"خمسة وخميسة" على لبنان. لم تقلها سيّدة مسنّة تعلّق كل آمالها على مجموعة من الماورائيات لـ"تُحاوِِط" عائلتها وبلدها من كل سوء، بل عبّر عنها تيّار سياسي لبناني يتخذ، للمفارقة، من المستقبل (مع كل ما يحمله المستقبل من ابتعاد متزايد عن الماورائيات) شعاراً له. مع "المستقبل"، وفي الموسم الانتخابي، تحوّل لبنان إلى أشبه بمنزل كبير علّق التيّار على بابه "خرزة زرقاء" كبيرة تحميه وتحمي السيادة والمساواة والأمان والإنماء والليرة واتفاق الطائف والعيش المشترك فيه… من عيون الحاسدين و"أهل الشرّ والقرّ". "نحنا الخرزة الزرقا - يلّي بتحمي لبنان" كان الشعار الذي اختاره التيّار الأزرق في خضّم انشغال الأحزاب السياسيّة في لبنان بابتكار شعارات انتخابيّة تشدّ عصب المناصرين وتُشرك الناس بالمسؤوليّة في انتخابات المجلس النيابي القادمة في مايو المقبل، مستخدماً كذلك شعار "صوتكم هو الخرزة الزرقاء في الصندوق". وانتشرت "الخرزة الزرقاء" في الشوارع اللبنانية على لافتات حملت شعارات السيادة والمساواة وغيرها.
انشغل كثر بالتعليق والسخرية على الشعار تحت هاشتاغ "نحنا الخرزة الزرقا"، واستعاد البعض أبعاد تلك الخرزة وقصصها التاريخيّة و"الشيطانيّة"، مُسقِطين إياها على الوعود السياسيّة التي أطلقها "تيّار المستقبل" مع إطلاق لائحته. المشكلات المستفحلة في لبنان، والتي أسهمت السلطة السياسيّة على مدار الفترة الماضية في تعميقها وسدّ نوافذ حلّها، وُضعت عليها "الخرزة الزرقاء". واستعاد البعض أساليب الحماية الماورائية المختلفة من عائلة "الخرزة الزرقاء"، ومنها صبّ الرصاص والتبخير ووضع حذاء قديم... ولفت آخرون إلى الأساليب البديهيّة التي طرحها سياسيون لحماية لبنان سابقاً، فيما حضرت تعليقات رأت أن "حزب الله" هو الخرزة اللبنانية. من ناحية أخرى، هزئ البعض بصاحب الفكرة وراء الحملة، واتهمه آخرون بأنه المسؤول كذلك عن مبادرات سابقة للحريري أثارت السخرية (مثل خلع الجاكيت في مهرجان شعبي بطريقة استعراضية). ولم يفت طرف آخر التصويب على الجانب الديني وحُرمة استخدام الخرزة.#نحنا_الخرزة_الزرقا pic.twitter.com/Oou0WMRnW2
— Saad Hariri (@saadhariri) March 11, 2018
"نحنا الخرزة الزرقا - اللي بتحمي لبنان" كان الشعار الذي اختاره التيّار الأزرق لحملة الانتخابات النيابيّة في مارس المقبل
"استُخدم التراث كأساس لبناء أيديولوجية سياسية، لدوره في إثارة الشعور بالاستمرارية والأصالة، ما يضمن الشرعية السياسية والشعور بالديمومة"، حسب ستيفن راتوفا
الخرزة الزرقاء بين الخرافة والتاريخ والثقافة
بينما ظهر الجدل بشأن لجوء الحزب السياسي إلى الخرزة الزرقاء منقسماً إما على أساس عصري يرفض الاعتماد على الماورائيات، وإما على أساس ديني يرفض اللجوء إلى التمائم، أو على أساس سياسي كان لينتقد "المستقبل" أياً كان شعاره، عاد تاريخ الخرزة الزرقاء وجذورها وأبعادها الثقافية والإثنيّة إلى دائرة الضوء. في منطقة البحر المتوسط، ولا سيما في دول الشرق الأوسط، تُعتبر الخرزة الزرقاء إحدى أشهر التمائم لمواجهة العين الشريرة التي يسود الاعتقاد أنها تتسبب باللعنة، وتُعرف بـ"عين الحسود". وتتخذ التميمة هذه أشكالاً مختلفة، فشكلها الدائري أو المربع الذي يحمل في وسطه عيناً يعود إلى تركيا باسم Nazar Boncuk، ويرمز إلى عين محدقة في الكون من أجل درء الشر. ولها أشكال أخرى في دول عربيّة أخرى منها الكف وتسمى "الخمسة" أو "يد فاطمة"، وفيها اللون الأزرق الذي يُقال إنه يدلّ على الحياة. وتُقسِّم الروايات لعنة عين الحسد إلى ثلاثة أنواع، واحدة تؤذي عن غير قصد وأخرى عن قصد، في حين أن الثالثة، والتي تُعدّ غير مرئية، هي "الأخطر". وتأخذ "الخرزة الزرقاء" شهرتها كونها ترى كلّ أنواع الشرور، حتى المخفي منها، وتردّها على صاحبها. تختلف الروايات حول أصول تلك الخرزة بين من يقول إنها فرعونيّة تمثل عين إله السماء والخير والعدل حورس الحارسة الخارقة، فيما نسبها البعض إلى الفينيقيين باعتبار أنهم كانوا يقدسون تانيت إلهة القمر، والدائرة الزرقاء وسط الكف ترمز للقمر. وقيل كذلك إنها رُسمت من قبل الشعوب التي استوطنت البحر المتوسط ضدّ الرومان (أصحاب العيون الزرقاء) تهديداً باقتلاع عيونهم.وحسب الروايات كذلك، اعتقد البابليون أن "أم سبع عيون" لها دور وقائي من النفس الشريرة، في حين كان اللون الأزرق فى بلاد الرافدين مقدساً لاعتقادهم أنه حجر كريم محاط بأسرار إلهية. مع الوقت تحوّلت "الخرزة الزرقاء" إلى موروث شعبي جمالي كذلك، وتفنّن الناس في صناعتها فأدخلوها في الحليّ والمجوهرات وفي الأواني والمفروشات المنزليّة، واعتُبرت تركيا الأشهر في استخدامها إذ لا يكاد يخلو منزل منها، كذلك الأسواق والمحال التجارية. كما نجحت تركيا في إدخال "ثقافة الخرزة الزرقاء" إلى قائمة اليونسكو للقيم الثقافية والتراثية عام 2014، إلى جانب ثقافات أخرى منها "ثقافة القهوة التركية وتقاليدها"، ثقافة "الراوي الشعبي"، "المولويّة"، و"المصارعة الزيتية التركية" وغيرها. لكن الموروث الشعبي/ الثقافي لا يلقى قبولاً دينياً يرى فيه شعوذة وشركاً بالله باعتبار أن وحده الحامي، في حين تشير آراء دينيّة أخرى إلى أن الخرزة الزرقاء "بدعة ترمز إلى شيطان لونه أزرق و له عين واحدة، وانتقلت البدعة من العصر البابلي الوثني عن طريق المشعوذين والسحرة وأتباع الشيطان"، حسب موقع "آليتيا" الدينيّ."خمسة وخميسة" على لبنان. لم تقلها سيّدة مسنّة تعلّق كل آمالها على مجموعة من الماورائيات لـ"تُحاوِِط" عائلتها وبلدها من كل سوء، بل عبّر عنها تيّار سياسي لبناني
… عُدّة سياسة
"غالباً ما تقوم ديناميكيّة العلاقة بين الموروثات والسياسة على إعادة إحياء أحد المظاهر البدائية لخدمة أغراض عمليّة في مواقف معيّنة، تكون عادة لصالح قوى مهيمنة أو أحزاب سياسيّة أو نخب"، حسب الباحث ستيفن راتوفا في نصّ له حول الأحزاب السياسية والتراث. يأتي ذلك ضمن مفهوم "ابتكار التقاليد" القائم على إحياء الممارسات القديمة عبر خلق هويات جديدة لها، وهو موضوع ناقشه علماء اجتماع كثر كإريك هوبزباوم وتيرينس رانغر عام 1983. وقد استخدُم التراث الشعبي، حسب راتوفا، في كثير من الأحيان كأساس لبناء أيديولوجية سياسية، وذلك لدوره في إثارة الشعور بالاستمرارية والأصالة ما يضمن الشرعية السياسية والإحساس بالديمومة. ويلفت راتوفا إلى تعريفه للأيديولوجيّة السياسية هنا بالمعنى السوسيولوجي العام، أي باعتبارها مجموعة من القيم والمثل العليا التي تُستخدم كأساس للعمل السياسي. في هذا السياق، يبدو بديهياً استخدام التراث في الحملات السياسية والانتخابية، وفقا لراتوفا، وهذا يتضمن التراث نفسه أو بعض جوانب تفسيره ورموزه. ولأن "التراث متأصل في اللاوعي الجمعي يصبح أداة سياسيّة قوية لتحريك الشعوب واكتساب الشرعيّة". ويلفت راتوفا إلى أن هذه الخاصيّة تجعل استخدام التراث كأداة سياسية مرغوباً لأغراض متعددة، فهو قابل للانتشار بسرعة ورموزه تلقى قبولاً لدى الناس، وهي قادرة على التكيّف بدرجة عالية وخاضعة للتحوّل المستمر. إذا ما أخذنا الجانب النظريّ للأمر، تصبّ خطوة "تيار المستقبل" في هذا الإطار، لا سيّما وأن الاستحقاق الانتخابي يأتي بعد تأجيل لسنوات، تراكمت خلاله مشاكل داخلية وخارجية كثيرة وازداد الحنق الشعبي، ما جعل الأحزاب تشعر بضرورة العودة إلى اللعب على وتر المشاعر والتراث… و"الخرزة الزرقاء" التي لا يشكّ المؤمنون بها، وهم كثر، أنها فعّالة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...