لا يغادر "مجاهد البوسيفي" روايته "آزاتسي" قبل أن يترك فيها كل حنينه إلى وطنه ليبيا، الوطن الذي غادره مضطراً، هارباً من القمع والاستبداد، لاجئاً إلى هولندا، ليعيش هناك فصول الشوق الطويلة إلى بلده. يستذكر حياته التي عاشها فيه، ناثراً على صفحات الرواية التراث الليبي، والطقوس المعيشية، كمن ينثر وروداً على حبيبٍ فارقه.
"سالم ناجي سالم" بطل الرواية الأوحد وراويها، صحافي ليبي، ينتقل من إحدى القرى الصحراوية إلى مدينة طرابلس ليعمل في إحدى المجلات الشهرية، وهناك سيواجه كمّ الاختلافات الهائلة بين حياته السابقة والحالية. "عندما جئت من القرية إلى طرابلس كان البدوي يدخل العاصمة كميلاد جديد له، متكيفاً مع قانونها، ومحتملاً سخريتها اللاذعة، وتشابه بنيانها وملابسها الضيقة التي تحدّ من حركة الجسم، ولكنة أهلها السريعة الشبيهة بلكنة الطليان".
يكشف الروائي ويفضح، من خلال بطله، الكثير من حالات الفساد في الدولة ومؤسساتها، فيحكي عن عدد من القضايا الواقعية التي حدثت في طرابلس مثل: بناء مشروع سكني بعدد عمارات أقل من الوارد في العقد. يثير كذلك مواضيع فساد التعليم والفساد المالي، وكيف أن السلطة تصادر وتقمع المثقف وتشوّه قيمه ومعتقداته، من خلال "خطاب ثوري" موحّد، يُعدّ كل خارج عنه مفسدٌ ومتآمر.
يضيء الكاتب على معاناة الشعب الليبي في ظل حكم "القذافي" ومدى تسلط وتعسف الأجهزة الأمنية، والقمع والاستبداد اللذين تمارسهما. يسرد كيف صادر هذا النظام أملاك أصحاب الأموال وثرواتهم بذريعة أنها من حق الجماهير، وكيف أن هذا النظام لم يكن يتورع عن تنفيذ مجازر، يذهب ضحيتها الآلاف، عند بروز أي نَفَس معارض، كما حدث في سجن "بوسليم" حين قُتل 2201 سجين دفعة واحدة بسبب تمردهم الذي أرادوا فيه تحقيق بعض المطالب المتعلقة بتحسين ظروف السجن.
"بعد ساعات من إطلاق النار المباشر كانت العملية قد قاربت على الانتهاء، نزل العقيد عابد السنوسي يتفقد مسرح المعركة بينما كانت أنات الرمق الأخير تصدر من البعض (...) ونامت المدينة بجوار ألفين ومائتين وواحد من القتلى".
يصوّر "البوسيفي" استخدام نظام "القذافي" لبعض الطرق الغريبة التي تضمن استمراره في السلطة، منها مثلاً بث عصابة "القط الأسود" التي كانت تختطف الفتيات من مدارسهن، أو تنفيذ ضربات استباقية لمن يعتقد أنه سيشكل عليه خطراً في المستقبل، إضافة إلى رفض أي تجمع، حتى لو كان لمشاهدة "مباراة كرة قدم" وذلك خوفاً من أن يتحول هذا التجمع إلى عمل سياسي أو تخريبي. لكن المفارقة الكبرى والمثيرة للدهشة، كانت في الطريقة التي اتبعها "القذافي" لتغيير معالم "طرابلس" وتاريخها، إذ روّج لخبر اكتشاف أجهزة المخابرات دخول الكوماندوس الإسرائيلي إلى ليبيا، مما دفع به إلى تنفيذ خطة "إخفاء العاصمة".
"كانوا ينزلون اللافتات الضخمة المثبتة بجانب الطريق لتدل السائقين على الاتجاهات وأسماء الأحياء (...) وسرعان ما أعلن عن تغيير التاريخ الرسمي المعمول به في البلاد كلها (...) ثم صدر توجيه آخر يتطلب تغيير العملة النقدية".
بإزاء هذا الجنون الباذخ، إضافة إلى المضايقات التي يتعرض لها في عمله الصحافي، يقرر "سالم" الهرب بعيداً، وطلب اللجوء في هولندا بعد أن "باتت ليبيا سجناً كبيراً يمارس فيه القائد جنونه".
وهناك في "الآزاتسي"، وهي اختصار للأحرف الأولى من ثلاث كلمات هولندية تعني مركز طالبي اللجوء، سوف يلتقي "سالم" عراقيين وأفغاناً وصوماليين... فيشاركهم في همومهم ومآسيهم، ويستمع إلى قصصهم، التي تتشابه أحياناً وتتباعد أحياناً أخرى.
يعرض الكاتب بعض مشكلات اللجوء، مسلطاً الضوء على الظروف التي يحياها اللاجئون، وكيف أن كل واحد منهم، يقع بين فكين: رغبته في الحصول على اللجوء، وحنينه إلى وطنه رغم كل الظلم والبؤس فيه. هكذا يصبح "الآزاتسي" المكان الذي تحلق منه ذكريات "سالم"، لينسج أحداث روايته، متنقلاً بين زمنين ومكانين مختلفين.
يغوص الراوي في المجتمع الليبي المكوّن من عرقين هما "العرب" و"الأمازيغ"، ويحكي عن طقوس الناس في الطعام والشراب، "لا يمكن فهم الليبيين، إلا عن طريق شيئين، المكرونة المبكبكة وطريقة شربهم للكحول". يصف "المبكبكة" وطريقة صنعها، وأصولها، وكيف أنها "تكاد تكون النشيد الوطني غير الرسمي في ليبيا"، كما يصف طقوس الشرب، حيث يتم بكأس واحدة مهما كان العدد، فيجلس الندماء في دائرة، وتدور بينهم الكأس، وتلي كل دورة استراحة قصيرة.
كذلك يصف نمط العمارة في ليبيا، وشوارعها البيضاء ذات الأقواس التي توفر الظلال، ويفرد مساحة للحديث عن الليل المخيف في هذه الشوارع. "ليل طرابلس مختلف. فارغ ويثير الخوف، هناك ليل ولكنه لا يشبه ليل كل المدن، ليل موجود وتكاد تلمسه باليد للزوجته، ليل من نوع آخر لا تتوفر فيه السلامة".
مجاهد البوسيفي، كاتب وصحافي ليبي، اشتهر بكتاباته المعارضة لنظام القذافي، مما دفعه إلى طلب اللجوء في هولندا. "آزاتسي" هي روايته الأولى، التي تتقاطع في كثير من أحداثها مع سيرته الشخصية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون