في تونس، وفي ظلّ أمركة العالم، ظهرت موسيقى الراب منذ تسعينات القرن الماضي مع مجموعات نشطت في معظم الأحياء الشعبيّة في العاصمة، واستلهمت من هذه الموسيقى الوافدة طابعها المقاوم للسلطة واتّخذت منها وسيلة للفت أنظار الشباب لمشاكلهم الاجتماعيّة ودعوتهم للثورة على أوضاعهم المتردّية مع مواقف تتسم بالجرأة، في بعض الأحيان (تلميحاً لا تصريحاً)، من السلطة السياسيّة التي تعتبر السبب الرئيسي في ما آلت إليه الأوضاع.
فمنذ التسعينات إلى ما قبل الثورة، كانت ساحة الراب في تونس تشهد تطوّراً تدريجياً على المستوى الموسيقيّ، ولكنّها ظلّت حبيسة مواضيع تتمحور أساساً حول الأوضاع الاجتماعيّة بما تحمله من مشاكل ومشاغل في وسط الشباب تنهل منها لتقدّم أعمالها.
لكن مع هبوب رياح الثورة وانفتاح المجال الاعلاميّ أمام الرابرز الذين خرجوا للضوء وأصبحوا مضطرين للتعامل مع الشهرة، ظهرت أساليب جديدة في تقديم موسيقى الراب رافقه كذلك ظهور لرابرز جدد لم تعرفهم الساحة التونسيّة، فهم إمّا شباب هاجروا وعاشوا خارج تونس لمدّة طويلة أم أنهم ينتمون لما يسمى بالجيل الثاني والجيل الثالث من المهاجرين التونسيين الذين وجدوا في موسيقى الراب ضالتهم واتخذوها وسيلة للتعبير عن مشاغلهم من زاوية جديدة على المستمع الذي اعتاد رابرز من قلب الأحياء الشعبية في تونس.
ههنا يُطرح العديد من النقاط المهمّة لأنّ هؤلاء الرابرز قاموا، لاإرادياً، بعمليّة انحياز بالراب التونسي ليخلقوا فضاءات ومجالات ومصادر إبداعيّة جديدة يرى البعض أنّها إضافة لهذا النمط الموسيقي في حين يرى البعض الآخر أنّهم مجرد دخلاء.
في هذا المقال، سنحاول التعرّف على أبرز هؤلاء الرابرز التونسيين الذين يقدّمون أغانيهم من خارج تونس. وسنعمد إلى مقاربة رؤاهم لهذه الموسيقى والمقوّمات التي يعتمدونها لجلب أكبر عدد من المتابعين. كما سنتتبع مكانة عامل البعد عن الوطن ومدى تأثير ذلك على موسيقاهم.
التسعينات الأميركيّة والألفية الثانية التونسيّة: الراب مُسْتَنْسَخاً
شهدت موسيقى الراب تطوّرا على عدّة مستويات، لكنّ أهمّها هو ظهور نقطة التقاء مع الرأسماليّة وستايل العيش انعكست على الأغاني المصوّرة على طريقة الفيديو كليب أين يبرز الرابر ثراءه ويستعرض البذخ الذي يعيشه. من التسعينات إلى الألفيّة الثانية كان الرابر بيغي مثلاً بأغنيته بيغ بوبا خير دليل على هذا التحوّل وذلك تعمّق أكثر مع الجيل الذي يليه مثل فِيفْتِي سَانت بأغنيته كاندي شوبْ. هذا الالتقاء بين النظام الرأسمالي وقيمه وتأثيرها على أغنية الراب التي أصبحت تجسّد صورة الخارج عن القانون، والمحارب للبوليس وقع استنساخها من طرف رابرز تونسيين مهاجرين اختلطوا بهذا الميدان وأصبحوا متأثرين بهذه الدائرة التي طبعت فنّهم، فكانت أغانيهم نتاج عمليّة استنساخ للراب الأميركي. الرابر التونسي كادوريم، الذي هاجر في سنّ السادسة عشرة من تونس إلى