الموسيقى تجعل الروح في تناسق مع الوجود (أوسكار وايلد).
الموسيقى، كراسب من الرواسب الثقافيّة، هي أهمّ المفاتيح التي تمكننا من الولوج إلى عوالم سحريّة وجوانب مخفيّة من التاريخ. يمكن أن نقول إنها مطيّة لفكّ رموز وشفرات تستعصي على المتلقي، فيغوص في أعماقها ليتعرّف، عبر الألحان والكلمات، إلى أسرار أمم وتواريخ بلدان.
والحقيقة أنّ المزود هو نمط موسيقي مستقلّ بذاته في تونس، ظهر قبل عقود طويلة وتحوّل تدريجياً إلى ما يعرف بالموسيقى أو الفنّ الشعبي التونسي، الذي كان وسيلة لهو للطبقات الكادحة، ليتطوّر عبر العصور، ويصبح الفنانون الشعبيون في تونس، نجوماً نراهم على شاشات التلفاز وفي برامج التوك شو.
في هذا المقال، نتتبّع تاريخ هذا النمط الموسيقي، ونحاول التعرّف إلى أهمّ التطورات التي طرأت عليه في العقود الأخيرة. كما سنحاول شرح الأسباب التي ساهمت في التحولات التي شهدها.
من البادية إلى المدينة: نشأة موسيقى المزود
من المعلوم أن الكثير من العادات والتقاليد، التي نجدها راسخة عند غالبية الشعوب، هي نتيجة حركة الهجرة. فالوافدون الجدد يأتون بعاداتهم معهم من ديارهم. وموسيقى المزود اكتسبت اسمها من الآلة التي تسمى في الأصل مزوج (أي ثنائي)، وذلك نسبةً إلى القرنين اللذين يكونان عادةً في أعلى الآلة، التي تصنع من جلد الماعز مع قصبة في الأسفل فيها خمس أو ست فتحات. ظهرت هذه الآلة في المدينة بعد أن أحضرها البدو الرحّل، الذين قدموا في بدايات القرن العشرين من الجزائر، ومن ليبيا خصوصاً. عادةً تكون آلة المزود مرافقة بآلات الإيقاع مثل البندير أو الدربوكة، وهما آلتان تجتمعان لتكونا رمزاً للفرح والاحتفال لدى الطبقة الكادحة في ذلك الوقت. فالعمال في ضواحي العاصمة التونسيّة في تلك الحقبة، لم يكن لهم وسائل للتسلية سوى تلك الاجتماعات التي يتسامرون خلالها ويمرحون في سهرات يؤثّثها المزود. انتقلت آلة المزود بألحانها من البدو إلى المدينة، وشهدت تطوّراً بتحوّلها إلى نمط موسيقي يرمز إلى الكادحين، الذين اتّخذوا من السهرات الماجنة وسيلةً للترفيه ونسيان همومهم. وكتعبير عن تلك الحالة، لم يكتفوا بألحان المزود وإيقاعات الدربوكة، بل رافقوها بكلمات تكتب باللهجة التونسيّة (الدارجة)، لتلحّن وتغنى، وهو ما عرف بعد ذلك بالقصائد الشعبيّة المشهورة والمنتشرة في كلّ أنحاء الجمهوريّة. هكذا كانت موسيقى المزود، منذ نشأتها، تعبيراً فنيّاً ومرآة عاكسة لقضايا المهمّشين والمساجين، والحب المستحيل، الذي يعذّب صاحبه فيسكب كلماته على الورق ويغني مواويله على ألحان آلة المزود. كانت الأغنية الشعبيّة بمثابة التيار المضاد الذي يحمل ثقافةً ومعجماً غير معتادين، فهو انعكاس لمشاعر وأحاسيس طبقات مهمّشة ومنسيّة من المجتمع. ربّما كانت هذه من الأسباب التي جعلت المشرفين على الإذاعة التونسيّة، كصالح المهدي، ورئيس فرقة الإذاعة التونسيّة عبد الحميد بن علجيّة، يمنعون هذه الموسيقى، بحجة أنها شعبيّة وليست لها أيّ جذور تاريخيّة. لكن رغم الرفض الذي لاقاه المزود من المهيمنين على المشهد الثقافي آنذاك، من خلال منعه من الإذاعة الوطنيّة، سيكون للتطور التكنولوجي (أي ظهور آلات التسجيل في تلك الفترة)، دور مهمّ ومحوريّ في انتشار هذا الفنّ الشعبي في جميع أنحاء البلاد، وفي كلّ المناطق تقريباً، لتقتحم ثقافة الشعب الثقافة النخبويّة السائدة والمهيمنة.الستينات والسبعينات: سنوات الصعود
المتمعّن في تاريخ موسيقى المزود، يلاحظ أن تشكّل ملامحها لم يكن سهلاً بل معقّداً. ذلك أنّها نمط موسيقي متفرّد، جمع العديد من الرواسب الحضاريّة. كانت ستينات القرن الماضي شاهدةً على بزوغ هذا الفنّ وتطوّره، في مقامات الأولياء الصالحين في مختلف أنحاء الجمهوريّة، خصوصاً العاصمة (السيّدة المنوبيّة، سيدي محرز، سيدي علي عزوز...). وفي دراسة لعلي سعيدان، الباحث المختص في التعبيرات الفنيّة الشعبيّة، نلاحظ أن أهمّ المؤسسين لهذا الفنّ، كما نشهده اليوم، هما "خطوي بوعكاز" و"الشاذلي المدلّل". ولكن لا يمكن أن نجد أي أثر لمسيرتهما نتيجة إهمال الباحثين. والحقيقة أنه وجد أيضاً العديد من الفنانين الآخرين، وكانوا تونسيين يهوداً مثل "موريس ميمون" و"راؤول جورنو"، وقد أضاف هؤلاء لمستهم الخاصّة على موسيقى المزود في شكلها الصوفي الذي تميّزت به في الستينات. تعكس هذه الحقبة ملامح مجتمع بأدقّ تفاصيله. فالمزود، إضافة الى كونه وسيلة للاحتفال والتغني بالحبيبة، والتعبير عما يختلج في الصدور من مشاعر، هي أيضاً موسيقى اقتحمت مجال المقدّس وأصبحت حاضرة في حلقات التغني بالأولياء الصالحين. كما أن المزيج بين مختلف الأجناس والأديان يضفي طابعاً خاصاً وبعداً روحياً على المشهد الموسيقي لتلك الفترة، إذ نلاحظ تونسيين تجمعوا على حبّ موسيقى المزود، من دون إقامة أي اعتبار لاختلاف أديانهم. هذا الانفتاح على الآخر المختلف، والتركيز الكلي على الموسيقى والغناء، كان دافعاً لمزيد من تطوير هذا الفنّ. وقد عمد إسماعيل الحطاب، وهو من أعمدة الفنّ الشعبي في تونس، إلى التعريف بموسيقى البدو وموسيقاهم رغم أن أغانيه كانت على ألحان آلة الزكرة. تميّزت فترة السبعينات بتبلور موسيقى المزود وظهور فنانين شعبيين، تميّزوا بأغانيهم التي تحمل تأوّهات مظلومين أو آلام عشاق. كما أن ثقافتهم الموسيقيّة، كانت قائمة أساساً على حاسّة السمع والاعتماد على التراث. هم يمثّلون ثقافةً مضادّة لكلّ السائد، متمرّدون بموسيقاهم الشعبيّة ضدّ الأطر والرسميات. ولعلّ خير دليل على ذلك أغاني "صالح الفرزيط"، الذي يعدّ نجم السبعينات من دون منازع. فقد عانى التهميش والإقصاء، نتيجة صراعه مع النظام البورقيبي، الذي يظهر جلياً في أغنيته "أرضى علينا يا لميمة": "أرضى علينا يا لميمة رانا مضامين (مظلومين) نستاناو (ننتظر) في العفو يجينا من 76" في مطلع الأغنية يبثّ الفرزيط شكواه من القمع الذي تعرّض له ويشهّر بالتضييق الذي عاناه حتى في حيّه الملاسين (أحد أشهر الأحياء الشعبيّة في العاصمة) . "التفتيشات اتبّع (تتبعنا) فينا حتى في الملاسين".النوبة: المزود منتشياً
في بداية التسعينات، تجاوز المزود مرحلة التشكّل العسيرة، وأصبح يتمتّع بمكانة مهمّة في المشهد الثقافي. وهذا ما سيتعزّز في عرض النوبة (1991) الذي كانت ألحانه من سمير العقربي وأخرجه الفاضل الجزيري، ليكون عرضاً ضخماً متكاملاً تتمازج فيه مختلف الأنماط الموسيقيّة. كان هذا العرض بمثابة تتويج لمسيرة طويلة، تبلورت من خلالها موسيقى المزود ووصلت أوجها. فتجمّع نجوم هذا الفنّ على ركح واحد، ومع فرقة بأكثر من مئة عازف. الهادي حبوبة وليليا الدهماني وإسماعيل الحطاب وغيرهم، من أعلام المزود، تمكّنوا من أداء أغانيهم مع كسر الحاجز بين المقدّس والمدنّس. فالعرض جمع أضداداً، إذ نجد أغاني تتغنى بالحياة والحب، وأخرى هدفها التقرّب من الله، عبر مدح الأولياء الصالحين كأغنية السيدة المنوبيّة، التي أداها لطفي بوشناق. في عرض النوبة، اكتمل المشهد بعناصره الثلاثة: الصوت القوي والموسيقى الحديثة ولوحات كوريغرافيّة، لتتحوّل بعدها موسيقى المزود إلى فنّ مستقل بذاته، لها رونقها الخاص، وتتخلّص نهائياً من الأحكام المسبقة التي رافقتها لسنوات طويلة.الألفيّة الثالثة: المزود متجدّداً
انفتاح المزود على الأنماط الموسيقيّة الأخرى، كان سبباً في ظهور العديد من الأعمال، التي كانت فيها آلات المزود والقصبة حاضرة مع درامز وغيتار باس. فرقة برقو 08 في ألبومهم طرق، سعوا إلى التعريف بأغانٍ من التراث التونسي بطريقة مبتكرة، مع محاولة لتجديد الموسيقى، من خلال حضور نصوص تراثيّة مع موسيقى إلكترونيّة كخلفيّة لآلات الإيقاع (الدربوكة والطبل) وآلة الناي. كما يمكن أن نشير إلى العديد من الأعمال التي حظيت باهتمام كبير، وحققت نجاحاً لافتاً، مثل أغنية الفنانة أسماء بن عثمان، يا ما لسمر دوني التي غناها صلاح مصباح في النوبة سنة 1991. اشتغلت أسماء على التخفيض من نسق الأغنية وإيقاعها، مع إضافة ألحان الزكرة والناي بطريقة سلسة ومدروسة. وللمزود أيضاً حضور في مجال الراب، فقد قدّم الهادي دنيا أغنية خلوني مع الرابر التونسي أرمستا، وحققت نجاحاً كبيراً إذ حصدت أكثر من 14 مليون مشاهدة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...