن علي. أما الشاب الثاني، فهو حمزة هيزي خريج كلية إدارة الأعمال وعاطل عن العمل، لكنه يؤمن معيشته عن طريق الدروس الخصوصية وبعض الأعمال التجارية البسيطة. يقول هيزي: "الأمر لن يحصل". فيجيبه الخضراوي: "لا بل سيحصل فكل حركةٍ تبدأ صغيرة". يجيب سلوغي: "كان هناك ثورة في تونس والقصرين وتعرضت للسرقة من قبل أحزاب سياسية لا تعلم ما الذي تفعله، أولها النهضة ومن ثم نداء تونس. تشعر وكأن حكومات ما بعد الثورة لا تهتم بنا. تحصل المناطق الساحلية التي تضم 20% من سكان البلاد على 80% من الثروة، ما يشكل ضغطاً نفسياً، فنحن نشعر أننا وحيدون ولا أمل أو أفق أمامنا". ويقول الخضراوي غاضباً: "أستطيع أن أفهم من كلامك أن القصرين لم تثر". وهنا فتح موضوع الجهاد، فالقصرين، التي خسرت عدداً كبيراً من أبنائها في سوريا، وعانت من القتال في الجبال المجاورة، تعرف الكثير عن هذا الموضوع. يقول الخضراوي: "لدينا نوعان من الإرهاب، الأول في الجبال والثاني في المنطقة الساحلية، وهو إرهاب الجماعات التي تتحكم بالاقتصاد. وكشاب تونسي علينا التعايش بين هذين النوعين من الإرهاب". التقيت في وسط القصرين بإمام يدعى محفوض بن ديراء، كان عائدًا لتوه من صلاة العصر. قال لي الإمام: "يمكن أن أطرد من الجامع لأن في خطبة الجمعة الماضية قلت كلاماً قد لا يرضي الحكومة". في خطبته حينها سأل الإمام عن سبب إغلاق الحكومة للمساجد بسبب الهجمات الإرهابية، في الوقت الذي قام فيه شخصٌ مخمور بقتل شخصين، ولم تقم الحكومة بإغلاق الحانات. قد يبدو الأمر للبعض نداء لتطبيق الشريعة. قام المخبرون بإبلاغ الشرطة، فأرسال مكتب المحافظ إنذاراً فيه: "في ظل مراقبتنا للنشاطات والمؤسسات الدينية في المنطقة، نعلمك أن العديد من التجاوزات سجلت بحقك". أعطيت الأوامر للإمام بفتح المساجد فقط في أوقات الصلوات، وتغيير أقفال أبواب الجامع، لتجنب الاستعمال غير المراقب للمسجد. بدا الإنذار كأنه تجاوزٌ من السلطة، وكأنه تقليدٌ قديم من فترة نظام بن علي. يضيف الإمام: "لن أتغير، لدي رسالة لإيصالها". نظر إلي بعين واحدة، فالعين الأخرى كانت زجاجية، وتابع: "ليس الأمر متعلقاً بالنسخة المتطرفة من الإسلام ولا بالإسلام البسيط. الأمر يتعلق بمجموعة تؤمن بلغة سفك الدماء وبمجموعة أخرى تؤمن بأنه يمكن شرب الخمر وتدخين السجائر. هذه هي النسخة الأصلية". لا تزال القصرين مختبراً فعالاً للثورة، ففي يناير، وبعد 5 سنوات على بداية الربيع العربي، قام رضى يحيوي، شاب في الـ28 من عمره عاطل عن العمل، بتعليق نفسه على عمود كهربائي والتعرض للتيار، وعلى الفور قام العديد من الشبان بتقليده. فإذا كان الجهاد نوعاً من أنواع الثورة في تونس، فالانتحار كذلك أيضاً. نزل كل الشبان الذين تحدثت معهم في المقهى في القصرين إلى الشارع، ونقلت رويترز عن حمزة هيزي قوله: "لم أظن يوماً أنني سأعيد المطالبة بما طالبت به منذ 5 سنوات. لقد سرق النظام القديم أحلامنا". في 24 نوفمبر، فجرّ بائعٌ متجول في دوار هيشر نفسه بحافلةٍ تقل عددًا من عناصر الحرس الرئاسي وسط العاصمة، وأعلنت الدولة الإسلامية مسؤوليتها عن التفجير، كما فعلت عقب مجزرة متحف باردو ومنتجع سوسة. تدرب داعش الإرهابيين التونسيين في معسكرات خارج البلدة الليبية الساحلية صبراتة، التي تقع على بعد ساعتين شرق بن قردان. وفي فبراير قصفت الطائرات الأميركية المعسكر، مستهدفةً جهادياً تونسياً يزعم أنه ساعد في التخطيط لهجمات سوسة وباردو. المقولة الشائعة في تونس هي أن وجود الدولة الإسلامية في البلاد محدود. يقول خميس الجهيناوي وزير الخارجية التونسي: "الإرهاب ليس ظاهرة تونسية بل هو ظاهرة دخيلة". بعد هجمات سوسة صدر قانون مكافحة الإرهاب، الذي يسمح لرجال الشرطة بإلقاء القبض على المتهمين، وإبقائهم تحت الحجز مدة أسبوعين من دون توجيه التهم إليهم. واستناداً إلى ما قاله وزير الداخلية "10000 تونسي أي ما يعادل 1% من السكان، أوقفوا في النصف الأول من العام 2015". يقدم الجهاديون على هذه الأعمال الوحشية لتوليد ردة فعل مبالغ بها وهو فخٌ تقع معظم الحكومات فيه. يقول سيرجيوا ألتونا، وهو مستشار أمن إسباني يعيش في تونس، إن الدولة الإسلامية ليست على مستوى عالٍ من التنظيم، كالقاعدة في تونس، ولكن هناك بلداً مجاوراً هو ليبيا، يمكن لعناصر داعش التواجد وتلقي التدريبات والقتال، ومن السهل عليهم العودة. ويقول توم مالينوسكي، مسؤول وزارة الخارجية الأميركية، إن الدولة الإسلامية لديها كل الدوافع لزعزعة الديمقراطية في تونس، التي أسست نظام حكم جديد وفريد في العالم العربي عقب الربيع العربي. عانت الديمقراطيات في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا، في ظل المؤسسات الهشة والفاسدة وغياب العدالة الاجتماعية. وتعاني تونس من كل تلك المشاكل، بالإضافة إلى دولةٍ فاشلة مجاورة ينتشر فيها الإرهاب. لا تزال تونس بالنسبة إلى المغتربين والتونسيين الأثرياء بلداً جميلاً. ويقول الغنوشي: "من يريد الذهاب إلى المسجد يمكنه القيام بذلك ومن يريد الذهاب إلى الحانات يمكنه أيضاً فعل ذلك، حتى أن الجنس مقبول في المجتمع". لذلك فالمسألة أشبه بأحجية، ففي البداية لماذا يستعمل التونسيون كلمة "مخنوق"، مشيرين إلى أنهم لا يملكون سوى الانفجار كخيار؟ سمعت هذه الكلمة من وليد وعلاء، ومن السائق في بن قردان، ومن الشاب الذي أدعوه أحمد، والتقيته في إحدى الليالي في ضاحيةٍ جنوب شرق العاصمة. ينتمي أحمد إلى عائلةٍ من الطبقة العاملة، ترك المدرسة وأصبح كهربائياً متدرباً، لأنه كان من المستحيل تقريباً الحصول على وظيفة. اعتاد أحمد تدخين الحشيشة مع أصدقائه وأصبح مولعاً بكرة القدم، حتى أنه كان يسافر مع فريقه المفضل في أنحاء البلاد. كانت كرة القدم منفذاً لتنفيس الاحتقان، الذي يعاني منه جراء بقائه عاطلاً عن العمل. لكن أينما ذهب تعرض هو وأصدقاؤه للشتم والضرب على أيدي قوات الشرطة، حتى بدأ بكره الحياة كمشجع كرة القدم، وأعلن استسلامه. وعندما بدأت الثورة شارك في التظاهرات التي أطاحت بن علي. يقول أحمد: "كان هناك ازدهارٌ بعد الثورة، على صعيد الدين أو المخدرات، بسبب الحريّة الجديدة. كان هناك ازدهار حتى في الهجرة، ففي الأشهر الـ3 الأولى بعد الثورة، ركب 25000 تونسي مياه المتوسط متجهين إلى جزيرة صقلية. وفي ليلة رأس السنة عام 2011 حاول أحمد أن يصبح لاجئاً، لكن عندما دهمت الشرطة المهاجرين غير الشرعيين لم يستطع الوصول إلى السفينة، وبقي في مرفأ لا جوليت في تونس. عندها قال أحمد لنفسه: "إذا صليت وطلبت التدخل الإلهي فربما ستتحسن الأمور". لم تؤدِ به الصلاة إلى الإسلام الديمقراطي المعتدل للنهضة، بل أصبحت أفكاره أكثر تطرفاً وبات سلفياً. توقف عن تدخين الحشيش وأطال لحيته، واعتمد لباساً يدعى القميص، وألغى صداقته مع جميع الفتيات على Facebook، وتوقف عن الاستماع للموسيقى وأخذ يفكر في الجهاد. تعرف إلى جهاديين آخرين على مواقع الإنترنت في العراق، ونصحوه بقراءة بعض الكتب. قام بتحميل كتاب يشرح كيفية صناعة قنبلة، وفي فترة الأمن المتراخي أيام حكم النهضة، لجأ إلى مسجد للمتطرفين في تونس، وكان يتواصل مع العديد من الأصدقاء الذين ذهبوا إلى سوريا، ليخبرهم أن شركة فيسبوك حجبت حسابه على موقعها. أصبح بعض أصدقاء أحمد قياديين في داعش، وكتبوا له عن المبالغ الطائلة التي يجنوها في السنة، وعن الزوجات الأوروبيات الجميلات التي يمكنه الحصول عليهن، في الوقت الذي تعذر عليه التعرف إلى إحدى الفتيات أو حتى شراء علبة سجائر. ويضيف: "فكرت عندها في المغادرة إلى سوريا". فسألته إذا كانت رغبته في ذلك نابعة من فقره، أجاب أن ذلك بسبب السير على الطريق الصحيح. كنا جالسين إلى طاولةٍ في الخارج في مقهى شبه خالٍ على طريقٍ مظلمٍ بين المنطقة الصناعية والأحياء السكنية الفقيرة. ارتدى أحمد سروالًاً ومعطفاً جلدياً، وكان يدخن سجائر تونسية ويفرك عينيه اللتين فقدتا اللمعان. يتابع أحمد: "إنه شعور بالانتقام من غياب العدالة في هذه البلاد. يمكن لرجل شرطة شتمك وشتم والدتك، كما يمكنه استدعاؤك ووضعك في حافلةٍ للشرطة، والتعدي عليك بالضرب ومن ثم رميك بعيداً". حصل ذلك له في إحدى المرّات قبل الثورة، حين كان مشجعاً لكرة القدم أثناء عودته إلى منزله. كان الموقف مهيناً وبعيداً عن الكرامة. في ريبع 2013 حاول أحمد مغادرة تونس مجدداً، لكن هذه المرة إلى سوريا عن طريق ليبيا. قام والده بمصادرة جواز سفره لمنعه، فقرر أحمد أن يعبر الحدود بمساعدة المهربين، وكان الخيار الأفضل شبكة من الجهاديين تعرف إليهم في المسجد، لكن بعضهم تم توقيفه، فذهب إلى بن قردان بمفرده. كان لأحمد صديق في بن قردان، هو وليد، فقد اعتادا الذهاب إلى العاصمة. وعندما وصل أحمد إلى بن قردان اتصل بوليد وطلب منه مساعدته في عبور الحدود، لكن وليد العائد من سوريا لتوه حاول منعه. فقال له: "لا تذهب يا صديقي إنه فخٌ للشبان لكي يموتوا". كان أحمد بالنسبة إلى وليد النموذج المثالي الذي يسعى داعش إلى توظيفه، فهو ساذج وتائه ويبحث عن أقصر طريق للجنة. أما القاعدة، فكان لها معايير أعلى، فكان على منتسبيها الجدد ملء استمارات تطلب منهم تسمية عالمهم الإسلامي المفضل. يمكن لوليد الإجابة عن هكذا سؤال، ولكن أحمد سيجد ذلك صعباً. قال وليد لأحمد: "الشهادة شيءٌ عظيم ولكن الشهادة على حساب الناس والوطن ليس أمراً جيداً. باستطاعتك مساعدة وطنك عوضاً عن الموت". تكلما لساعة، وفي النهاية، اعتقد وليد أنه نجح في إقناع أحمد. لكن أحمد ذهب لملاقاة مهرّب وحاول التفاوض معه على الثمن الذي عليه دفعه لمساعدته على تخطي الحدود، لكن المهرب أراد الكثير من المال، ولم يكن باستطاعة أحمد دفعه. لم يتمكن أحمد العبور إلى ليبيا، فبحث عن حافلة تقله إلى العاصمة. قام أحدهم بإبلاغ شرطة بن قردان عنه ربما بسبب لحيته الطويلة، أو لأنّه غريب عن البلدة، فقاموا بالاعتداء عليه وضربه، وفي العاصمة استدعته الشرطة مجدداً، واحتجزته ليلة، بعد أن نال نصيبه من الضرب. صرخ رجال الشرطة في وجهه قائلين: "يجب أن تترك الصلاة. من أرسلك إلى ليبيا؟ من هم؟". فسأله أحمد: "هل تطلق سراحي إذا أقلعت عن الصلاة؟"، وافق الشرطي، ووقع أحمد على مستند يلزمه بالعودة إلى عائلته وحلق لحيته، وعدم الذهاب مجدداً إلى بن قردان. تبددت رغبة أحمد في سلوك طريق الجهاد، وعاد لتدخين الحشيش. ضعف إيمانه ومعه طموحاته. وفي إحدى ليالي شهر يوليو في نهاية رمضان، شرب أحمد الخمر، وتعاطى مادة الإيكانيل، وهو مخدّر شائع الاستعمال في الأحياء الفقيرة، وقام بضرب أحد معارفه الذي رفض إعطاءه سيجارة، فأمضى نتيجة ذلك أسبوعاً في سجنٍ مزدحمٍ، لم يجد فيه مكاناً للنوم. ملأ البراز أرضية الزنزانة التي غصّت بمتعاطي المخدرات، والمثليين جنسياً، والسلفيين الذين أداروا السجن، متعرضين بالضرب لمن يجرؤ على تحديهم. أراد عناصر الشرطة إلصاق تهمة تعاطي الحشيش بأحمد، ففي تونس تصل عقوبة هذه الجنحة إلى سنة. قام أفراد الشرطة بتعذيبه لإجباره على الاعتراف، ولكن حين حاولوا أخذ عينة من بوله رفض مدة يومين، حتى ألقوا ماءً بارداً عليه لإجباره على التبول. عاد أحمد إلى منزل والديه، حيث فضل الاختفاء عن الأنظار، كما أنه لم يحضر إلى المحكمة يوم محاكمته. يقول: "حاولت جميع الطرق ولم ينجح شيء". كان لا يزال يسعى لإيجاد طريقةٍ ما للسفر إلى كندا أو ربما أستراليا، فحسب قوله لا يقتصر الأمر عليه فقط، بل جميع التونسيين يريدون المغادرة. أمّا وليد، الذي تمت مصادرة جواز سفره فور عودته من سوريا، فليس لديه أي خيار سوى البقاء. ويقول: "ليس من الجيد القول إنني أكره بلدي ولكنني أكرهه. إنه مكانٌ يريدون فيه للشبان أن يظلوا تافهين كالأطفال، لكي يتسنى لرجال الأعمال جني النقود. تونس ليست للثوار. خسرت 12 أو 14 سنة وأنا أحاول إيجاد حلٍ أفضل. ربما أنا أحد الخاسرين". لم يفقد وليد إيمانه بأن الشريعة ستنقذ العالم يوماً ما، لكن في الوقت الحالي، كتب على المسلمين الوقوع في شر الفتنة والتقاتل في ما بينهم. لقد تنبأ الرسول بذلك. لا تملك المجموعات الجهادية ومن ضمنها القاعدة أجوبةً عن حال الشباب في تونس، فقد أراد الجهاديون كل شيء أو لا شيء. لم يعد وليد يؤمن بتلك الحياة. فبعد كل ذلك لا تزال إنجازات الثورة موجودة للبناء عليها. يقول وليد: "يجب علينا إعادة هيكلة دولتنا، وتعلم كيف نصبح شعباً متحضراً. في تونس عندما ينتهي المرء من تدخين علبة السجائر يقوم برميها على الأرض. ما نحتاجه هو ثورة فكرية وثورة عقول ولكن ذلك لن يستغرق سنة أو سنتين بل 3 أجيال".  

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image