فرنسا ثمّ إلى الولايات المتحدة حيث يقيم الآن، هو أحد هؤلاء الرابرز الذين يسعون إلى فرض أنفسهم بقوّة المال. لقد قام هذا الرابر بمجموعة من الثنائيات مع تي- باين وغيره من الفنانين المشهورين. ما يلفت الانتباه في أسلوب كادوريم هو هذه النبرة المتعالية في نصوصه. فالإيغو-تريب بالنسبة له هو المبدأ وليس الاستثناء. والحقيقة أنّ هذا الرابر كظاهرة (إن كان يمكن اعتباره كذلك) هو من مظاهر الانحياز بالراب التونسي نحو مسالك جديدة ورؤى لم يعهدها المستمع التونسي الذي اعتاد كليبات مصوّرة بتكاليف وتقنيات بسيطة. مع كادوريم، أخذت موسيقى الراب بعداً جديداً (بالنسبة للتونسيين) فمنهجيّة عمله تعتمد أساساً على الاستثمار واللعب على الصورة بإخراج هوليودي مع الظهور محاطاً بالعديد من الموديلز. وربّما يستمدّ الاستفسار عن آليات انحياز هذا الرابر بالراب التونسي مستمداً لمشروعيّته من كون هذه الموسيقى كنمط متفرّد مرتبط في ذهن المتلقي التونسي ببحث على مستوى الكلمات والموسيقى رغم الإمكانات المنعدمة تقريباً. يعتبر كادوريم من الرابرز التونسيين المهاجرين الذين قلبوا هذه المفاهيم وقدموا إلى الساحة التونسيّة بعقليّة ربحيّة، متعالية ومستنسَخَة من الساحة الاميركيّة، التي ترتكز على إظهار جانب البذخ والإجرام والفحش. لذلك يمكن أن نستنتج أنّ الراب الذي يقدّمه كادوريم هو "راب مستورد" يصل في شكل صورة شاحبة رغم الأضواء والبهرجة. ففي أغنيته "إسكوبار"، يظهر ضعف الكلمة والأداء اذ يبدأ الكليب بموسيقى هادئة مع صوت نداء حاد كخلفيّة متموّجة ويباغت المستمع بانقلاب في الإيقاع مع موسيقى الكترونيّة مملّة ومتكرّرة لا تتماشى مع تدفّق الرابر الذي يسابق الموسيقى تارة ويتخلّف عنها طوراً. ولا يختلف الأمر كثيرا فيما يتعلّق بالنص فهو تباه بالإمكانات الماديّة وإشارة إلى انّه رقم واحد (موضوع قُتِلَ واستُهلك مئات المرات). وقد جرى تصوير الأغنية على طريقة الفيديو كليب والصور والإشارات، وهو انعكاس ونموذج حقيقيّ لتأثّر هذا الرابر بمدرسة راب البذخ والفحش الأميركي (خلال الكليب يرتدي سترة عليها علم الولايات المتحدة ويظهر بها أكثر من مرّة). يبدو كادوريم مثالاً حياً عن الرابرز التونسيين الذين تأثّروا بالمحيط الذي تعرفوا عليه في المهجر، فحاولوا نسخ هذا النموذج وتقديمه للمستمع التونسي. وإن جازفنا بالمقارنة بين كادوريم وأيّ رابر تونسي ينتج موسيقاه بإمكانات بسيطة سنلاحظ فرقاً شاسعاً على مستوى جودة الكلمات والموسيقى والأداء. فراب التبجّح على طريقة المدرسة الاميركيّة يبدو انّه لا يستهوي المستمع التونسي الذي كانت له تجربة مع هذا النمط مع رابر عاش في العاصمة (قبل أن يعتزل ويلتحق بتنظيم الدولة الاسلاميّة) هو إيمينو، الذي تمكّن من احتلال مكانة مهمة على الساحة، لأنّه اشتغل على الصورة وإبراز مظاهر الترف ولكنّه لم يهمل الموسيقى، كما أولى عناية كبيرة للنصوص والأداء، وهو ما يهمله كادوريم ولا يعطيه أيّ أهميّة لأنّه يعتبر موسيقى الراب مجرّد "بيزنس"، كما أشار في إحدى مقابلاته التلفزيونية. وهذا التوجّه نحو الماينستريم وتحقيق أقصى عدد ممكن من المشاهدات بات هدف جيل كامل من الرابرز التونسيين.من الأندرغراوند إلى الماينستريم: رابرز لا يلتفتون إلى الوراء
