شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
المظلومية الاجتماعية... لماذا ما زلنا نذرف الدموع في ذكرى كربلاء وأسبوع الآلام؟

المظلومية الاجتماعية... لماذا ما زلنا نذرف الدموع في ذكرى كربلاء وأسبوع الآلام؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 12 مارس 201804:45 م

كثيرون يتفاعلون مع الظلم بالشعور بالانزعاج أو الاضطراب. ولا يمر وقت طويل قبل أن يجدوا أنهم مدمنون على الاستياء والغضب، مثلما هناك مدمنون على المخدرات، عبر تفاعلهم ضد هذا الأمر أو ذاك، لأنهم يرفعون به شعورهم بذواتهم، بحسب المعالج الروحاني والخبير النفسي الألماني، إيكهارت تول في كتابه "أرض جديدة".

يقول تول: هذا البحث عن الذات من خلال تتبع الظلم للتعبير عن الامتعاض منه، ربما يحدث بصورة مغايرة نسبياً، هي الظهور كضحية لجذب التعاطف وشد الانتباه؛ فهذا الشخص يبحث عن الاهتمام كغيره، ولكنه يفشل في الحصول عليه مصحوباً بالمديح والإعجاب به، فيبحث عنه بإثارة رد الفعل السلبي لدى الآخر، كما الطفل الذي يبكي كي تهتم به أمه.

متى تنشأ المظلومية؟

المسألة لا ترتبط بمديركم الذي يضطهدكم بقدر ما ترتبط بكم أنتم، وبنشأتكم ومحيطكم اللذين كوّنا شخصيتكم. تلك الأفكار موجودة قبل أن تتعلموا نطق الكلام، ويمكن تسميتها بالافتراضات اللاواعية وغير المنطوقة، يقول إيكهارت تول.

"لا يمكن الوثوق بالناس"، قد يكون هذا مثالاً لمثل هذه الافتراضات اللاواعية في شخص لم تكن علاقاته الأولية بذويه وأقربائه متسمة بالدعم والثقة. ومثلها: "لا أحد يحترمني أو يقدرني"، أحتاج إلى أن أحارب كي أعيش"، "ليس هناك ما يكفي من المال"، الحياة تخذلني باستمرار"، "لا أستحق الحب، وجهي دميم، جسدي نحيل". هذه الافتراضات اللاواعية تكوّن عواطف لدى صاحبها، وتظل كامنة فيه، ثم تتولد عنها حركة عقلية أو ردود أفعال مباشرة تجاه اللحظة التي يعيشها في حاضره، وبهذه الطريقة يتكون واقعه، وتتشكل مواقفه مع كل المحيطين به.

تلك العواطف والأفكار يطلق عليها تول تسمية "كتلة الألم"، ويوضح أنها تتجدد وتصحو داخل صاحبها، بالتغذي من الأفكار والمشاعر السلبية التي يواجهها في حياته، فتستعمل أصغر الأحداث وأقلها أهمية كمحرك لها، كقول قاله أحدهم أو فِعل فَعَله، لتنفك كتلة الألم وتغلف عقل صاحبها. بل أحياناً لا يقول أو يفعل أحدهم شيئاً، وحينها لا تجد كتلة الألم ما تتغذى منه، فتحاول التهام أفكار صاحبها، وفجأة يصبح تفكيره سلبياً بصورة عميقة، رغم أنه يجلس بمفرده.

إدمان المظلومية وتجددها

ظلم بعد آخر، يتحول الشخص إلى مدمن للتظلم، وتكبر كتلة الألم بداخله، ويحدث تماهٍ بينه وبين مشكلته فتلتصق به، ويمنح ذاته تعريفاً بها، فيصبح اسمه مقروناً بـ"فلان الذي يستغله مديره" أو "فلانة التي يضربها زوجها"، بحسب تول.

تخلق عقولنا المظلومة ترددات جاذبة لمظالم جديدة تضاف إلى القديمة، فتصبح مثل المغناطيس، تجلب من خارجها ما يشبه ما في داخلها، فالشبيه يجلب إليه الشبيه، وكل ما نفكر فيه يجذب إلينا أفكاراً مماثلة، بحسب روندا بايرن في كتابها "السر" The Secret..

"اللي بيخاف من العفريت بيطلعله"، مثل شعبي مصري، أنتجته خبرة مجتمعية تؤكد أن مجرد التفكير في حدث سيىء يعمل على جلبه. وكان العرب يتشاءمون من شخص ويتفاءلون بآخر، وكأن مجرد وجود أحدهما –ولو لم يتدخل في أي فعل- يجلب السعادة أو التعاسة. فإذا كان مجرد التشاؤم أو التفاؤل قد يقود إلى حدث، فإن الإيمان بشيء يجعل حدوثه أمراً أقرب إلى الحقيقة.

مع الوقت، تتكون دوائر عصبية في الدماغ، مؤلفة من قنوات اتصال بين "الأنا" والشيء الذي تتلقاه، وكلما ازداد احتكاكنا أو ممارستنا لسلوك ما، تقوى هذه الدوائر، فيصبح سلوكنا المعتاد، أي الشكوى من الظلم أو مقاومته أو البحث عنه، أمراً لا إرادياً، نفعله دون وعي، وكلما مارسناه قويت الدوائر والروابط العصبية الخاصة به، وبالتالي أصبح التخلص منه أمراً صعباً، يقول أستاذ الطب النفسي جمال فرويز.

ويوضح فرويز لرصيف22 أن المسألة تنعكس على المحيطين بهذا المتظلم دائماً، لأن الظلم يتجذر في عواطفه، فتشوّه تصوّره لأي حدث يمر به، وبالتالي يسيء فهم مَن يتعامل معهم، ويترجم تصرفاتهم بشكل سلبي دائماً، ويبدو ذلك في أسلوب حديثه، ولغة جسده، وينعكس على ملامحه، التي اعتادت التجهم والانكسار والإحباط.

المجتمع أيضاً يصاب بالمرض

المظلومية هي كتلة ألم قديمة وتتجدد، وهي كذلك بالنسبة للمجتمعات أو الجماعات البشرية كما هي للأفراد. هي كربلاء عند الشيعة، ومحارق النازية عند اليهود، ومقتلة رابعة العدوية بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين. المظلوميات تمر بجماعات فتورثها للأجيال اللاحقة من أفرادها، فتمتزج بعواطفهم وأفكارهم الجمعية، وتترجم بعد ذلك إلى تصرفات أتوماتيكية لا واعية منهم. ويصعب تغييرها، لأنها تصبح بمثابة هويتهم، والغذاء الاجتماعي الذي يقتاتون عليه، بحسب ما يرى غوستاف لوبون، رائد "علم النفس الجماعي" في كتابه "سيكولوجية الجماهير".

ويرى لوبون أن هناك تشابهاً بين الخصائص التشريحية (الجسمانية) للكائنات الحية وخصائصها النفسية. ففي الخصائص التشريحية نجد بعض العناصر الثابتة أو القليلة التغير في أجساد النوع الواحد، والتي تلزمها مدة لا تقل عن العصور الجيولوجية كي تتغير، ولكن هذا لا يمنع أن هناك بعض العناصر التشريحية المتغيرة أيضاً.

وبالأمر نفسه تتسم الخصائص الأخلاقية والاعتقادية لجمهور معين. فمن هذه الخصائص جزء راسخ وثابت يحتاج إلى عصور كي يمر عليها التغيير، وعليه تضاف آراء متغيرة. وتتحرك هذه الآراء المتغيرة على الاعتقادات الثابتة، كتحرك الرمال على الصخور، يقول لوبون.

دول مثل كندا أو أستراليا الناشئتين منذ قرنين تقريباً لدى مجتمعاتها كتل ألم أخف بكثير من دول الشرق الأوسط التي تملك حضارات ممتدة لآلاف السنين

مما سبق، نستطيع تفسير الدموع التي يذرفها شيعة الحسين بن علي، منذ ما يقرب 1400 عام حتى الآن في ذكرى كربلاء. وكيف أن قضية المحرقة لم تزل حية لدى اليهود منذ أكثر من 60 عاماً، ولا يزالون يشهرون تهمة "معاداة السامية" في وجه كل من يخالف روايتهم السائدة عنها حتى اليوم.

تفاوت المظلوميات والشرق الأوسط المأزوم

تختلف كتل الألم في وزنها من إنسان إلى إنسان، حسب النشأة والبيئة والعوامل المحيطة. وكذلك من مجتمعات إلى أخرى. فالبلدان التي عانت من ارتكاب أعمال عنف جماعية، لديها كتل ألم أثقل من غيرها. وكلما قَدُم تاريخ دولة كان لدى شعبها كتل ألم أثقل من الدول الحديثة نسبياً. فدول مثل كندا أو أستراليا الناشئتين منذ قرنين تقريباً لدى مجتمعاتها كتل ألم أخف بكثير من دول الشرق الأوسط التي تملك حضارات ممتدة لآلاف السنين، يقول إيكهارت تول.

ويؤكد أن شعوب الشرق الأوسط تمتلك كتل ألم جماعية حادة (تاريخ طويل من حروب، احتلال، نزاعات، اضطهادات، تمييز...) وجزء كبير من سكانها يجد نفسه مجبراً على إخراجها، عبر دورة مجنونة لا تنتهي من العنف، ومن خلال هذه الدورة من العنف تجدد كتلة الألم نفسها باستمرار، بحسب قوله.

المظلومية تجعل الإنسان بطبعه مدافعاً مقاوماً لا ناهضاً... ويقسّم المفكر المغربي محمد عابد الجابري الأمم إلى قسمين، أمم ناهضة، وأخرى مدافعة، ويشير في كتابه "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" إلى أن الطرفين يلجآن إلى الماضي (بآلامه ومظلومياته) ولكن الأمم الناهضة تختزل الماضي في أصول تعيد إحياءها بالصورة التي تتجاوز الماضي والحاضر إلى المستقبل، أما الأمم المدافعة فتلجأ إليه لتأكيد شخصيتها بسبب إحساسها بالخطر الخارجي الذي سيفتك بها، فتعيش به وتضخمه.

الأمم الناهضة تختزل الماضي في أصول تعيد إحياءها بالصورة التي تتجاوز الماضي والحاضر إلى المستقبل، أما الأمم المدافعة فتلجأ إليه لتأكيد شخصيتها بسبب إحساسها بالخطر الخارجي الذي سيفتك بها، فتعيش به وتضخمه

ويوضح الجابري أن الظروف الموضوعية التي حركت اليقظة العربية الحديثة ( فترة الاستقلال وقيام الجمهوريات خلال القرن العشرين)، جعلت من ميكانيزم النهضة ميكانيزماً للدفاع أيضاً، وبالتالي فإن عملية الرجوع إلى الماضي التي كان من المفترض أن تتم في إطار نقدي في حال النهضة، تشابكت مع عملية الرجوع إلى الماضي والتمسك بالتراث، للاحتماء بهما أمام التحديات الخارجية، فأصبح الماضي (بآلامه) في واقعنا العربي مطلوباً، ليس فقط من أجل الارتكاز عليه والقفز إلى المستقبل، بل أيضاً، بالدرجة الأولى، من أجل تدعيم الحاضر، لتأكيد الوجود وإثبات الذات.

حتى أوقات العرب السعيدة يحيطها الحزن

لحظات الانتصار العربية التي كان من المفترض أن تكون مبتهجة لم تخلُ من مظلومية، ويظهر ذلك في أغانٍ وطنية وعاطفية. ولنأخذ أمثلة من الأغنيات الاحتفالية بنصر أكتوبر 1973 في مصر وسوريا حيث كتب محمد كمال بدر ولحن أحمد صدقي للمجموعة "بالأحضان يا سينا"، والتي صورت حرب 73، وقد وقفت عند حدود الأخذ بالثأر، ولم تتجاوز الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، مذكرةً المستمع بالحزن والجراح التي خلفها عدوان 1967، وكانت جملتها الرئيسية التي تتكرر بعد اللازمة: "التار التار التار، التار نده علينا، جبنا السلاح وجينا، لشطنا الجريح ورملنا الحزينة".



وغنت نجاح سلام ومحمد سلمان من كلمات الأخير وألحانه "سوريا يا حبيبتي"، التي تفتخر بالنصر الذي حققه الجيش للمواطن الذي استعاد كرامته، ولكن الأغنية لم تنسَ أن تذكرنا بـ"شعلة الجراح التي تنير درب ثورتي"، وكأن الحزن هو الباعث للفرح والمحفز على الانتصار.



وعلى مستوى العلاقات العاطفية، نجد كتل الألم حاضرة حتى في أوقات السعادة، فهذه ليلى مراد تغني على لسان فتاة تبكي حين تتصالح مع حبيبها، خوفاً من تجدد الخصام: "وإن جه صالحني أبكي وأفكر... من خوفي ليصالح تاني".



وقت لقاء الحبيبين تحيطه السعادة دائماً، ولكن في المجتمع العربي عادةً يصحبه الألم، لأن هناك من يتجسس عليهما، وسيفضح أمرهما أمام المجتمع، لذلك عليهما اختلاس هذا اللقاء، حين يعم السكون، كما قالت فيروز في أغنية "سكن الليل".



هل يمكن التخلص من كتلة الألم؟

على مستوى الجماعات صعب، بحسب غوستاف لوبون، ولكن على المستوى الفردي "نعم" يمكن... ولكن كيف؟ يجيب إيكهارت تول: أولا: يتطلب الأمر نزاهة شخصية لكي تعرفوا ما إذا كنتم تحملون تظلماً أم لا، وما إذا كنتم قد تسامحتم مع شخص أو عدو أم لا. وإذا كان الأمر كذلك فلتكونوا واعين بالفكر الذي يُبقي التظلم حياً بداخلكم، ولإحساسكم بالمشاعر التي هي تجسيد لتلك الأفكار؛ ثانياً: لا تحاولوا إجبار نفسكم على التخلص من المظلومية، ولكن المسامحة ستأتيكم تلقائياً بعد أن تدركوا المظلومية بداخلكم، وتوقنوا أنها مرض، ثم تستوعبوا أن لا هدف منها، سوى أنها تقوي لديكم إحساساً زائفاً بالذات، وأنها مجرد حمولة سلبية تعطلكم عن الاستمتاع بحياتكم. لا يملك الماضي قوة تمنعكم من أن تكونوا حاضرين الآن. وحدها المظلومية تجاه الماضي يمكنها فعل ذلك، يقول إيكهارت تول.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image