يشرح الفيلسوف الفرنسي جورج غوسدورف مسألة اللغة وكيف يمكن أن تكون همزة وصل بين مختلف الظواهر الاجتماعيّة من خلال التّعريف بكلّ منها ومحاولة تفكيك آليات اشتغالها. وفي ما يتعلّق براب النساء، لا ترتقي الأعمال/الأغاني المقّدَمة إلى مرتبة الظاهرة أو الحدث الذي هزّ الساحة الموسيقيّة في تونس. علماً أنّ هذا المجال كان دائماً حكراً على الرجال فقط، وهو ما يعزّز الحجّة القائلة بذكوريّة الراب عموماً والراب التونسي خصوصاً.
لكنّ الطرح اللغوي لغوسدورف يمكّننا من البحث عن أسباب فشل الراب النسائي في تونس، وأهمّ الثيمات التي تمّ الاشتغال عليها في هذه الأغاني. فاللّغة، وإن عملت على إخراج الفرد من دائرته الضيّقة نحو أفق أرحب، فإنها (كما سنبيّن لاحقاً) فشلت في مساعدة النساء اللاتي اتّخذنها وسيلة للولوج إلى عالم الراب. ذلك أنّ أغلبهنّ قد عوّلن على نسق خطاب سائد كمطيّة تساعدهنّ على الاندماج في منظومة راب لا تهتم بالقضايا النسويّة، ليجدن أنفسهنّ، فيما بعد، في قلب التيار السائد.
هنا، يمكن أن نطرح العديد من الإشكاليات التي تستدعي تحليلاً لتجربة النساء في الراب التونسي. وهو ما سنحاول أن نقوم به في هذا المقال من خلال التعرّض إلى مجموعة من أغاني الراب التي قدّمتها نساء تونسيات، وسنتتبّع الأبعاد الفنيّة والمرجعيات الموسيقيّة التي اعتمدنها، كما سنرى إذا كان التخلي عن الخطاب النسوي وتبني الخطاب السائد ناتجين عن حسابات براغماتيّة (بهدف الشهرة) أم هما ثمرة اقتناع بأنّ موسيقى الراب لا يمكن أن تكون حمالة طرح نسوي تقدّمي.
[caption id="attachment_140713" align="alignnone" width="1200"]
medusa[/caption]
الرابرز التونسيات والأفكار المسبقة: ساحة ترفضُ كلّ مختلف
انّ أوّل ما يتبادر إلى الذّهن عندما نتحدّث عن راب النساء في تونس، هو إمكانيّة إضفائه مزيداً من التنوّع على المشهد والتفرّد بخطاب خارج عن المألوف، كما اعتدناه من الرابرز الآخرين. غير أنّ الواقع يكشف حقيقة أخرى مغايرة تماماً ويعرّي مشهداً متصدّعاً تطغى عليه قيم وقواعد مهيمنة. فموسيقى الراب، التي بدأت في الانتشار منذ تسعينيات القرن الماضي في الأحياء الشعبيّة في العاصمة التونسيّة، لم تسجّل حضور أيّ عنصر نسائيّ، واكتفى المتلقي برابرز كانوا حبساء مواضيع معيّنة كالتعبير عن الفقر، والمعاناة، وفي بعض الأحيان يتطرقون إلى الأزمات السياسيّة (تلميحاً لا تصريحاً). هذه الأغاني المقدَّمَة، طوال سنوات، رسّخت في الأذهان فكرة أنّ موسيقى الراب جامحة ومتصلّبة. إذ أصبح الجميع يعتبرها مجالاً خاصاً بالرجال دون سواهم. لاحقاً، شهدنا حركة ارتداد لهذا النمط الموسيقي على مستوى التأثير على المتلقي، فمن ناحية أولى، هو باثّ لخطاب قويّ لا يخلو من قساوةٍ في الألفاظ التي تعتبر من التابوهات في المجتمع، ومن ناحية أخرى هو وسيلة لا تُسْتَغَلُّ إلا من قبل أصوات رجاليّة. هذان العنصران كانا حاسمين في تشكّل صورة نهائيّة، قوامها رفض المتلقي، الذي اعتاد صورة نمطيّة منذ عقود، لأيّ محاولة تجديد على مستوى مضمون الخطاب أو مُتَبَنِّيه. وهو ما مهّد إلى النفور من التجارب النسائيّة في الراب التونسي. وكما يشرح لنا عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي جون بودريار في كتابه "مجتمع الاستهلاك" (1970)، فإنّ المجتمعات التي استسلمت لتيارات الرأسماليّة قدّمت صورة نمطيّة عن المرأة، وأوهمتنا أنّها غير قادرة على اقتحام مجالات معيّنة. وهو ما أدّى إلى إسقاط مجموعة من الأفكار المسبقة على الساحة الفنيّة عموماً، وتحديداً موسيقى الراب. فقد ارتبطت هذه الأخيرة بالعنف وصراعها الدائم مع السلطة مما جعلها تصنّف موسيقى ذكوريّة/رجاليّة. هذا ما يحيلنا إلى التحدّث صراحة عن الميزوجينيّة التي، وإن مسّت مكانة المرأة من خلال اعتبارها أقلّ مكانة من الرجل، فإنّ خطورتها الحقيقيّة تتبلور في هذا المجال بشكل أوضح بالعودة إلى مجموعة من ميكانيزمات تفكير تؤدّي آلياً، في ذهن المتلقي، إلى إقصاء المرأة. لكنّ هذه القراءة لفهم أسباب فشل نساء الراب في تونس لا تخفي وهناً على مستوى الأداء الموسيقي. فرغم حضور المرجعيات الموسيقيّة فإنّ هذه التجارب لم تتطوّر ولم تحسّن الرابرز من أسلوبهنّ، مما عجّل بانتهاء التجارب.الخيارات الخاطئة: رابرز أضعن الطريق
انّ المتمعّن في وضع راب النساء في الولايات المتحدة، يستنتج بسهولة تزايد عدد الرابرز النساء وتمكنهن من فرض موسيقاهن وأعمالهن، فـنيكي ميناج وكاردي بي مثلاً تحققان ملايين الدولارات من مبيعات الألبومات، كما انّ الوضع في فرنسا لا يختلف كثيراً، فرابرز مثل شاي أو قبلها ديامز (قبل اعتزالها واعتناقها للإسلام) استطاعتا ترك بصمة وترسيخ ثقافة الراب النسائي في بلديهما وعلى الساحة العالميّة. فما الذي منع الرابرز التونسيات من تحقيق الشهرة ونيل استحسان المتلقي؟ https://youtu.be/YXdfgKjvl4c من الضروري الإشارة إلى أنّ المقارنة مع الولايات المتحدة أو فرنسا لا تصحّ، لأنّ السياقات التاريخيّة لنشأة هذا النمط الموسيقي ليست ثابتة ومتكرّرة في كلّ بلد. ففي تونس، واجه الراب النسائي مجموعة من الصعوبات، أهمّها الظهور المتأخّر. ذلك أنّ اوّل رابر برزت في بداية 2012 هي مِيدُوسَا (اسمها الحقيقيّ بثينة العوادي) التي شاركت في عدد من المهرجانات والحفلات. بدأت هذه الشابة مسيرتها مبكراً، وقد ولجت عالم الهيب هوب من بوابة الرقص. ولئن كانت موسيقى الراب احتجاجيّة وسياسيّة بامتياز، فإنّ التطرّق إلى هذا الموضوع لم يعد يتطلّب كثيراً من الشجاعة كما في سنوات ما قبل الثورة. لذلك لم تكن أعمال ميدوسا ذات طابع مميّز مخالف لما هو سائد، بل فضّلت أن تسبح في اتّجاه التيار المهيمن على مشهد الراب. وعلى عكس ما صرّحت به في أحد اللقاءات، لا نجد أثراً لمسألة الدفاع عن حقوق المرأة ومناهضة العنف المسلّط عليها والتشهير بالظلم الذي تتعرّض له داخل المجتمع. وهذه ثيمات كان المتلقي ينتظرها من شابّة اقتحمت عالم الراب لتكون حاملة لخطاب مضاد يكسر الخطاب السائد. هذا بالإضافة إلى انعدام البحث عن المستوى الموسيقيّ. ففي كليب هولدْ أُونْ تُفْتَتَحُ الأغنية بنسق بطيء هادئ ثمّ يتسارع الإيقاع تدريجياً ليبلغ مداه ويبقى متكرّراً مملاً لتؤدي الرابر النص بتدفّق يبدو بعيداً عن الإيقاع وجوّ الموسيقى. هذا التسرّع في الأداء وتجاهل البعد الفني كانا حاضرين أيضاً لدى رابر أخرى هي روكا التي لم تكتفِ بمجاراة تيار الذكوريّة السائد، بل عزّزته من خلال تركيزها على إظهار العديد من الكليشيهات في الأغنية المصورة على طريقة الفيديو كليب "بنتك رجل" (أي ابنتك رجل وهي عبارة باللهجة التونسيّة تعني أنّ البنت تحافظ على شرفها وتصون شرف العائلة تماماً كالرجال، وهو تصوّر ميزوجيني يعتبر المرأة في مكانة دونيّة). هنا، تظهر أهميّة اللغة واستيعابها رسائل الأغنية واختزالها للعقليات وما يدور في الأذهان. وهي من العناصر الحاسمة في تعزيز دونيّة المرأة من خلال التركيز على عبارات قصيرة ترسخ في الأذهان، خاصّةً عندما تأتي من امرأة. أغنية روكا هي نموذج عن الخطأ الذي تقع فيه العديد من الرابرز اللاتي يفضّلن اقتحام المجال باستعادة بعض المفاهيم الذكوريّة المتداولة بهدف جذب المتلقي وتحقيق أكبر نسب مشاهدة، غير أنّ العكس هو الذي يحدث. مثل هذه الأعمال غطّى على أعمال أخرى حاولت كسر الجدار ونشر أصوات النساء ومشاغلهنّ، ولعلّ خير دليل على ذلك هو أغاني شيماء التي تفرّدت، على عكس الأخريات، بتخصيصها حيّزاً مهمّاً لمناصرة المرأة، كما في أغنيتها بنات المعمل التي تحتجّ فيها على نظام العمل وعلى مجتمع يسحق المرأة العاملة الكادحة. حالة المجتمع والعقليات البالية أيضاً كانت محور أغنيتها "مقهورة" التي كانت بمثابة صرخة في وجه العادات والتقاليد المكرسة دونيّة المرأة. علماً أنّ هذه التجارب المتعدّدة، وإن كان بعضها ذا طرح جدي، طغى عليها التسرّع وغياب البحث الجدي مع ضعف واضح على مستوى الأداء. كما أنّ السياق والأرضيّة لم يكنا جاهزين لتقبّل راب نسائي بعد عقود من الهيمنة الرجاليّة على هذا المجال. وقد أدّى تضافر هذه العوامل إلى المساهمة في انتهاء معظم التجارب قبل أن تبدأ مع تسجيل بعض المحاولات المتواضعة، والتي لم تكن بالفاعليّة اللازمة لجلب انتباه المتلقّي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...