أمام هول معارك الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، مثّل الفرار أحد الخيارات المتاحة للأوروبيين من أجل النجاة، فتركوا أوطانهم بحثاً عن ملاذ آمن إلى حين تضع الحرب أوزارها.
وكانت مصر وجهة آمنة لكثيرين من لاجئي القارة الأوروبية، فهي دولة لم تشارك في تلك الحرب في بدايتها. ورغم أن إنكلترا حاولت إقحامها فيها، إلا أن رئيس الوزراء المصري سنة 1939 علي ماهر باشا رفع شعار تجنيب مصر ويلات الحرب، حسبما يوضح أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور عاصم الدسوقي لرصيف22.
هكذا، أصبحت مصر منطقة آمنة لمَن يفكّر في الهرب من ويلات الحرب، واستقبلت مجموعات من المناطق المنخرطة فيها مثل إنكلترا وفرنسا وتركيا.
ولكن الجزء الأكبر من الوافدين إليها كانوا من دول البلقان، مثل يوغسلافيا ورومانيا وبلغاريا، يوضح الدسوقي. فمن هذه الدول أتت مجموعات تضمنت يهوداً فروا من ملاحقة هتلر الذي كان يسعى إلى تصفيتهم.
سبب آخر جعل من القاهرة ملاذاً للاجئي أوروبا هو أن مصر كانت بلداً مفتوحاً أمام الأجانب منذ حكم محمد علي باشا، يؤكد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة دمياط الدكتور أحمد المُلا.
فعندما بدأ محمد علي مشروعه الإصلاحي الذي تابعه من بعده الخديوي سعيد ثم إسماعيل ثم الاحتلال الإنكليزي، قدمت إلى مصر جاليات أجنبية كثيرة ساهمت لاحقاً في توافد ذويهم من الأوروبيين على البلاد أثناء الحرب العالمية الثانية.
مجموعات ملكية
تروي الكاتبة الإنكليزية أرتيميس كوبر في كتابها "القاهرة في الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945" (ترجمه إلى العربية محمد الخولي)، أن اجتياح قوات المحور لدول البلقان تسبّب في تدفق اللاجئين منها على مصر، وتذكر أنه "كان منهم أفراد بلا اسم وبلا وطن، يتشبثون بأحمالهم وأطفالهم ولكن كان من بينهم أيضاً موكب صغير من الرؤوس المتوّجة". وذكرت كوبر التي عاشت في مصر إبان تلك الفترة أن أول مجموعة ملكية وصلت إلى القاهرة تألفت من الوصي السابق على عرش يوغسلافيا الأمير بول مع زوجته الأميرة أولغا وأبنائهما الثلاثة، يوم 11 أبريل من سنة 1941. ولم يكن رئيس الوزراء المصري حينذاك حسين سري باشا قد أُخطر بقدومهم، فثارت ثائرته على السفير البريطاني في القاهرة مايلز لامبسون، اعتراضاً على الطريقة التي تُعامل بها مصر بوصفها مكاناً يُلقى فيه باللاجئين السياسيين. في تلك الأثناء، وردت إلى السفارة الإنكليزية في القاهرة تعليمات باستقبال بول وزوجته استقبالاً بارداً. وتروى كوبر أن معظم الترتيبات بشأن إقامتهم اتُّخذت بصورة غير رسمية عن طريق أصدقاء لهم في القاهرة عثروا على بيت للأسرة في منطقة مصر الجديدة (شرق القاهرة)، وُصف بأنه شديد القذارة وصغير بصورة تدعو للسخرية.تسبب اجتياح قوات المحور لدول البلقان في الحرب العالمية الثانية بتدفق اللاجئين منها على مصر، وكان بعضهم أفراد من عامة الشعب، ولكن كان من بينهم أيضاً مجموعات ملكية
كتبت الروائية والشاعرة الإنكليزية أوليفيا ماننغ، وقد كانت لاجئة في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية: "إن بؤس مدن الدلتا شكل لنا صدمة مريعة، ليس البؤس فقط ولكن رضا الناس بهذا البؤس"
لاجئون إلى مصر في الحرب العالمية الثانية... أول مجموعة ملكية وصلت إلى القاهرة تألفت من الوصي السابق على عرش يوغسلافيا الأمير بول مع زوجته الأميرة أولغا وأبنائهما الثلاثةوتذكر كوبر أنه "بعد أيام قلائل زارهم لامبسون وزوجته زيارة غير رسمية ووجدوهما في غاية اللطف والظرف، ووصف السفير الأميرة أولغا بأنها واحدة من أكثر الحسناوات اللواتي التقى بهنّ جاذبية". وبعد أسبوع من وصول بول وأسرته وصل الملك اليوغسلافي بيتر الثاني إلى الإسكندرية وتناول الغداء فيها قبل أن يتوجه إلى فلسطين. ملك يوغسلافيا بيتر الثاني وبعد أيام من ذلك، وصلت إلى مصر الجديدة مجموعة من أعيان الصرب قوامها 30 شخصاً، وهم الرجال الذين وضعوا الملك بيتر على العرش وألغوا الوصاية. وكان يتعيّن استقبالهم في القاهرة ريثما يتم توفير مأوى لهم في فلسطين. ومرة أخرى اشتعل غضب حسين سري لأن الحكومة المصرية لم تُخطر بهذا الأمر. وبحسب كوبر، "طلب الصرب من لامبسون إبقاء الأمير بول تحت رقابة مشددة حتى لا يبدأ بالتآمر ضدهم، برغم أن هذا القلق لم يكن له ما يبرره، فقد كان الوصي السابق على العرش يفضّل الرسم والحياة العادية على السياسة". بعد ذلك، سافر الملك اليوغسلافي الجديد ووزراؤه إلى لندن، بينما أُبعد الأمير بول وزوجته إلى كينيا حيث سكنوا في دار ريفية معزولة بالقرب من بحيرة نيفاشا. مثل المسيح... على ظهر حمار "هرب جورج ملك اليونان من أثينا مثل المسيح على ظهر حمار"، حسبما تروي كوبر مضيفةً أنه "كان يرتدي قبعة من الخوص، وكان معه رئيس وزرائه إيمانويل سوديروس وعدد من أعضاء العائلة المالكة، وطاروا جميعاً إلى كريت يوم 26 أبريل، وفي منتصف مايو تم إجلاؤهم إلى القاهرة". ملك اليونان جورج في الإسكندرية عام 1942 لم يمكث الملك جورج وأسرته في مصر سوى ثلاثة أسابيع، فقد دعاه رئيس وزراء جنوب إفريقيا الفيلد مارشال جان سموتس إلى بلاده، وبعد إقامة قصيرة هنالك، انتقل ووزراؤه إلى لندن. أفواج من اللاجئين بالنسبة إلى مَن لم ينتموا إلى الأسر الملكية، كان الهروب من اليونان أمراً بالغ الإرهاق. تذكر كوبر أنه ما إن بدأ الجرحى من الأفراد اليونانيين والجنود الأستراليين والبريطانيين يتوجهون إلى شوارع أثينا حتى انتشر الرعب، وتقول: "كم جاهد الأهالي من أجل حصولهم على أي ملجأ على متن أية سفينة ترضى بنقلهم بحراً، بينما واصل سلاح الجو الألماني قصف ميناء العاصمة في بيرايوس بصورة لا تنقطع". بدأ وصول أول أفواج اللاجئين من اليونان إلى مصر يوم 21 أبريل على متن تشكيلة من اللنشات والصنادل والبواخر الصغيرة، ونزل على شاطئ الإسكندرية أكثر من ألف منهم، بينما كانت السلطات البريطانية والمصرية تحاول الإسراع بإنجاز ترتيبات استقبالهم، مع توقعات بوصول أربعة آلاف آخرين في غضون أيام قليلة. كثيرون منهم، كما تذكر كوبر، لم تكن بحوزتهم أوراق ثبوتية ومعظمهم لم يتناولوا طعاماً لمدة يومين. وعلى متن آخر سفينة مدنية غادرت ميناء بيرايوس ركب مَن تبقى من أعضاء المجلس البريطاني ومنهم الروائي روبرت ليديل والروائية والشاعرة أوليفيا ماننغ وزوجها ريجي سميث. كانت سفينتهم وفقاً لوصف كوبر "عتيقة معطوبة استُخدمت لنقل الأسرى البريطانيين: قمراتها (غرفها) مليئة بحشرات الفراش، وبعض أجزاء ممراتها كانت محاطة بحواجز خشبية لفصل مجموعات السجناء". وحملت السفينة نفسها أيضاً شاعرين من اليونان هما جورج سفيريس الذي أصبح بعد ذلك سفير حكومة المنفى البريطانية لدى جنوب إفريقيا، وإيلي بابا دي متربو. أبلغ اللاجئون بأن يحملوا معهم أغذية. ولكن بما أن أثينا لم تكن تحتوي على أي طعام يمكن شراؤه، لم يأكلوا شيئاً لمدة ثلاثة أيام. وفي مقالة نشرت بعد سنوات من ذلك التاريخ، تذكرت أوليفيا ماننغ أول مرة ذاقت فيها الطعام في الإسكندرية وروت: "رأينا الجنود البريطانيين على الرصيف وصاح أحدنا: ‘لديكم أي شيء يؤكل؟ نعم، يؤكل’. أصابت الدهشة الجنود إزاء طلب بسيط كهذا، فتوجهوا خلف صناديق الذخيرة وجاؤوا بسياط من الموز وبدأوا يستمتعون بلعبة قذف الموز إلى أعلى، وكنا نقفز ونناضل كي نحصل على شيء منها، وقد قُدّر لي أن أحصل على موزة صغيرة خضراء من الخارج لكنها شبه حمراء من الداخل وكانت تفوح بعبير العسل ولم أذق في حياتي شيئاً مثلها". بعد إتمام الإجراءات، قُدّمت لهم وجبة معقولة من اللحم والبيض والشاي، فبكوا. وفي تلك الليلة ركبوا القطار المتجه إلى القاهرة، بحسب كوبر. كابوس وبؤس انتقلت أوليفيا ماننغ وريجي سميث إلى فندق خُصص للاجئين وكان أقرب إلى مخيّم، إذ كان يشمل عنبرين منفصلين أحدهما للرجال والآخر للنساء ودشاً بارداً واحداً يستخدمه كلا الجنسين. الانطباعات الأولى عن مصر بالنسبة إلى أوليفيا ماننغ كانت كالكابوس. كتبت: "إن بؤس مدن الدلتا شكل لنا صدمة مريعة، ليس البؤس فقط ولكن رضا الناس بهذا البؤس. مضت أسابيع عشنا خلالها في حالة من الارتداد إلى الوراء". في المقالة ذاتها قالت أوليفيا ماننغ: "من الظلم أن نفترض للحظة واحدة أننا سنبقى هنالك، شعرنا أن المدينة مكتظة وفارغة في آن واحد، وكأنها مفتوحة للاستخدام المؤقت مثل محطة سكة حديد... ولكن أياً كان عمق الأزمة فإن الحرب منتهية بلا ريب وتوقع كل امرئ أن يعود إلى دياره ويستأنف حياته العادية عاجلاً أو آجلاً". بدت القاهرة أشد جهامة في عيون لاجئين فقدوا أعمالهم وضاعت جذورهم، وذلك على خلاف العسكريين الذين كان لديهم سبب وجيه للبقاء فيها. بين أثينا والقاهرة شملت قائمة أعضاء المجلس البريطاني الذين فرّوا من اليونان إلى مصر أيضاً لورانس دوريل وزوجته نانسي وطفلتهما بينيلوب. كانوا يعيشون في كلاماتا، جنوبي اليونان، وعندما اقترب الألمان من أثينا أبحروا إلى جزيرة كريت، وهنالك انضموا إلى المسافرين على متن باخرة مكتظّة بالركاب حتى وصلوا إلى الإسكندرية ومنها إلى العاصمة المصرية، تذكر كوبر. وجدت عائلة دوريل القاهرة بغيضة وكئيبة. "كانوا قد تركوا اليونان في الربيع عندما كانت الأزهار ترطب منظر الصخور السائد هنالك وتملأ المتنزهات وتزيّن واجهات البيوت ونوافذها في أثينا. أما في القاهرة فكان قد حلّ زمن الخماسين، وهبوب الرياح الصحراوية السميكة الساخنة المحمّلة بالرمال والغبار". في تلك الفترة، كانت القاهرة تجمع بين الغنى الفاحش والفقر. كتب دوريل يقول: "بلد حافل بالعاهات والتشوهات والرمد والأورام والأعضاء المبتورة والقمل والذباب. في الشوارع ترى الجياد وقد شُطرت نصفين وأهملها سائقوها، أو تجد رجالاً ذوي سحنات سوداء يعكف الذباب عليهم وهم يعرضون عاهاتهم على الناظرين. المرء لا يكتب شيئاً سوى أسطر قصيرة متناثرة وهو يأوي إلى جوار هذا النيل الفاسد البطيء الجريان، بينما يشعر أنه يتعثر في خطاه وكأنما تدوسه أقدام الأفيال". بعد انتهاء الحرب، وبحسب المُلا، رجع معظم اللاجئين إلى بلادهم، بينما بقي في مصر بعض منهم، خاصة أولئك الذين وجدوا فرص عمل مناسبة أو أقاموا مشروعات تجارية، حتى جاءت حرب 1948 حين ساد توجه عام ضد الأجانب واليهود، ثم جاءت ثورة يوليو 1952 والعدوان الثلاثي عام 1956 وما تبعه من تأميم لممتلكات الأجانب في مصر ما ساهم في خروج مَن تبقى منهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين