بعفوية وحرارة ألوان ذات لمسات طفولية بديعة، تركت الجزائرية باية محي الدين خلفها مشواراً فنياً حافلاً، لعب خلاله الحظ دوراً جوهرياً في مسارها لتقدّم لعالم الفن التشكيلي الحديث خطوطاً وألواناً لم يكن قد اختبرها أشهر رساميه من قبل... حتى الإسباني بابلو بيكاسو.
في العام 1947، كانت باية في الـ 16 من عمرها حين خطفت أنظار نخبة الفن في العالم إلى إحدى لوحاتها التي كانت عبارة عن إمرأة: ملكة ذات نظرات ثاقبة على رأسها تاج، وتزيّن فستانها طيور وفراشات ونباتات تطوق مجلسها من الجانبين.
هذه لوحة واحدة من بين 22 لوحة تُشارك في أول معرض لأعمالها في أمريكا الشمالية، حيث يحتفي بها معرض "غراي" للفنون في جامعة نيويورك في 31 مارس الجاري.
ويقدمها القيّمون على المعرض باسمها الأول "باية"، لتعود إلى الضوء سيرة فنانة رسمت عالماً سحرياً دون رجال، وتركت وراءها صورة مشرقة شكلت النساء والطيور والنباتات فيها عناصر طاغية ومتكررة. غطّت الزخارف والألوان الأولية لوحات باية، أما الفرح الذي كان مفتاح لوحاتها فقد قالت عنه مراراً إن سببه كان الحزن المبكّر في حياتها.
"هكذا بدأت الرسم"
بعد خمس سنوات من ميلادها، في 12 ديسمبر 1931 في ضاحية برج الكيفان الشاطئية قرب العاصمة الجزائر، تيتّمت باية، فانتقلت بعد ذلك للعيش في كنف جدتها التي كانت تعمل في مزرعة للحمضيات، مملوكة لمُستعمرين فرنسيين. اسمها الحقيقي فاطمة حداد، ويُقال إن اسم باية جاء نسبة إلى "باي" (باشا) وهو رتبة تركية كانت تمنح لحكام الولايات إبان الحكم العثماني للجزائر… وقد تكون حملت شيئاً من ذاك اللقب لتصبح لاحقاً "باية" فن الرسم في الجزائر. ربما ساهمت حكايات الجدة خلال ليالي الشتاء الباردة في إثراء خيالها بصور لعالم حالم آخر تملأ فضاءاته الأزهار والطيور والحيوانات٬ ومدّه عملها برفقة الجدة في فلاحة المزرعة بالألوان الطبيعية الخلابة. ذات يوم كانت باية تلهو في الطين وتصنع أشكالاً منها، فانجذبت نحوها مارغريت كامينا بن حورة، شقيقة صاحب المزرعة. إعجاب السيدة الفرنسية بما تصنع، دفعها إلى عرض تبنيها وأخذها معها إلى العاصمة الجزائر، لتساعدها في أعمال البيت وتعتني بموهبتها. سرًا كانت باية تمارس الرسم بعد مغادرة والديها بالتبني، مارغريت وزوجها الإنكليزي، للمنزل. ومع الوقت، اكتشفت مارغريت ذلك فعملت على تغذية موهبتها. تقول باية في إحدى ذكرياتها عن تلك المرحلة: "عندما كانت تعود مارغريت إلى المنزل أنطلق في الضحك، كانت تقول لي: ماذا فعلت اليوم يا باية؟ هل عملت؟ هل رسمت؟ ثم كانت تجلس أرضاً وتشاهد كل الرسومات وتشجعني على المواصلة... هكذا بدأت الرسم". وفّرت مارغريت، التي كانت ترسم بدورها ومثلها كان زوجها الإنكليزي، لها مواد وأدوات الرسم. وحين زار إيمي ماغ، تاجر الفن الفرنسي والنحات والمنتج السينمائي المعروف، الجزائر، قدّم له الرسام جون بايريسياك (صديق العائلة) أعمال باية. انبهر ماغ بها وبرسوماتها، ونظّم لها أول معرض في مؤسسته الفنية في باريس عام 1947. في العام نفسه، قام رائد الحركة السوريالية الشاعر الفرنسي أندريه بروتون (1896 ـ 1966) بعرض أعمالها في المعرض السوريالي الثاني، كما كتب، إضافة إلى ذلك، مقدمة المجلد الصادر عن معرضها في غاليري ماغ، وكانت بعنوان "خلف المرآة". وقال عنها: "باية... من مهمتها إعادة الحنين إلى كلمات جميلة".كيف أثّرت في بيكاسو؟
قيل عن باية إنها الفنانة التي تم اكتشافها صدفة فشبّت تحت جناحي طيف من المثقفين والفنانين العظماء. ورأى النقاد مسيرة الفنانة الوديعة الخجولة عبارة عن بوتقة انصهرت فيها الثقافات البربرية والرومانية والعربية مع الثقافة الفرنسية وما تداخل فيها من إرث الاستعمار. لم تكن تعرف القراءة والكتابة أو تلتحق بمدرسة فنون في بداياتها، بل كان لديها موهبة فطرية مُدهشة. ابتسم لها الحظ عبر علاقات مارغريت في فرنسا التي أتاحت لها السفر إلى باريس، ومنها إلى فالوريس، جنوبي فرنسا، حيث عملت في صناعة الفخار كذلك، وهناك التقت بالرسام الإسباني الشهير بابلو بيكاسو.غطّت النساء والزخارف والطبيعة بألوانها الأولية لوحاتها، أما الفرح الذي كان مفتاح رسوماتها فقد قالت عنه مراراً إن سببه كان الحزن المبكّر في حياتها... باية محي الدين، الفنانة الجزائرية التي ألهمت بيكاسو وماتيس وبروتون وغيرهمفي العام 1948، دعاها بيكاسو إلى ورشته فقضت عدة أشهر برفقته، وأنتجا رسوماً معاً، كما قدّمت أعمالاً من الفخار... وقيل إنها ألهمته في إطلاق مجموعته الفنية عام 1955، والتي عُرفت باسم "نساء الجزائر". قاومت تأثير الذكور، حيث تقول في حوار اعتادت مواقع مُهتمة بالثقافة والفنون تناقله: "لست أدري إن كنت تأثرت بفنان ما أو بأسلوب تعبير معين. أنا جدّ حساسة حقاً. أحس بالأشياء برهافة. ثم إني عشت في منزل رائع. مارغريت تعرف كل الكتب. لكن عندما نكون شباباً لا ننتبه ونجد أن كل شيء عادة". وعن ذلك تشرح قائلة "مثلاً في معرضي الأول كان هناك جورج براك (أحد مؤسسي المدرسة التكعيبية) وأشخاص آخرون مهمون. لكن بالنسبة لي كان ذلك عادياً، منطقياً. لم أنتبه إلا فيما بعد، وقلت في سري لقد عرفت أشخاصاً على قدر من القيمة ولم أستفد من ذلك. لهذا أعتقد أنني لم أتعرّض إلى أي تأثير". وفي موضع آخر، تقول باية "أعتقد أنني لا أحب الاقتباس، بالعكس أعتقد أنه تمّ الاقتباس عني، عن ألواني مثلاً، فهناك رسامون لم يكونوا يستعملون الوردي الهندي وأصبحوا يستعملونه، في حين أن الوردي الهندي والأزرق الفيروزي هي ألوان (باية)، لقد كانت حاضرة في رسوماتي منذ البداية. إنها ألوان أعشقها. هي ألوان ربما استلهمتها من نساء منطقة القبائل".
زواج تقليدي ثم جمود: "كنت أشعر كمن فقد ابناً"
بنصيحة من بيكاسو عادت إلى بلادها. وهناك قامت عائلتها الجزائرية بتزويجها عام 1953. غيَّر الحدث حياتها، فبعد عام انطلقت حرب الاستقلال عن فرنسا، فتجمّد نشاطهما لقرابة عقد من الزمن، وانكبت على تربية أبنائها الستة، في مدينة البليدة التي تبعد 50 كيلومتراً عن العاصمة. "توقفت عن الرسم ثماني سنوات، كنت أشعر مثلما نشعر عندما نفقد ابناً ونعتقد أن كل شيء انتهى، كنت داخل المنزل ومن المتوجب علي البقاء داخله، فلماذا أرسم؟ كنت مثبطة العزيمة"... هكذا وصفت باية فترة زواجها. عند عودتها للرسم في عام 1961، بدأت تضع آلات موسيقية في أعمالها متأثرة بزواجها من الحاج محفوظ محي الدين الذي كان موسيقياً ومغني موشحات أندلسية. تقول عن ذلك "عندما دخلت البيت وجدت فيه آلات موسيقية في كل مكان وحياتي وسط هذه الآلات أثرت علي. وقد كانت حقاً متوافقة مع عالمي، ثم أنا أحب الموسيقى الأندلسية العصرية". عالمياً، شاركت باية في معارض في بلدان عدة منها في أوروبا وكوبا واليابان، ونالت استحسان متذوقي الفن فقيل عنها"باية كانت في الداخل كما في الخارج مشعة بكل سحر بلادها". في المقابل، وبعد استقلال الجزائر لم يكن أسلوب باية يلقى الاستحسان الرسمي الذي فضّل الفن الواقعي المباشر، فجرى وضعها في أسفل التراتبيّة مع فنانين آخرين. ولاحقاً، اتخذتها الجزائر رمزًا للدولة، فوضعت أعمالها الفنية في العديد من سفاراتها في الخارج.فرّ فنانون كثر... وبقيت باية
خسرت باية والدتها في وقت مبكر من طفولتها، و"ربما لهذا السبب قرّرت إعادة تقديم النساء بغزارة في أعمالها، لأنها رأت في كل إمرأة والدتها"، بحسب ما يقول ابنها عثمان محي الدين، الذي يعمل حالياً في رئاسة ولاية البليدة. ومع "العشرية السوداء" التي عاشتها الجزائر في حقبة التسعينات، فرَّ فنانون ومفكرون إلى باريس بعدما تحولوا إلى هدف للعمليات الإرهابية آنذاك، لكن باية اعتذرت بلباقة عن تلبية دعوة السفير الفرنسي لها بمغادرة بلادها. "أنا أرسم لأنفّس عما بداخلي، أحب ملامسة الفرشاة. عندما نرسم والفرشاة في اليد، فإننا نهرب من كل شيء، نشعر أننا في عالم مختلف ونخلق كل ما أردنا خلقه... إنه مسار نوعاً ما فردي ولهذا أحبه". هكذا اختصرت باية الرسم الذي قالت إنه ضرورة بالنسبة إليها. جاب اسمها العالم وتأثر بها كبار الرسامين، لكنها ظلّت محتفظة بتلك الأصالة الفريدة التي جعلتها تعود في كل مرة إلى ذلك اللون الأول تحمله بخفة مراهقة وتلوّن به العالم، حتى فارقت الحياة عام 1998 عن 68 عاماً… وبقيت حاضرة في ألوان كل النساء اللواتي رسمتهن.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين