كانت السلطات السودانية تمنع النساء من ارتداء البنطال حتى عام 2009. وكانت النساء اللواتي يتجرأن على ذلك يتعرّضن للجلد أو الغرامة أو الجلد والغرامة معاً بحجة الحفاظ على النظام العام، وذلك بناء على أحكام تصدرها "محاكم إيجازية" لا تستوفي شروط المحاكمة العادلة.
لكن ذلك كله أصبح من الماضي، بفضل نضال نساء سودانيات خلال السنوات الفائتة، إذ باتت رؤية "البنطال" في شوارع الخرطوم أمراً اعتيادياً لا يبعث على الدهشة، ولا يحرض كذلك على ممارسة العنف ضد المرأة.
قصة فتاة البنطال
أولى خطوات الانعتاق من نير قانون النظام العام الذي تعده النسوة قانوناً تمييزاً بحقهن، خطتها الكاتبة الصحافية والناشطة الحقوقية لبنى أحمد حسين، عام 2009. ومنذ ذلك التاريخ صارت تُعرف بـ"فتاة البنطال".
وكانت شرطة النظام العام قد اقتادت موظفة الأمم المتحدة السودانية الجنسية لبنى حسين من مقهى عام في قلب العاصمة الخرطوم بتهمة ارتداء البنطال، بعد أن عدّه عناصر الشرطة زياً فاضحاً. فالقانون لا يضع معايير للزي الفاضح، وهذا ما يعطي صلاحيات واسعة لرجال الشرطة في تفسير الاحتشام كما يشاؤون.
غير أن لبنى حسين استطاعت قلب الموقف لمصلحتها، فتخلت عن حصانتها الأممية بأن قدمت استقالتها من الأمم المتحدة، ثم أعلنت جهوزيتها للمثول أمام المحكمة. وخاطبت وسائل الإعلام العالمية والمحلية لحضور جلسات المحاكمة، وتالياً نجحت في تحويل القضية إلى قضية رأي عام، واضعةً السلطات السودانية في قفص الاتهام.
ولاقت قضية لبنى صدى واسعاً في الإعلام الخارجي، وانتشرت انتقادات شديدة للمعاملة التي تجدها النساء من قبل السلطات السودانية. هكذا أحدثت القضية حراكاً لافتاً في العالم وفي المجتمع السوداني الذي يرفض جلّ أبنائه إهانة بناته وجلدهن.
لكن برغم الضغوط، أصرّ قاضي المحكمة على إدانة لبنى التي وقفت أمامه ببنطالها. وقال في قراره: إن لبنى مذنبة، وفرض عليها غرامة مقدارها 500 جنيه سوداني (حوالى 50 دولاراً).
أما النقطة المضيئة في ذلك كله، فهي أن شرطة النظام العام باتت تخشى اقتياد النساء إلى المخافر مخافة وضع الحكومة تحت ضغط إعلامي وسياسي.
وتقر أميرة عثمان، وهي ناشطة حقوقية، حوكمت بتهمة ارتداء البنطال، بأن محاكمة لبنى حدّت من الملاحقة القانونية في حق مرتديات البنطال، وذلك لما صاحب المحاكمة من حالة رفض مجتمعي، وصدى عالمي.
"لا لقهر النساء"
مع أزمة لبنى، دشن عدد من الناشطات مبادرة باسم "لا لقهر النساء"، ومن اسمها نفسه يمكن تبيّن أنها تناهض كل أشكال التمييز المفروضة على المرأة السودانية. وبسبب الوقفات الاحتجاجية الكثيرة التي نظمتها المبادرة رفضاً لمحاكمة نساء سودانيات بموجب قانون النظام العام، قللت السلطات السودانية من عمليات التمييز ضد النسوة.
لكن أميرة عثمان، وهي إحدى مؤسِّسات مبادرة "لا لقهر النساء"، ترى أن انتزاع السودانيات لحقهن في ارتداء البنطال يعود إلى ما قبل المبادرة، إذ إنهنّ رفضن مبكراً الخضوع للمشروع الذي حاولت الحكومة المتأسلمة، بقيادة الرئيس السوداني عمر البشير، فرضه على المجتمع، وتحديداً على النساء من خلال التدخل المباشر في ما يرتدينه، وتقييد حركة سفرهن، وتعيين مقاعد محددة لهن في وسائل النقل العامة، وعزلهن في الجامعات، إضافة إلى جلدهن والإساءة إليهن من قبل منفذي القانون.
هذه الأمور ذكرتها عثمان لرصيف22 مؤكدة أن كل محاولات تقييد المرأة السودانية فشلت بسبب إصرارها على البقاء في سوق العمل واهتمامها بالشأن العام منذ عقود، وهذا ما نجم عنه بروز نساء قائدات لا يقبلن بتاتاً العودة إلى المنازل.
تشدد وتزمّت
ومع أن المجتمع السوداني متقبل للفتاة التي ترتدي بنطالاً، فإن زمرة من رجال الدين يؤيدون وضع معايير متشدّدة للزي النسائي، علماً أن عدداً من المؤسسات لم يزل يمنع دخول مرتديات البنطال إليها.
وقال لرصيف22 الشيخ دفع الله حسب الرسول، وهو خطيب وإمام مسجد وعضو في البرلمان السوداني: "إن الحجاب فرض ديني شأنه في ذلك شأن الصلاة، وإن البنطال يُظهر جسم المرأة بصورة تثير الغرائز". وعليه يطالب الدولة التي تتبنى "الشريعة الإسلامية" منهاجاً لها باستصدار تشريع يقضي بوقف ارتداء البنطال فوراً، ومعاقبة من يرتكبن هذه "الفاحشة"، بحسب تعبيره.
ليس حسب الله وحده من يدعو إلى ذلك. فالمؤسسات الحكومية بما فيها البرلمان، وعدد من الجامعات السودانية، ومن بينها جامعة الخرطوم المتأسسة عام 1902، تمنع دخول النساء اللواتي يرتدين البنطال إلى حرمها. لذلك، ترتدي النساء في تلك الأماكن ما يسمّيه السودانيون بـ"الزي الباكستاني"، وهو بنطال مع قميص طويل.
القانون على الضعفاء فقط
ترى سوزان الوكيل، وهي ناشطة حقوقية ترتدي البنطال، أن البنطال أكثر ستراً من بقية الملابس، وبعض المهن تقتضي ارتداءه كما في مجالات الهندسة.
وتعليقاً على مسألة منع مرتديات البنطال من الدخول إلى بعض الأماكن، تؤكد الوكيل لرصيف22 أن "هناك تجاوزاً لهذا الشرط مع بنات المسؤولين ورجال الأعمال، والصحافيات والناشطات والنساء القادرات على التصعيد وانتزاع حقوقهن. في المقابل تُعاقب اللواتي يعوزهن السند أو يتخوفن من نشر قصصهن خوفاً من وصمة اجتماعية سلبية".
وتلفت الوكيل إلى أن المسألة أكبر من نقاش موضوع الحشمة، فهي تتعدّى ذلك إلى محاولة تكريس الوصاية على المرأة، وتضيف: "هذا ما وصل إليه المجتمع السوداني نتيجة المزج بين السياسات الحكومية القمعية والأفكار الدينية المتطرفة".
هل انتهت ظاهرة جلد النساء في السودان بسبب أزيائهن؟ لا، فلا تزال عمليات إهانة النساء السودانيات بسبب ثيابهن مستمرة. ولكن هذا القمع بات في حدوده الدنيا، بعيداً من مرأى الناشطين والحقوقيين ووسائل الإعلام.
نشر هذا الموضوع على الموقع في 09.05.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...