بين الرابرز المقيمين في تونس والرابرز المهاجرين، يوجد العديد من النقاط المشتركة، لعلّ أبرزها الاتّجاه نحو نزع موسيقى الراب من محيطها المعهود في سنوات ما قبل الثورة في تونس، والتخلي عن صبغة الأندرغراوند والتعويل أكثر على مقوّمات راب الماينستريم، أي الراب التجاري الذي تكون الموسيقى الالكترونيّة والإيقاعات السريعة الصاخبة نواته الأولى. ماستر سينا شاب تونسي مقيم في إيطاليا منذ نحو 15 سنة، تمكّن في السنوات الأخيرة من جذب الانتباه من خلال مجموعة الأغاني التي تحقّق ملايين المشاهدات. وتعتمد إستراتيجيّة هذا الشاب على التكثيف من الثنائيات وفي بعض الأحيان الثلاثيات (كما هو الحال في أغنية "فرنسا" مع الرابر الفرنسي صادق والمغني التونسي الشاب بشير). لقد فهم الرابر الشاب أنّ التعويل على الثنائيات وحسن اختيار الرابر المناسب الذي سيشاركه في الغناء سيكون وسيلة لكسب مزيد من الشهرة. غربة المهاجر والصعوبات التي يواجهها في بلاد المهجر هي ثيمة تتكرّر في أعمال ماستر سينا، ففي أغنية ماما، وعلى ألحان موسيقى صاخبة إلكترونية تقليديّة مصاحبة لإيقاع سريع، يؤدي الرابر بتدفّق متأنٍ ثمّ يفسح المجال للمغني التونسي أكرم ماغ. ويتكرّر الأمر في أغنية كْلاَنْدِيسْتِينُو (وهي كلمة ايطاليّة تعني الشخص الذي يقيم في بلد ما بوضعيّة غير قانونيّة) لكن هذه المرّة مع الرابر التونسي بلطي الذي يؤدي المقطع الخاص به على ألحان موسيقى خفيفة مع إيقاع بطيء ليفسح المجال بعد ذلك إلى ماستر سينا الذي يكسر الإيقاع ويغني مراوحاً بين اللغة الايطاليّة واللهجة التونسيّة. في هذه الأغنية، ثمّة اعتناء ملحوظ على مستوى السيناريو الذي سعى مخرج الكليب أَلِيسَاندْرُو مُورْدَاتشْ إلى أن يجعل الصور في تناسق مع كلمات الأغنية. فالكلمات تعتبر حجر الزاوية في أغنية الراب والنجاح الذي حقّقه الرابرز التونسيون وموسيقى الراب عموماً هو مخاطبتها للمستمع بلغته، غير أنّ ذلك قد يتغيّر إذا ما رأينا النجاح الذي يحقّقه الرابر غالي الذي تُتداول أغانيه بين التونسيين رغم أنّه يؤدي باللغة الايطاليّة.حاجز اللّغة تكسره الموسيقى: غالي نموذجاً
غالي رابر إيطالي من أصول تونسيّة. في أحد البرامج التلفزيونية الأكثر متابعة في تونس، تعرّف الجمهور على هذا الشاب الذي يقدّم موسيقى بلغة لا يفهمها المتلقي التونسي. لكنّ المتمعّن في الصفحات على شبكات التواصل الاجتماعيّ، يلاحظ انّ تلك المختصّة في نشر موسيقى الراب في تونس تخصّ غالي بحيّز مهمّ. ذلك أنّ الموسيقى يمكن أن تكسر حاجز اللّغة رغم أنّ هذه الأخيرة عنصر محوريّ في نجاح علاقة الرابر بالمستمع. غالي يفخر بأصوله التونسيّة وهو فنان عالميّ (أكثر من مليون مشترك في قناته على اليوتيوب) وقد اعتمد في أغانيه على التركيز على الصورة وعلى هندامه. في الكليبات، ثمّة حركات مدروسة وتمثيل للإيهام بالواقعيّة وجذب المتلقي. كما أنّ الاعتماد على المشاهِد المتتالية والمتنوّعة والمصوّرة بحرفيّة عالية يمكن أن تكون وسيلة لجذب المستمعين الذين ليسوا بالضرورة من مجيدي اللّغة الايطاليّة. "أنا منفهمش بالطليان أما نسمع في الموزيكة ونتفرّج في الكليبات نعمل كيف." ( أنا لا أجيد الايطاليّة لكنني أكتفي بالاستماع للموسيقى ومشاهدة الصور وهذا كافٍ) هكذا يعلّق أحد متابعي غالي على صفحته في فيسبوك. &feature=youtu.be لقد نجح هذا الرابر الشاب في فتح مجال آخر في ما يتعلّق بالرابرز التونسيين المقيمين خارج تونس، وهي معضلة اللّغة التي بات جلياً أنّها لا تمثّل عائقاً أمام انتشار الرابر والإقبال على موسيقاه، وفي هذا انتصار للمدرسة التي ترجّح كفّة الموسيقى على النص في أغاني الراب. إذ يرى المدافعون عن هذا الرأي أنّ موسيقى الراب قائمة أساساً على الموسيقى والإيقاع. وأما أداء الرابر والتدفّق والكلمات فهذه كلّها أمور ثانويّة. وهو نقاش مفتوح في ظلّ تطوّر الوسائل التقنية التي يشتغل عليها الرابر للوصول إلى العالميّة وتحقيق شهرة كبيرة، ما يجعل هذا النمط الموسيقي داخل دائرة العولمة ولعبة الاتصال ووسائل الإعلام. الإعلام ووسائل التواصل الحديثة: الراب مُشَكِّلاً للوعي الجماعي إنّ أغلب الرابرز التونسيين المقيمين بالخارج لهم ملايين المتابعين في قنواتهم على اليوتيوب وفي صفحاتهم على فيسبوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعيّ. هذه الوسائل ساهمت في أمرين: من جهة تقليص الهوّة واختزال البعد الجغرافيّ وسرعة التفاعل مع المحتوى المقدّم من الرابر من جهة أخرى. هذه المكانة التي يحتلّها معظم الرابرز الذين يعيشون خارج تونس (أوروبا والولايات المتّحدة) جعلت وسائل الاعلام التقليديّة تسعى بدورها إلى مواكبة الحدث وتسليط الضوء على أعمالهم. وكان لذلك انعكاسات جمّة، لعلّ أهمّها تصاعد أهميّة موسيقى الراب ومكانتها إذ تحوّل هؤلاء الرابرز، بفضل الصورة المضخّمة والتركيز الإعلاميّ المبالغ فيه، إلى أيقونات تحوّلت تدريجياً إلى مثل عليا للكثير من الشباب الذين يحلمون بعبور الحدود ويرون في قصصهم مثالاً النجاح. علماً أن وسائل التواصل الحديث هي التي فسحت المجال أمامهم ليتحوّلوا بموسيقاهم إلى وسيلة تشكّل جزءاً من الوعي الجماعي يستغلّها التلفزيون للانحراف بها لمصلحته للسيطرة وجذب المشاهد بهدف الهيمنة على قسم من المجتمع (وهي مهمّة التلفزيون الأصليّة) كما يشرح ذلك عالم الاجتماع الفرنسيّ بيار بورديو (1930-2002).رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم