شغلت المرأة الكردية السورية، في المدة الأخيرة، حيزاً كبيراً من اهتمام العالم، خاصةً مع بروز دور المقاتلات الكرديات اللواتي يشاركن مع الرجال في قتال تنظيم داعش في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد، شمال شرق سوريا.
وكتجسيد لفاعلية المرأة الكردية السورية، أتى الإعلان عن "الإدارة الذاتية" في "مقاطعة الجزيرة" في يناير 2014، ليقلّد المرأة مناصب قيادية، ورئاسة مشتركة مع الرجل لجميع المؤسسات التنفيذية. هكذا، فرضت المرأة وجودها من خلال الانخراط في الحياة السياسية والمدنية والثقافية والعسكرية، متحوّلةً إلى شريكة مساهمة في بناء المجتمع الجديد.ورغم أن الصورة المذكورة أظهرت تقدماً ايجابياً لواقع المرأة الكردية، مقارنةً بواقعها سابقاً، أو مقارنة بواقع المرأة السورية الحالي، فإن وجود قيود مجتمعية كالعادات والتقاليد والعقلية الذكورية تبقى عائقاً أمام وصولها إلى التحرر الكامل.
التقاليد تقمع التحرر
العادات والتقاليد التي تتحكم بحال المرأة الكردية في سوريا، هي تراث متجذر، لا تستطيع الخروج عليه. فهي جزء من ثقافة ملاصقة لحياة المرأة، بحسب مريم شمدين، مسؤولة العلاقات العامة في شبكة المرأة الديمقراطية. قالت شمدين لرصيف22 "إن المرأة الكردية ما زالت تلاقي صعوبة في ممارسة الحياة السياسية والحصول على حقوقها الثقافية والاجتماعية، برغم المحاولات الحثيثة لفك طلاسم تلك التعقيدات، وذلك بسبب قيود المجتمع".
وشمدين مقتنعة بأن أي دور للمرأة سيواجه صعوبات، لكنها تحاول زرع الأمل في نفسها، من خلال مقارنة واقع المرأة الكردية مع واقع المرأة السورية بشكل عام. فهي ترى أن الأولى تتقدم بأشواط على الثانية في التحرر الفكري والخروج من عقلية الأسرة الشرقية، ويساعدها على ذلك سيادة "الشعور القومي" بين الأكراد، وهو ما يتطلب شراكة بين جميع فئات المجتمع.
وتؤكد شمدين أن تعرض القومية الكردية للاضطهاد والظلم، ساعد المجتمع الكردي على فهم ضرورة مشاركة الرجال والنساء والشباب والشيوخ في المجتمع والسير بخطى واحدة نحو تحقيق الحلم القومي (دولة كردستان)، وهذا ما ساهم في افساح المجال أمام المرأة الكردية لتلعب دوراً في الحياة المدنية.
كذلك تؤكد ماريا عباس، مدرّسة في مدينة القامشلي وتعمل في إحدى منظمات المجتمع المدني، أن درجة تحرر المرأة الكردية السورية ما زالت نسبية. لكنها لا تخفي أن ما وصلت إليه، رغم بساطته، "جاء نتيجةً لجهود سنوات طويلة، لعبت النساء خلالها أدواراً وأبدين إصراراً على ترسيخ وجودهن، ببذل التضحيات".
قيود فكرية على الانفتاح
عام 1957، تأسست الحركة السياسية الكردية في سوريا، وشاركت المرأة الكردية في السياسة، وفي تشكيل الأحزاب والمنظمات النسائية، ولكن دورها كان محدوداً، لأنها كانت تتبع سياسات وأفكار يرسمها الرجل.
لم تثبط تلك القيود من همة المرأة الكردية، فحاولت دوماً عدم فقدان الأمل في اكتساب حقوقها، وتمسّكت بقشّة الاضطهاد القومي منقذاً لها وسبيلاً إلى تحررها. وإبان انتفاضة الأكراد في مارس 2004، وقفت إلى جانب الرجل في الاحتجاجات، وتعرّضت للاعتقال مثله تماماً.
كما شاركت المرأة الكردية في الثورة السورية، من خلال سيرها في التظاهرات في المناطق الكردية، والعمل في منظمات المجتمع المدني، والتشكيلات السياسية. وتقلدت أدواراً قيادية في "المجلس الوطني الكردي" الذي تأسس في أكتوبر 2011، وفي "مجلس شعب غربي كردستان" الذي تأسس في ديسمبر 2011، ثم في "الهيئة الكردية العليا" التي جمعت المجلسين في يوليو 2012.
ولكن حصول المرأة على المناصب كان دوماً مقيّداً وارتبط بـ"الكوتا" النسائية، كما هو حال المرأة السورية عموماً في أجسام المعارضة السياسية، الممثلة للثورة السورية.
وأكّدت المقاتلة الكردية روان (اسم مستعار)، لرصيف22 أن التحاق الفتاة بالمقاومة في الجبال، لعب دوراً مؤثراً في إثبات وجود المرأة الكردية. هذا الأمر لا تنفيه مريم شمدين، لكنها تعتبر أنه أثر إيجاباً على واقع المرأة الكردية في الجانب العسكري فقط، من دون أن يتسع ليشمل أدوار المرأة في الحياة المدنية والمجتمع، "فلا يمكن القول إن المرأة الكردية تحررت بالفعل".
المعوقات أمام التحرر
لا تختلف المعوقات أمام تحرر المرأة الكردية عن المعوقات التي تحول دون تحرر المرأة الشرق أوسطية بشكل عام، بحسب الناشطة النسوية نجاح هيفو التي قالت لرصيف22: "إن الرجل الكردي مهما أظهر التحرر في أسلوبه الحياتي، يظل شرقي الذهن ويفسّر الكثير من المفاهيم على هواه ويقف عائقاً أمام تقدم المرأة، خاصة أولئك الرجال الذين يدعّون مناصرة حرية المرأة أمام الناس، دون أن يطبقوها داخل أسرهم".
المعوقات، من وجهة نظر ماريا عباس، لا تقتصر على وقوف الرجل أمام طموح المرأة، بل تعتبر "أن الواجبات الحياتية اليومية، وطبيعة عمل المرأة في تربية الأولاد، والاهتمام بأمور المنزل، هذه كلها عناصر تفرض عليها البطء في الإنجاز". وذكرت عباس عوامل سلبية أخرى مثل العادات السائدة في ما يتعلّق بمسألة الشرف (الناموس)، وعدم تحمّل معظم الرجال رؤية امرأة ناجحة. وأضافت: "بما أن المجتمع يسمح للرجل بفرض رؤيته على المرأة، فهو يستطيع منعها من الوصول إلى مراكز صنع القرار، ليبقى هو المخطط والمشرّع، بما يتناسب مع معايير المجتمع الشرقي".
الإدارة الذاتية تسوّق لتحرر المرأة
بعد انسحاب النظام السوري من المناطق الكردية، واكتفائه بإبقاء نقاط أمنية في بعض المدن، شكل حزب "الاتحاد الديمقراطي" (PYD) "الإدارة الذاتية"، كما أسس ثلاثة "كانتونات" (مقاطعات) في الجزيرة وعفرين وكوباني.
وقد منحت "الإدارة الذاتية" المرأة أدواراً مهمة، وحوّلتها إلى شريكة في مسؤوليات المؤسسات المدنية التي أنشأتها برئاسة مشتركة بين الرجل والمرأة. كذلك تم تشكيل وحدات عسكرية خاصة بالمرأة سميت بـ"وحدات حماية المرأة" (YPJ)، وهي غير "وحدات حماية الشعب" (YPG).
كما جرى إنشاء تنظيمات نسائية مدنية مثل "اتحاد ستار"، الذي يعدّ من أكبر التجمعات النسائية في المنطقة، ويهدف إلى معالجة قضايا المرأة في سوريا أولاً، ومن ثم الوقوف على الجوانب الحياتية للمرأة الشرق أوسطية والعالمية. ومن مهمّات هذا التنظيم توعية المرأة، و"العمل على التشهير بالسياسات الإقطاعية المتخلفة، والرأسمالية الذكورية الراهنة المتحمكة بالمجتمع، والأساليب المستخدمة لإغراق المرأة في وحل العبودية".
ولكن مريم شمدين ترى أن التحرر الذي تحاول "الإدارة الذاتية" إثباته، ليس نظرية مطبقة في المجتمع الكردي، وتقول: "برغم وجود المرأة في مناصب حساسة وعليا في الإدارة الذاتية الحاكمة، فما زالت ترضخ لقرارات نابعة من فكر إيديولوجي معيّن، وعاجزة عن توفير الحماية لنفسها، وهذا ما يبقي نظرية التحرر دون جدوى". وتضيف: "حتى عندما حَمَلْت المرأة السلاح، كان ذلك نوعاً من التمرد على واقع مرير تعيشه ولا يخلو من الجهل والتخلف والكبت، بسبب العادات والتقاليد التي تحد من حريتها، والدليل أن الغالبية التي تلتحق بالمقاومة في الجبال هي من المراهقات".
التمسك بالأمل
برغم أن المرأة الكردية السورية لم تصل إلى مرحلة التحرر الكامل، فإن ماريا عباس تحاول بث التفاؤل قائلةً: "إن المجتمع في المناطق الكردية ما زال حديث البناء، وإن المستقبل كفيل بإظهار قدرة المرأة على فرض نفسها".
ولكن يبقى المجتمع الكردي السوري مجتمعاً شرق أوسطياً تتحكم فيه عادات وتقاليد تسيء إلى المرأة. وقد وثقت منظمة "سارا" المعنية بشؤون المرأة في القامشلي، أكثر من 1500 حالة اعتداء على النساء في المدن الخاضعة لسيطرة الأكراد، شملت الضرب والقتل والاختطاف والاغتصاب والتحرش والعنف السياسي.
في المقابل، لم تستسلم المرأة الكردية لواقعها. فمثلاً، أعدّت "هيئة المرأة" في "مقاطعة الجزيرة"، مشروعاً يمنع تعدد الزوجات. كذلك ناقشت منظمات حقوقية معنية بشؤون المرأة مسودة مبادئ وأحكام خاصة بالمرأة، وأصدرت ورقة تضمنت 40 بنداً، أهمها: محاربة الذهنية السلطوية عند الرجل، والمساواة بين الجنسين في حق العمل والأجر والميراث والشهادة في المحاكم، وإلغاء مهر الزواج، وعدم اشتراط موافقة ولي الأمر لصحته، ومنع الطلاق الانفرادي، واعتبار جريمة الشرف جريمة قتل، وتحديد عقوبة للخيانة الزوجية، وألا يقلّ تمثيل المرأة في الهيئات الحكومية عن 40%. ثمة بنود نالت الموافقة، والمتبقية تنتظر موافقة السلطة الحاكمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...