انظروا حولكم، إلى إخوتكم وأصدقائكم وشركائكم وفنانيكم المفضلين، إنهم موجودون، نسبتهم الثلث تقريباً في معظم المجتمعات، لا يتكلمون كثيراً، يفكرون في الأمر قبل أن ينفذوه، يميلون إلى الهدوء، يستمتعون بوحدتهم، يكرهون الإنجاب والأسرة والانتظام في جماعات، من نوعيتهم خرج الأنبياء والفلاسفة والمبدعون في الإخراج والتمثيل والكتابة، يفهمونكم تمامًا، أكثر من أنفسكم، إلى درجة أنهم يتساءلون "لماذا لا تفهمون أنفسكم؟".
يعود مفهوم "الانطوائي" إلى عشرينيات القرن الماضي مع العالم النفسي كارل يونج، بحسب تقرير في مجلة "ذي أتلانتيك"، وهم ليسوا خجلين بالضرورة، فالخجلون قلقون أو مذعورون لأسباب متعلقة بالمجتمع، الانطوائي يجد الآخرين متعبين، ونقيضه الشخص المنفتح الذي يمده الناس بالطاقة، ويذبل ويتلاشى عندما يكون وحيداً.
الانطوائيون يحتاجون إلى "إعادة شحن" بعد ساعة أو ساعتين من الاختلاط بالناس، بالنسبة إلى الانطوائي أن تكون مع نفسك وحدك هي حالة تصالحية مثل النوم، والأكل، وشعارنا: أنا بخير، أنا بخير... في جرعات صغيرة".
طفولة الانطوائيين الصعبة
في التاسعة من عمرها ذهبت الانطوائية سوزان كين إلى مخيم صيفي، ووضعت والدتها الكتب التي تعشق قراءتها بين الملابس في حقيبتها، إذ كانت عائلتها تمارس القراءة كنشاط اجتماعي. تصف كين تجربة القراءة مع عائلتها: "كنا أحراراً في التجول في عوالم المغامرات داخل عقولنا". تخيلت سوزان كين نفسها في المخيم الصيفي جالسة بين عشر فتيات في غرفة يقرأن الكتب بارتياح مرتديات قمصان نوم متجانسة، ولكن عندما خرجت كين إلى المخيم أمرتهم المرشدة أن يهتفن "رودي"، وهي كلمة تعني "غوغائية" بشكل جماعي لترسيخ روح المخيم، نفذت كين تعليماتها متسائلة: "لماذا يجب أن نكون "رودي؟" غوغائيين". كانت تتحين الفرص لتترك صديقاتها وتنعزل مع القراءة، جاءت "الفتاة الأكثر حيوية في المخيم نحوي وسألتني: لماذا تتصرفين وكأنك رخوة منعزلة؟" لاحَظَت أن كلمة رخوة هي العكس تماماً لغوغائية. يحاول الانفتاحيون تطبيق نمط حياتهم على الانطوائيين، ويطلقون عليهم نعوتاً معيبة، في مصر يصفون الانطوائي بأنه "برّاوي" وهي كلمة ذات ظلال سلبية، ويسألون أحدهم طوال الوقت: لماذا لا تتزوج؟ صديقتك تشتهيك، هل فقدت الرغبة في الحميمية؟ لماذا لا تشاركنا في الحديث، لماذا لا تستثمر مواهبك مادياً وتتخلى عن "أفكارك الخيالية". لذا توصلَت سوزان كين وهي في شبابها إلى أن تكون مثل المنفتحين: "في كل مرة وصلتني رسالة محورها أن نمط حياتي الهادئ والانطوائي لم يكن بالضرورة الخيار الصحيح، ويجب عليّ أن أنطلق إلى الانفتاح والتحرر أكثر". رغم أنها في داخلها كانت تشعر أن "هذا خاطئ وأن الانطوائية شيء رائع، والانطوائيين رائعون كما هم"، ولكنها رفضت فطرتها، واستبدلت رغبتها "الأزلية" بأن تكون محامية في شارع الأثرياء بأمريكا "وول ستريت"، والسبب "كنت أريد أن أثبت لنفسي أني أستطيع أن أكون مندفعة ومنفتحة كذلك". ووصل بها الأمر إلى أنها تحدّت طبيعتها الانطوائية في نمط حياتها: "كنت أحاول دوماً الذهاب إلى الحانات المزدحمة بينما كانت رغبتي في أن أحصل على عشاء هادئ مع أصدقائي، وكنت أقوم بتلك الخيارات المعاكسة لإرادتي بصورة تلقائية لدرجة أنني لم أنتبه لما كنت أقوم به". تقول كين "ما يقوم به معظم الانطوائيين خسارة كبيرة لنا حقاً، خسارة لزملائنا ولمجتمعنا. خسارة للعالم أجمع" وتبرر ذلك بأن الانطوائيين يقومون بأفضل شيء يجيدونه عندما يتعلق الأمر بالقيادة والإبداع. ولكن عندما تتعلق حالة الانطوائية بالعلاقات العاطفية والاجتماعية والجنسية فهناك كلام آخر.لماذا يقمع الناس الانطوائيين؟
"كنت أحاول دوماً الذهاب إلى الحانات المزدحمة بينما كانت رغبتي في أن أحصل على عشاء هادئ مع أصدقائيعلمًا أن مدارسنا وأماكن عملنا صُممت مراعاة للمنفتحين، منذ الطفولة يحرض الأساتذة الطلاب على التفكير والنشاط الجماعي، وإذا لاحظ أحدهم على الطفل علامات الانطواء فقد يوبخه ويحفزه ليشارك زملاءه في نشاطهم كما حدث لكين في المخيم. لماذا يقمع العالم الانطوائيين؟ لماذا لا يتعاملون مع العزلة كحالة اختلاء بالنفس يمكن توظيفها إبداعياً واستثمارها، بدلاً من كونها وصمة أو عيباً سلوكياً؟ ترى كين أن السبب هو أن معظم المجموعات تنصاع لرأي الفرد الأكثر جاذبية وسلطة في الغرفة، وغالباً ما يكون منفتحاً، وتضيف "حتى لو لم يكن هناك علاقة منعدمة بين الأفكار الصحيحة وطريقة عرضها من قبل ذلك الفرد" سينجذب إليه الكثيرون. وتاريخياً، تشير كين إلى أن التغير الثقافي هو المتسبب في كل ذلك، وهو قادم من المجتمعات الغربية، وتقول إن أمريكا باتت تفضل الرجل المغوار على الرجل المتأمل والمتفكر، ولكن في البداية كان الأمريكيون يعيشون ما يطلق عليه المؤرخون "ثقافة الطباع". وتتابع "كنا لا نزال في تلك المرحلة نُقدّر الأشخاص لما يكمن في دواخلهم ولمبادئهم الأخلاقية، نظرة واحدة لكتب المساعدة الذاتية في تلك الحقبة، تكفي لتجدوا عناوين على شاكلة "الشخصية أعظم شيء في الكون"، وقدّر الأمريكيون كتباً تقدس شخصيات مثل إبراهام لينكولن، الذي كان يحب التواضع والابتعاد عن التعجرف. ولكن في القرنين الماضيين "دخلنا ثقافة جديدة يسميها المؤرخون عصر الشخصية"؛ وما حدث هو التطور من اقتصاد زراعي إلى عالم شركات تجارية كبرى، والناس انتقلوا من القرى الصغيرة إلى المدن، وبدلاً من العمل مع أشخاص يعرفونهم طيلة حياتهم بات عليهم أن يثبتوا أنفسهم ضمن حشد من الغرباء، لذا باتت صفات الجاذبية والكاريزما مهمة جداً، وكتب المساعدة الذاتية "التنمية البشرية" أصبحت عناوينها "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس" هذا هو العالم اليوم. في التراث العربي امتدح متصوفة وفلاسفة وفقهاء حالة الانطواء تلك، ولطالما اُمتدحت "العزلة" وعدم الاختلاط بالناس لما فيه من تجنب التعلق بالشهوات والمتع الدنيوية، ولطالما احترمت المجتمعات الشرقية الذين لا ينخرطون مع الناس في شؤون التجارة والزواج والسياسة، وفي الإسلام إن لم تكن منطوياً بالفطرة يصعب عليك سلوك المسالك الروحانية والصوفية التي تتطلب "الخلوة" حتى تحصل لديك "تزكية" النفس من الدنيا.
المنفتحون لا يفهمون الانطوائيين
يرى الصحفي الانطوائي جوناثان روتش في مقال له بموقع "ذي أتلانتيك" أن الانطوائيين كثيراً ما يُساء فهمهم، "من الصعب جداً على المنفتحين أن يفهموا الانطوائيين" وهي جملة رددها خبراء نفسيون في التعليم مثل: جيل دي بوروس، وليزا كمزيغ؛ فالمنفتحون يقضون كل أوقاتهم متفاعلين مع الناس، ومن الصعب أن يفهم المنفتح أن المنطوي يريد أن يكون وحيداً أكثر من أن يكون مع أصحابه. يقول روتش: "لقد قضيت وقتاً طويلاً أشرح للمنفتحين أني أحتاج أن أكون مع نفسي، هم يستمعون للحظة ثم يعودون لصياحهم ونباحهم". أكثر المفاهيم الشائعة خطأً عن المنطوين هي أنهم متكبرون، بحسب روتش، وذلك بسبب "كوننا الأكثر ذكاءً، وأكثر تأملاً، واستقلالية، وقيادة، ودقة، وحساسية من المنفتحين، ويمكن أن يكون ذلك بسبب كوننا أكثر ميلاً لعدم إجراء محادثات قصيرة، ولميلنا إلى التفكير قبل الكلام، ولكن المنفتحين يفكرون ويتحدثون في نفس الوقت". أسوأ ما لا يدركه المنفتحون، بحسب روتش، "هو العذاب الذي يسببونه لنا، فرغم كثرة كلام المنفتحين نتساءل ما إذا كان المنفتحون يكلفون أنفسهم عناء الاستماع إلى ذواتهم، وهذه الطريقة السخيفة التي تنتهي إليها الأحاديث من مزاح ونكات، نأمل أن يأتي يوم تصبح فيه حالتنا مفهومة، ويقول الانطوائي للمنفتح: "أنا انطوائي، أنت شخص رائع أحبك، ولكن الآن أسكت".الخيال المتطرف للانطوائيين
يتمتع الانطوائيون بقوة هائلة في التفكير، والخيال، والشعور، وغالباً ما يكون الواقع محبطاً وغير متناغم مع تطلعاتهم الإبداعية والإنسانية؛ فيتجهون للداخل حينذاك. يجسد الممثل النجم المصري عادل إمام في فيلم "المنسي" إنتاج 1993 من إخراج شريف عرفة، وكتابة وحيد حامد، الشخصية الانطوائية المحبطة، والتي استعاضت عن طموحها في العالم بخيالها، خاصة المشهد الذي يُدخل فيه الفنانة يُسرا عالمه النفسي وهو يلقي خطاباً رئاسياً بلاغياً وسط حشود غير موجودة إلا في خياله فقط، تهلل وتهتف باسمه. صديقتي س. مدرسة أطفال، 30 عاماً، تحكي عن الرجال الذين تعرفت إليهم في عالم الواقع، فتقول إن المتحررين منهم يتعاملون مع الفتيات وكأنهن "أدوات للإمتاع الجنسي"، ويجردونهن لا شعوريا أو شعورياً من إنسانيتهن وآدميتهن. قلة من الشباب الذين قابلتهم يرغبون فيها جنسياً، وفي الوقت ذاته يحترمون شخصيتها وآدميتها. وعندما تقدم لها عرسان، كان الكثير منهم يفرض عليها أشياء، وهي لا تحب أحداً أن يفرض عليها نمط حياتها. أحدهم طالبها بأن تترك وظيفتها لتكون "ست بيت"، وآخر لم يكن مستعداً مادياً لتحمل الحد الأدنى من التكلفة المعيشية، وأراد أن يعتمد عليها، فتساءلت "في مقابل ماذا؟". ينصح صديقتي س. كثير من أصدقائها المنفتحين أن تكون أكثر مرونة لتستمتع بحياتها، ويكون لديها تجارب جنسية وأطفال واستقرار اجتماعي. لجأت صديقتي إلى خيالها في نهاية الأمر، قبل أن تنام تخلق رجلاً من خيالها، يحمل طباع فلان، وجسد فلان، ودفء مشاعر فلان، وجموح فلان، وباتت تحدثه وتتخيل معه أشياء، وتعاتبه على أشياء، وتمارس معه الحميمية. صديقة انطوائية أخرى إعلامية وصلت إلى الثلاثين ولم تزل محتفظة بعذريتها، وتغلبت على الشبق الجنسي بخيالها أيضاً، تقول "ما اقدرش انام كل يوم إلا لما اتخيل إن كل اصحابي عريانين وبنعمل جنس جماعي مع بعض". باحث مغربي صديق لي يقول "إني أعشق عزلتي ووحدتي، لا أريد زوجة أو صديقة لتبادل الحميمية بقدر ما أريد صديقاً أو صديقة لنتبادل الأفكار ووجهات النظر". أسأله: وكيف تشبع غريزتك الجنسية؟ يقول لي إنه يمارس العادة السرية "أفضل أن أسميها الاستمتاع الذاتي، إنه عامل مريح للأعصاب، ومحفز للكتابة والتفكير والإلهام". ولعدم إشباع الواقع لتطلعاته الإنسانية في مقابلة أصدقاء أصحاب ميول فلسفية وإبداعية، يخلق عقله شخصاً خيالياً يتحدث إليه طيلة الوقت في شؤون الفلسفة والإبداع والسياسة. ويجسد بطل مسلسل "مستر روبوت" الأمريكي المصاب بالانفصام، البعد الاجتماعي والسياسي للانطوائي الذكي والمثقف الذي يسعى إلى تغيير العالم، وطوال حلقات المسلسل يختلق شخصية خيالية يتحدث معها دائماً، بطريقة تبدو وكأنه يتحدث لا إلى نفسه، أو إلى شخص خيالي، بل إلى الناس الذين يشاهدونه، إلى العالم "المزيف" الذي اختار أن يكون "مُخدرا"، ومسخ الحميمية في التواصل الافتراضي على "فيسبوك"، وقدس أشخاصاً يعرفون تماماً أنهم غير جديرين بالثقة، كما يحكي لطبيبته النفسية في جلسات العلاج النفسي.نصائح الانطوائيين للعالم
تنصح إلين فرانا باتخاذ الانطوائيين شركاء بدلاً من المنفتحين، تبرر ذلك رغم أنها منفتحة قائلة: أنا اجتماعية منفتحة، ودائماً ما يحدث صدام مع الشخصيات المنفتحة، وتنتهي العلاقة بالتنافس على الأوكسجين، أو لا أشعر أنني نفسي وأنا معهم. وينصح روتش المنفتحين بالقول: إذا قابلت صديقاً أو صديقة انطوائية من فضلك افهم أن الأمر ليس اختياراً أن تكون اجتماعية متحدثة أو صامتة منعزلة، إنه ليس نمط حياة، إنه توجه نفسي متأصل، ثانياً إن رأيت صديقتك صامتة أرجوك لا تقلْ لها "ما الأمر هل أنت بخير؟" لا توجد كارثة وهي بأفضل حال، ثالثاً لا تتحدث كثيراً، اسكت. وينصحكم روتش أيضاً بأن تنتخبوا الانطوائيين لقيادة حكوماتكم ومؤسساتكم، فالمنفتحون يسيطرون على الحياة العامة، وهو أمر مؤسف، إذا كان العالم يديره انطوائيون فسيكون أكثر هدوءاً وأكثر سلاماً، وستختفي أربعة أخماس مشاكلنا عندما نجلس بهدوء مثل بوذا. وتنصحكم كين بتحقيق التوازن بين الانطوائي والمنفتح، خاصة عندما يتعلق الأمر بالإبداع والإنتاجية، "عندما ينظر علماء النفس إلى حياة الأشخاص الأكثر إبداعاً غالباً ما يجدونهم أشخاصاً أقدر على تبادل الأفكار وتطويرها". أما المؤسسات والحكومات فتنصحها سوزان كين بإيقاف "الهوس حيال حلقات العمل الجماعية الدائمة". وتكرر "أوقفوه، هذا ما أعنيه حقاً". تشرح كين وجهة نظرها: من الرائع أن يعمل الناس في مكاتب مشجعة وعفوية وسهلة التواصل والحوار، وهو رائع للانطوائيين والمنفتحين، ولكن "نحتاج حقاً حرية أكثر وخصوصية أكثر وتفرداً أكثر في العمل". نعم نحتاج إلى أن نعلم أطفالنا العمل بصورة جماعية، ولكن علينا أن نعلمهم كيف يعملون بمفردهم، وهذا مهم للمنفتحين والانطوائيين "لأن هذا جزء من مصدر الأفكار العميقة". وتنصح كين جميع الناس، منطوين ومنفتحين: "اذهبوا إلى البرية" مثل بوذا ومحمد وموسى. بجب أن "نقطع الصلة بالعالم ونجول داخل رؤوسنا" لفترة، ثم عودوا ولنتحادث من جديد.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع