لقيت مساهمة سعيد صدىً عالمياً، وأحدث كتابه "الاستشراق" (1978) ثورة على قرون من الأدب والفن والسياسات الاستشراقية التي رسخت صورة ذهنية عن التفاوت الحضاري والتناقض حد الصدام بين "غرب" متحضر و"شرق" زاخر بكل أسباب التخلف.
لكن قوة تأثير الثورة النقدية في العقود الأربعة الأخيرة غيبت الأصل الذي سعى سعيد وغيره لنقده.
فقد احتاج نجاح المشروع الذي قاده سعيد إلى مراجعة إرث ضخم من كتابات الرحالة والمستشرقين والنفاذ إلى ما تخفيه الأعمال الفنية الاستشراقية في شتى ضروب الأدب والفن والموسيقى ولاحقاً الأفلام السينمائية.
لكن يبقى السؤال: هل كل ما أنتجه العقل الاستشراقي يجب إهماله أو اعتباره شراً مطلقاً؟ وإن توقفنا للحظة عن النظر لتلك الأعمال بعين الباحث الاجتماعي أو المحلل السياسي فهل نجد جانباً جمالياً في تلك الأعمال الاستشراقية؟
[caption id="attachment_122268" align="alignnone" width="700"] لوحة استشراقية تصور مسجد عمرو بن العاص للرسام الفرنسي جون ليون جيروم، رسمها بعد زيارته لمصر عام 1868[/caption]مرتكزات فلسفة الجماليات...
للإجابة عن هذه التساؤلات، يجب بدايةً البت في إمكانية (أو عدم إمكانية) الفصل بين البعد الجمالي وبين المحتوى السياسي والثقافي التنميطي الذي تتضمنه تلك الأعمال. في هذا المجال، يرى رائد الجماليات (أوسكار وايلد) أن بالإمكان تقدير الجمال لذاته فقط، دون الخوض في المدلولات الأخرى.
هذه الفرضية هي أهم مرتكزات فلسفة الجماليات (Aestheticism).
لكن لا بد هنا من أن نشير إلى أن تلك الدعوة لتجريد الجمال والمتعة ليست محل إجماع، فبعض الفلاسفة والنقاد يرون أن غاية الفنون والآداب هي النهوض بالمجتمع، وأن لا انفصال بين القيمة الجمالية وبين الرسالة أو الفائدة المتحققة.
هذا الموقف الأخير يحيلنا إلى قضية أوسع تتعلق بالواقع العربي الراهن.
تصطبغ جوانب الفكر والثقافة العربية السائدة بصبغة دينية سياسية بصورة واضحة. فأي نقاش مؤداه إلى أحد الحقلين أو كليهما. لكن مع تأخر ظهور إصلاح ديني ومع تعثر محاولات التغيير والنهوض السياسي تبرز الحاجة لفصل المسارات. ما من شك في تغلغل الدين والسياسة في ثنايا الفكر والحياة اليومية للمواطن العربي،
لكن هل حقاً لا توجد مساحات للمناورة والالتفاف على استعصاء التغيير في السياسة والدين؟
[caption id="attachment_122269" align="alignnone" width="700"] لوحة لمحافظة الفيوم للرسام الفرنسي جون ليون جيروم[/caption]ابتلاع الدين والسياسة جوانب حياتنا وتفكيرنا المختلفة...
في الواقع لا نملك الكثير من الخيارات في ظل غياب التنظيم وابتلاع الدين والسياسة لباقي جوانب حياتنا وتفكيرنا بصورة متزايدة. وقد يكون من الأجدى التملّص من قيود الدين والسياسة وخلق جزر أو مساحات فيها هامش من الحرية للبحث الموضوعي أو على الأقل لتكون متنفساً للمتعبين من تعقيدات السياسة وسطوة الدين.
في هذا الإطار، قد يكون من المفيد تذوّق جمالية المُنتَج الاستشراقي لا لشيء، سوى للمتعة وتقدير الجمال.
[caption id="attachment_122270" align="alignnone" width="700"] نساء الجزائر في غرفهن للرسام الفرنسي اوجين ديلاكروا[/caption]مثل هذه المحاولة لفض الاشتباك الحاصل بين أبعاد ومضامين العمل الأدبي أو الفني، لا تستهدف التعمية على النتائج الكارثية التي حملتها الظاهرة الاستشراقية، ولا يمكنها ذلك.
فقد بات معلوماً التأثير السلبي لتلك الأعمال الأصلية خاصة دورها في تأمين غطاء للأطماع الاستعمارية وشرعنة النزعة التوسعية الأوربية تحت حجج من قبيل نقل الحضارة للشعوب المتخلفة وغيرها من الادعاءات العنصرية.
لكن لم تكن أعمال الرحالة الغربيين شراً مطلقاً، بل لا بد من الإقرار بأن الفنون والآداب الاستشراقية لم تصور الشرق فقط على أنه حيز جغرافي تقطنه شعوب متخلفة، بل رسمته عالماً مليئاً بالسحر والجمال أيضاً. هذا الجانب الجمالي غيبه لاحقاً زخم الثورة على الاستشراق واتساع نطاق النقد الأدبي ودراسات ما بعد الاستعمار.
فبات الجميع يرون تلك الأعمال بعين الناقد السياسي أو الاجتماعي من دون الالتفات إلى جمالية المحتوى.
[caption id="attachment_122272" align="alignnone" width="700"] وجبة مُنتصف النهار، القاهرة، للرسام الانغليزي جون فردريك لويس[/caption]رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...