"كاميليا جاسوسة يهودية وعمر الشريف اختارته هوليوود لأنه يهودي". يمكن القول إن تاريخ يهود مصر بحسب الرواية الشعبية تم تلخيصه في هذا السطر. وذلك رغم أن الباحث عرفة عبده علي في كتابه "يهود مصر، بارونات وبؤساء" كشف أن كاميليا كانت مسيحية وكذلك والداها، بينما صرح عمر الشريف لجيزيل خوري عام 2004 بأنه كان مسيحياً وتحول للإسلام قبل أن يبلغ العشرين من عمره وقبل دخوله عالم الفن. بعيداً عن الرواية الشعبية، فإن قسماً من يهود مصر أنشأ حركات صهيونية منذ وقت باكر وسعى بالفعل إلى قيام دولة إسرائيل ونظم تظاهرات للاحتفال بوعد بلفور، وهناك قسم آخر حارب في صفوف جيش إسرائيل ضد الجيش المصري في حربي 1956 و1967. وعملية لافون عام 1954 تضمنت أعمالاً إرهابية ضد مقارّ وشركات أمريكية في مصر بغرض ضرب العلاقات المصرية الأمريكية ونفّذتها شبكة جاسوسية من يهود مصر. ولكن بقدر ما تعرض الإعلام والدراما لهؤلاء، من النادر أن نتعرف على الفريق الآخر الذي رفض إسرائيل وكانت استثماراته مصرية خالصة تخدم اقتصاد مصر، أو على مَن انخرطوا في الحركة الأدبية والفكرية ممارسين المواطنة المصرية الكاملة بدون أن يشيحوا بصرهم نحو وطن بديل. وعن مثل هؤلاء سيتحدث هذا الموضوع.
لمحة تاريخية
على مدار التاريخ كان عدد اليهود في مصر قليل جداً، حتى لنستغرب أنهم لعبوا دوراً سياسياً أو اقتصادياً في تاريخ مصر. ولكن جاك ساسون في كتابه "تاريخ يهود النيل" يجيب بالقول إن اليهود تركزوا في العاصمة، لذا يخيل للبعض أنهم كانوا أكثر عدداً مما هم عليه. ويتحدث ساسون عن أن يهود مصر انخرطوا في السياسية وليس الاقتصاد فحسب، وحصلوا على فرصتهم كاملة في السياسة. فعلى ضوء نسبتهم الضئيلة من السكان، فإن تمثيلهم في مجلس النواب والوزراء لاحقاً كان منطقياً للغاية. ويلاحظ أن بديع خيري حينما كتب نشيد "قوم يا مصري" وضع اليهود جنباً إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين باعتبارهم أبناء البلد، وذلك عام 1919 في اللحن الشهير لسيد درويش، حيث يقول: "حب جارك قبل ما تحب الوجود/ ايه نصارى ومسلمين قال ايه يهود/ دي العبارة نسل واحد مـ الجدود".مجتمع اليهود في مصر
يقول جاك ساسون إن عدد الأجانب في مصر ارتفع من 10 آلاف أجنبي عام 1850 إلى 125 ألفاً عام 1900، فقد هاجر إلى مصر آلاف الأجانب للاستثمار، وأدى ذلك إلى تضخم الطائفة اليهودية في مصر من 6 آلاف يهودي منتصف القرن التاسع عشر إلى 75 ألفاً عام 1930، ومع ذلك، لم يكونوا يمثلون إلا 0.04% من سكان مصر وقتذاك. وأدت هذه الهجرات إلى إعادة هيكلة الطائفة اليهودية، فالطبقة العليا بنسبة ساحقة تشكلت من الأجانب القادمين للاستثمار مع أقلية من يهود مصر من أصحاب الرساميل القوية، أما الطبقة الوسطى والدنيا فهي من يهود ما قبل الانفتاح الاقتصادي في زمن محمد علي.مواقف ضد الاستعمار
سجل اليهود مواقف مشرفة ضد الاحتلال البريطاني، فحضر الحاخام الأكبر المؤتمر الوطني في 22 يوليو 1882 عقب أيام من بدء الغزو البريطاني، وذلك جنباً إلى جنب مع شيخ الأزهر وبابا الإسكندرية، ووافق على مقررات المؤتمر بدعم وزير الجهادية أحمد عرابي وإصدار بيان بوقف تنفيذ أوامر الخديوي توفيق، ما يعني بلغة هذا العصر خلع الخديوي، والبدء في جمع السلاح والرجال والخيول من أجل إرسالهم للجيش. وتكرر الموقف إبان ثورة 1919 بالمشاركة الشعبية والدينية، ثم المشاركة في تأسيس حزب الوفد. وفي ورقة بحثية بعنوان "نصف قرن" تحدثت المصرية اليهودية إجلال عريرا عن أن المجتمع اليهودي المصري لم يشهد ظاهرة الغيتو أو المناطق المعزولة التي عاش بها يهود كثيرون حول العالم. وبيّن محمد أبو الغار في كتابه "يهود مصر من الازدهار إلى الشتات" أن حي حارة اليهود يتكون من 360 زقاقاً وحارة كان يقطنها مسلمون ومسيحون ويهود، والمسمى يقف خلفه وجود 13 معبداً يهودياً في المنطقة.الموقف من إسرائيل
الباحثة الألمانية غودرون كرامر مع الباحث المصري اليهودي ألفريد مورابيا يؤكدان في دراسة بعنوان "اليهود في القرنين التاسع عشر والعشرين" أنه على عكس الصورة الذهنية التي روج لها الإعلام المصري، فإن يهود مصر لم يتقبلوا فكرة تأسيس دولة إسرائيل بترحاب، والدليل أنه حينما بدأت موجات التضييق على اليهود في مصر، غادر أغلبهم إلى أوروبا أو أمريكا، ولم يسافر إلى إسرائيل إلا الفقير الذي لا يملك القدرة المادية على العيش في أمريكا وأوروبا. كما بقي في مصر عقب إعلان دولة إسرائيل الآلاف من اليهود، فإذا كانوا من مؤيدي إسرائيل ويعانون من مشاكل في بلدهم، فلماذا لم يغادروا مصر خصوصاً أن السلطات سهلت تلك الهجرة؟ ولماذا بقي 21 ألف يهودي حتى عام 1957، وظل 6 آلاف حتى اندلاع حرب 1967؟ وتشير الدراسة إلى أن أول من تنبه إلى خطر الحركة الصهيونية في مصر هم النشطاء اليهود، إذ تأسست "الرابطة اليهودية لمكافحة الصهيونية" على يد مارسيل شيرازي وشحاته هارون وعزرا هواري، بينما كان أول كتاب ينبه لهذا الخطر هو "فلسطين بين مخالب الاستعمار والصهيونية" لليهودي صادق سعد. كما قام ريمون دويك ويوسف درويش بحملة تنوير لعقلية رجل الشارع حول هذا الخطر بتوزيع منشورات بشكل يومي في الشوارع حول الصهيونية."كاميليا جاسوسة يهودية وعمر الشريف اختارته هوليوود لأنه يهودي"… تاريخ يهود مصر بحسب الرواية الشعبية، ولكن
من النادر أن يعرفنا الإعلام على يهود مصر الذين رفضوا إسرائيل وكانت استثماراتهم في خدمة الاقتصاد المصري
الخروج الثاني من مصر
ورغم ذلك فإن الشعوب العربية ما إن استشعرت خطر ما يجرى في إسرائيل حتى تعاملت بغضب مع الطوائف اليهودية، وكانت الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) سبب جذب أنظار الشعوب العربية إلى ما يجرى في فلسطين من استيطان يهودي. أما السبب الثاني لتوتر العلاقات بين اليهود وباقي الشعب المصري فهو ما يذهب إليه ساسون في كتابه من أن الدعاية الألمانية النازية لعبت دوراً في كراهية المصريين لليهود، مشيراً إلى أن المصري اليهودي ليون كاسترو أسس "العصبة المضادة لمعاداة السامية الألمانية" في القاهرة عام في مارس 1933 وذلك للتصدي لدعاية النازية في مصر.كما أن رجل الأعمال اليهودي أومبرتو جابيس رفع قضية على ناشر كتاب وزع بين الجالية الألمانية في مصر اعتبره تحريضياً ضد اليهود عام 1934، ما يشير إلى وجود نشاط نازي، ولا عجب في ذلك إذ ضمت القاهرة مكتباً للإعلام الألماني. ويرى ساسون أن بعض التنظيمات السياسية كانت ترتزق من ألمانيا بمعاداة اليهود، ثم أصبح هذا التحريض مصدر شعبيتها، مثل دعوات تنظيم الإخوان المسلمين لمقاطعة البضائع اليهودية وهو أمر لم ينجح في مصر قط، أو مهاجمة حي حارة اليهود بعمليات إرهابية عام 1947. ثم بدأ الصراع المصري الإسرائيلي بحرب فلسطين 1948، وقيام ثورة 23 يوليو 1952، فأصدرت وزارة الإرشاد القومي كتباً ضد اليهود. ومع كل حرب في الصراع المصري الإسرائيلي كان اليهود مجبرين أمام حالة السخط الشعبي على الرحيل، بينما كانت الحكومة المصرية، كما قال ساسون، تشجع هذا الخيار بل ويبدي بعض رجالاتها استغرابهم من استمرار بقاء بعض اليهود إلى ما بعد نكسة 1967. لو لم يكن هؤلاء يشعرون بأن مصر بلدهم لما بقوا بعد إعلان دولة إسرائيل، ولما بقوا وسط تصاعد السخط الشعبي والحكومي حتى بعد يونيو 1967. ولكن بعد النكسة كان الرحيل حتمياً عقب سلسلة اعتقالات شملت حتى للحاخام الأكبر حاييم دويك. وبحلول عام 1971 كان عدد اليهود في مصر 300، انخفضوا في ما بعد وأغلبهم اليوم نساء طاعنات في العمر.
شحاتة هارون... عدو إسرائيل
لا يمكن أن نتحدث عن رفض بعض يهود مصر لإسرائيل دون التوقف عند الناشط الشيوعي شحاتة هارون (1920 - 2001). رفض هارون قيام دولة إسرائيل ثم رفض معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، كما رفض مغادرة مصر رغم المضايقات حتى توفي ودفن فيها. وعام 1967 طلب التطوع في الجيش المصري عبر نقابة المحاميين، ولاحقاً شارك في تأسيس حزب التجمع المصري. علماً أن ابنته ماجدة هارون أصبحت رئيسة الطائفة اليهودية المصرية، وقد صرحت في حوار مع جريدة المصري اليوم عدد 15 يوليو 2013 أنها شاركت في ثورة 30 يونيو 2013، مشيرة إلى أن صحيفة يديعوت أحرونوت استقبلت نبأ توليها رئاسة الطائفة بعنوان "بنت عدو إسرائيل أصبحت رئيسة للطائفة اليهودية في مصر".
الرأسمالية الوطنية
بحسب كرامر ومورابيا، كان ليهود مصر دور مهم في دعم الرأسمالية الوطنية والصناعة المصرية، وذلك حينما قرر طلعت حرب تمصير الاقتصاد وإنشاء بنك مصر. فقد كان معه يوسف أصلان قطاوي وزير الأشغال العامة ويوسف شيكوريل عام 1920، وهما يهوديان. ونظراً لكفاءته الاقتصادية، اختير يوسف قطاوي وزيراً للمالية، واستكمل أبناؤه رينيه وأصلان قطاوي دوره في بنك مصر وأيضاً في البرلمان كما كان والدهم قبل أن يغادروا مصر عام 1957. أما البنك الأهلي المصري فقد كان أبرز مؤسسيه روفائيل سوارس مع موسى قطاوي وروبير رولو، وثلاثتهم من أبرز الاقتصاديين اليهود، وشارك سوارس في تأسيس البنك العقاري المصري وتمويل سد أسوان. أما شقيقاه فيليكس ويوسف فقد شاركا مع آل قطاوي في إنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر.تأسيس المسرح المصري
في كتاب بعنوان يعقوب صنوع Yaqub Sanu بقلم الباحثين رونالد كون وجيسي راسل، نصل إلى عام 1869، حينما أسس الصحافي والشاعر المصري اليهودي يعقوب رفائيل صنوع المسرح القومي المصري، وذلك بدعم من الخديوي إسماعيل. وكان صنوع هو صاحب ومدير المسرح وفرقته الفنية وكاتب مسرحياته التي وصلت إلى 32 مسرحية قبل أن يناله غضب الخديوي إسماعيل وينفيه إلى باريس حيث توفي. وصنوع من الآباء المؤسسين لفكر القومية المصرية في العصر الحديث، ودعا إلى الكتابة الأدبية والصحافية بالعامية المصرية وقام بتجربة هذه الفكرة في إحدى جرائده. ويعتبر صنوع الأب المؤسس للمسرح المصري، ومن الآباء المؤسسين للقومية المصرية، ومن أهم رواد الحركة الصحافية والأدبية في مصر، وذلك خلال القرن التاسع عشر. ولم يكن صنوع حالة يهودية متفردة في الأدب المصري والعربي، فقد كان جورج قطاوي ناقداً ادبياً له منهجه العلمي الخاص، كما أن عدداً من اليهود المصريين الذين هاجروا إلى الخارج تقلدوا مناصب علمية وأدبية رفيعة، مثل جوئيل بنين أستاذ التاريخ بجامعة ستانفورد الأمريكية صاحب الكتاب الشهير "الهوية اليهودية المصرية" الذي يؤرخ للهوية المصرية لليهود بعيداً عن ادعاء أنهم شعب أجنبي عاش في مصر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون