تحتفل الإذاعة المصرية في آخر الشهر بالعيد الثمانين لتأسيسها، عندما خرجت في 31 مايو 1934 لأول مرة من فم المذيع الأول وقتها أحمد سالم جملة "هنا القاهرة". لكن احتفال الإذاعة الرسمية المصرية بانطلاقها يتواكب أيضاً مع ذكرى مصادرة الحكومة المصرية للهواء وحق البث. حتى الآن، ولثمانين عاماً، تحتكر الإذاعة موجات البث ولا تسمح بمشاركتها مع أحد، إلا برخصة تُجدّد بشكل دوريّ وتحت إشرافها، وذلك منذ بضع سنوات.
عرفت مصر الإذاعات الأهلية والخاصة قبل ظهور الإذاعة المصرية، وتجاوز عددها المئات في مختلف المحافظات، إلا أن الوضع الآن، وبعد كل الثورات والانقلابات التي حدثت في مصر طوال 80 عاماً، لا يزال كما كان في عام 1934. الهواء تحتكره الإذاعة الرسمية، مع إذاعتين من القطاع خاص تتحكم بهما الإذاعة المصرية الرسمية ترخيصاً وبثاً.
غير أن هذا الوضع لم يمنع من ظهور تجارب لما يعرف براديو الإنترنت، وهي إذاعات جديدة تستعيض عن موجات الراديو المعروفة، بالبث عبر الإنترنت. تجارب قليلة تمكنت من الاستمرار، إذ كانت الإذاعات تظهر وتختفي لأسباب متنوعة، بدءاً بالمضايقات الأمنية، وصولاً لعدم قدرتها على تقديم نموذج اقتصادي يمكنها من البقاء وتغطية نفقاتها. أما من حيث المحتوى، فمعظم هذه الإذاعات تقلّد الراديو الرسميّ من حيث طريقة التقديم واختيار الموسيقى والأغاني، والقليل منها غامر بتغيير المحتوى، ربما كان أبرزها راديو تيت.
لكن بينما تحتفل الإذاعة المصرية الرسمية بذكراها الثمانين، يبتهج مستخدمو الانترنت بمرور ثلاثة أعوام على تأسيس راديو جرامافون، إذاعة الإنترنت التي تحولت إلى ظاهرة، والتي تعتبر تجربة خاصة وفريدة، بدأت من مكان بعيد تماماً عن فكرة الإذاعة التقليدية.
على غير العادة، لم يبدأ جرامافون كإذاعة محلية، أو كراديو على الإنترنت تدعمه إحدى منظمات المجتمع المدني، بل انطلق كشبكة انترنت محلية في مدينة المحلة، يديرها أحمد كمال، شاب ورث ولعاً بالأرشيف عن جده الذي كان يحتفظ بشرائط كاسيت مسجّلة من الإذاعة منذ الخمسينات، مع اهتمام شديد بالبرمجة وألعاب شبكات الاتصالات المختلفة. أدار أحمد مع مجموعة من أصدقائه شبكة محلية تزود سكان المحلة بالإنترنت مقابل اشتراكات شهرية. واجهته المشكلة الدائمة لأي عامل في هذا القطاع، وهي كون جميع أعضاء الشبكة يحاولون تنزيل ذات الأفلام والبرامج والموسيقى في ذات الوقت، الأمر الذي يبطئ من سرعة الشبكة. فكر كمال حينها مع مجموعته في استخدام جهاز كمبيوتر كخادم Server يتم تحميل كلّ المواد عليه، وإتاحتها لأعضاء الشبكة مع ميزة التشارك بين الأعضاء في حالة سماحهم بذلك. هنا ولد "الفيل"، النواة الأولى لما سيكوّن بعد ذلك، مع الأرشيف، تجربة كمال الذي سيهجر من أجلها دراسة الطب البيطري والمحلة معاً.
من المحلة إلى العالم
في البداية، أسّس كمال موقعاً بسيطاً يرفع عليه ألبومات مختارة، وتسجيلات من الأرشيف حصل عليها من مصادر مختلفة، في محاولة لتقديم ذائقة موسيقية مغايرة. في هذا الإطار، قام برفع ألبوم "المغنية تانيا صالح"، فراسلته منتقدةً خطوته هذه. أغلق كمال الموقع بعد ذلك، وبدأ التفكير في إذاعة تُبثّ على الإنترنت من الأرشيف الضخم الذي جمعه جرامافون.
ولد جرامافون كإذاعة تحاول إحياء التراث الموسيقي وإتاحة الأرشيف لأكبر عدد من المستمعين، مع مراعاة حقوق الفنانين والموسيقيين. وهو يضم إذاعة مخصصة للموسيقى التراثية، وأخرى للموسيقى العربية الشعبية، ثالثة للجاز، ورابعة لموسيقى الروك، وأخرى للموسيقى الكلاسيكية.
في يناير 2012، كانت المرة الأولى التي يصل فيها عدد المستمعين إلى الألف، وذلك أثناء بث تسجيلات نادرة قام كمال بتنقيتها، وبعضها يذاع لأول مرة للشيخ إمام. حتى هذا الوقت كان جرامافون يُدار بشكل تطوّعي، واضطر كمال في مرحلة ما، إلى جمع ما يقارب 250 دولار كتبرعات من الأشخاص الداعمين للمشروع، لا أكثر. لكن في أغسطس 2012، تلقى كمال أول عرض لبيع أرشيف جرامافون، وبلغ 75 ألف دولار. ستتوالى العروض بعد ذلك، وترتفع الأرقام إلى 450 ألف دولار، لكن سيظل انحياز كمال، والقائمين على جرامافون، موجَّهاً إلى المشاع الإبداعي وإتاحة الأرشيف للجميع، ما جعلهم يرفضون بيعه.
يتحدث كمال بتقدير كبير عن الدور الذي لعبه الراحل علي شعث، مؤسس ومدير "أضف" مؤسسة التعبير الرقمي. فقبل لقائه به، كان جرامافون مشروعاً تطوعياً لشباب مولع بالأرشيف، لكنّ علي دعم المشروع وأكسبه الطابع المؤسّساتي، وطوّر غايته من جمع الأرشيف إلى مشروع يهدف دعم حرية المعرفة والاطلاع عليها.
يحلم كمال أن يتحول جرامافون ذات يوم ليصبح إذاعة على الانترنت وعلى موجات الراديو، ليتسع تأثيره وما يقدمه من تراث وموسيقى معاصرة تحاول إضافة عناصر جديدة للذوق العام. وبما أن الثورات والانقلابات لم تحرر حتى الآن إذاعات الراديو على نحو كلّي، يحاول جرامافون اقتحام المجال العام وتوسيع دائرة المستمعين من خلال مشاريع نوعيّة، إذ وقّع مؤخراً عقداً مع شركة "دوبيزل" Dubizzle، التي تضع إعلاناتها على عدد من عربات التاكسي العاملة في القاهرة. أصبحت هذه العربات مزوّدة بخدمة إنترنت واي فاي، ويقوم سائقو التاكسي، بدلاً من تشغيل الراديو، بالاستفادة من الواي فاي لتشغيل جرامافون. هكذا، مثل بقية إذاعات الراديو، أصبح جرامافون موجوداً في تكاسي القاهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...