شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"شعرت بالنار التي التهمت وجهي حينما سمعت الحكم"...عقوبات ضعيفة ورقابة غائبة أمام التشويه بالأسيد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 5 فبراير 201805:23 م
كان خريفاً لا تنساه: نوفمبر 2017. يومها، صرخت هبة حسني (36 سنة) في المحكمة من دون توقف. ظل صوتها يعلو في القاعة التي تقع شمال القاهرة، لمجرد سماعها حكم القاضي بحبس أشرف عبدالغني لمدة 10 سنوات. أشرف هو الذي أحرق وجهها بالمواد الكاوية بعدما أنهت علاقة الخطوبة التي جمعتهما، تاركاً آثار حروق كان سيراها كل من سمع صوتها ذلك اليوم لو أزالت نقابها، أو قطعة القماش السوداء التي باتت ترافقها منذ أن أفرغ فوقها تلك القارورة الزجاجية. لم يستطع أحد من أفراد أسرتها المرافقين لها ولا أي من مسؤولي المحكمة تهدئتها. أخرس بكاؤها الجميع. "شعرت بالنار نفسها التي التهمت وجهي في 2010، حين ألقى المتهم عليّ عبوة كاملة من ماء النار ثم هرب"، تقول هبة في لقاء لها مع رصيف22. حياتها وحياة ابنها الدي أنجبته من زواج سابق تدمرت، بحسب وصفها، هي التي كانت تعمل في مجال التجميل وتمضي ساعات يومها أمام المرآة: فقدت نظرها وأصبحت تعيش بوجه وجسد وصفتهما بالمشوهين. تحتاج إلى عدد كبير من العمليات الجراحية التي لا تستطيع إجراؤها لأنها تكلف مئات الآلاف من الجنيهات، وهي لا تملك جزءاً قليلاً منها، وتعتبرها الدولة تجميلية لا تدخل ضمن نفقاتها. "أصبحت عاجزة أعيش على المساعدات بعدما كنت أعمل قبل الحادث وأنفق على بيتي وابني"، تضيف لرصيف22. سؤال يرافقها الوقت كله: كيف يكون الحكم على من ألحق كل هذا الأذى بها مجرد حبس 10 سنوات، وقد تتقلص إلى 7 سنوات لحسن السير والسلوك، وفقًا لقانون السجون؟

كيف يكون الحكم على من ألحق كل هذا الأذى بها مجرد حبس 10 سنوات، وقد تتقلص إلى 7 سنوات لحسن السير والسلوك، وفقًا لقانون السجون؟

"ده مش عدل"، هو الجواب الذي تردده. لكنه القانون. جرائم الاعتداء تحدث في كل مكان وزمان. لكن المعتدي يزداد جرأةً حينما يجد السلاح متوفراً في الأسواق، وحينما يعلم أن ثغرات في القانون ستجعل عقابه مخفّفاً. وهو ما يحدث في حالات الاعتداء بالمواد الحارقة في مصر. إذ لا يوجد عقوبات خاصة بهذه الجرائم وغالباً ما يخرج المتهم بعد سنوات قليلة يقضيها قي السجن. حتى باتت عبارة "سأحرق وجهك بماء النار" أسلوب تهديد عفوي يستخدمه الكثيرون في لحظات الغضب.

كيف يتم الحكم؟

وفقاً لقانون العقوبات المصري، يعتبر حكم القاضي في قضية هبة أقصى عقوبة يمكن الحكم بها. السبب هو عدم وجود تعريف خاص لجريمة الحرق والتشويه بالمواد الكيماوية، وعدم تجريم القانون المصري لها بشكل خاص. لذلك، يستند القاضي إلى المواد الخاصة بالضرب للتعامل مع قضايا ضحايا الحروق الناجمة عن المواد الكيماوية، وتكون حجم إصابة الضحايا العامل المحدد لعقوبة المتهمين باستخدام المواد الحارقة. فالمادة 240 تختص بالجرائم الناجمة عن سبق إصرار وترصد، والتي تؤدي الى إصابات تصل إلى قطع أو انفصال عضو أو فقد منفعته أو نشأ عنه كف البصر أو فقد إحدى العينين أو نشأت عنه عاهة مستدامة. في هذه الحالة، تحدد المادة العقوبة من 3 سنوات إلى 10 سنوات كحد أقصى وفقاً لتقدير القاضي. بينما تختص المادة 241 بالضرب الذي لا تنجم عنه عاهة مستدامة، لكن تتجاوز مدة علاجه 21 يوماَ في المستشفى، وتقضي هنا بعقوبة الحبس مدة لا تزيد عن سنتين أو غرامة لا تقل عن 20 جنيهاً مصرياً وبحد أقصى 300 جنيه. أما المادة 242 فتختص بالضرب الذي يؤدي إلى إصابات تقل مدة علاجها عن 21 يوماً، حيث تبدأ فيها العقوبات من سنة واحدة ولا تتجاوز السنتين. في حالة هبة، اعتمد القاضي على المادة 240 وحكم على أشرف بالمدة القصوى. "منذ 2010، وأنا أنتظر أن تقبض الأجهزة الأمنية عليه. لكن، بعد سماع الحكم لا أستطيع أن أتخيل أنه سيعود إلى حياته العادية بعد سنوات عدة، بينما أنا سأكون في الوقت نفسه أمضي ما تبقى من حياتي مشوهة، أعتقد أن قانون الغابة أرحم"، تقول هبة.
/

البحث عن نسب وأرقام

لا تملك وزارة الصحة المصرية أو أي من الجهات البحثية أي إحصاء خاص بتصنيف أعداد مصابي الحروق في مصر أو حتى تصنيف أعداد الوفيات منها. لذلك، من الصعب تحديد نسبة مصابي/ وفيات الحروق الناجمة عن المواد الكيماوية الحارقة من بين بقية مصابي الحروق الأخرى. لا يوجد سوى الأرقام التي أعلنتها منظمة الصحة العالمية، والتي أنذرت مصر من زيادة أعداد ضحايا الحروق التي تصل إلى 80 ألفاً سنوياً وأنها ثالث سبب للوفاة. إلا أنه وفقاً لعادل أحمد، مدير قطاع المشروعات الطبية في مستشفى أهل مصر – وهو الوحيد في مصر المختص بعلاج الحروق بالمجان -  فإن مصابي الحروق الناجمة عن المواد الكيماوية هم 2% من الذين تستقبلهم المستشفى سنوياً. ماء النار من (حمض النيتريك) أبرز هذه المواد والأخطر لأنه عادة يشمل مساحة أكبر من الجسم، يتبعه البوتاس (نترات البوتاسيوم) ثم الجير الحي وبعض أنواع الأسمدة.

ستعثرون عليه

يحدد القانون تداول هذه المواد كمواد صناعية، يخضع استخدامها لعدد من الوزارات مثل (التجارة الداخلية – الصناعة - البيئة – الزراعة). إلا أن كلًّا من ماء النار (أكثر من 70%) والبوتاس يدخلان أساساً في قائمة المواد التي تعتبر في حكم المفرقعات، وفقاً لقرار وزير الداخلية الرقم 7330 لعام 1994، والتي يحدد ألا تتداول هذه المواد إلا من خلال الجهات الحاصلة على الترخيص لاستخدامها في صناعات محددة، على أن يكون ذلك من خلال عقود بيع وشراء موثقة تراقبها الداخلية. صاحب أحد المصانع الكيماوية والحاصلة على ترخيص لصناعة هذه المواد وتداولها – طلب عدم ذكر اسمه - أوضح أن تسرب هذه المواد إلى الأسواق التجارية بشكل غير رسمي، يأتي تحت أسماء أخرى غير أسمائها العلمية المعروفة، خصوصاً ماء النار، والذي تستخدمه مصانع بير السلم في صناعة المنظفات والأسمدة. العثور على هذه المواد ليس صعباً، وقد وجدتها كاتبة المقال خلال جولة أجرتها على عدد من المحال في أحياء مختلفة بالقاهرة، لا تملك جميعها رخصة ببيعها. لا يحتاج أي شخص لشراء هذه المواد إلا إلى مبلغ زهيد، قد يصل إلى 5 جنيهات، ولا يُطلب منه  أي التزام بأي من الضوابط السابقة: لا يطرح البائع على المشتري أي سؤال قبل أن تتم المعاملة. يقول أحمد أن التعرض لهذه المواد يؤدي إلى حروق من الدرجتين الثانية والثالثة، وقد تقتصر على التشوه أو تمتد إلى فقد وظيفة الجزء المصاب بالكامل. ويضيف: "غالباً ما يكون حجم الإصابة في الحوادث الانتقامية أكبر من مثيلتها في الحوادث العرضية".

"مش هخليكي تنفعي لغيري"

"طالما مش هتكوني ليّا... مش هخليكي تنفعي لغيري"، كانت هذه آخر جملة قالها أشرف لهبة يوم الحادث قبل أن يتعمد إفراغ ماء النار من الوعاء الزجاجي الذي كان يحمله على وجهها، وامتد إلى بقية جسدها. "كان آخر شخص تراه عيني"، تقول هبة. 80% من مصابي الاعتداءات البدنية التي يستخدم فيها الجناة المواد الكيماوية، خصوصاً ماء النار، هم من النساء وفقاً لأمل فهمي، المديرة التنفيذية لمركز تدوين دراسات النوع الاجتماعي، والذي تبنى في نوفمبر الماضي حملة لوضع تعريف واضح للمواد الحارقة في القانون المصري ووضع مواد خاصة لتجريم استخدامه، وتوثق حالات ضحايا الحروق بالمواد الكيماوية.
لا يحتاج أي شخص لشراء ماء النار سوى مبلغ زهيد وسيحصل عليه من دون أي سؤال
"80% من مصابي الاعتداءات البدنية التي يستخدم فيها الجناة المواد الكيماوية، خصوصاً ماء النار هم من النساء"
لا يوجد تعريف خاص لجريمة التشويه بالمواد الكيماوية في القانون المصري، ويستند القاضي إلى مواد خاصة بالضرب لا تتناسب مع حجم الأذى الذي تلحقه هذه المواد بالضحايا
"أعتقد أن القاضي تعاطف مع حالة هبة بعدما رأى أنها فقدت وجهها بالكامل تقريباً عقب سقوط المادة الكاوية عليها، كانت هذه أقصى عقوبة حوكم بها الجاني من بين الحالات التي وثقناها في الحملة. هناك أحكام لقضاة آخرين تقضي بالحبس 3 سنوات فقط، وهو أمر مرعب"، تعلق أمل. توضح أمل أن عدم اهتمام أي من الكيانات الرسمية للدولة بتناول هذا النوع من الحروق سواء من حيث الإحصاءات أو الدراسات، يبرر عدم اهتمام أي جهة رسمية حتى الآن بتناول التشريعات المرتبطة به.

عدم اهتمام أي من الكيانات الرسمية للدولة بتناول هذا النوع من الحروق سواء من حيث الإحصاءات أو الدراسات، يبرر عدم اهتمام أي جهة رسمية حتى الآن بتناول التشريعات المرتبطة به.

قدم تدوين اقتراحات بخصوص وضع تعريف وعقوبات خاصة بالاعتداءات بالمواد الكيماوية الحارقة ضمن مشروع القانون الموحد لمناهضة العنف، والذي يشترك فيه المركز مع عدد من منظمات المجتمع المدني ومن المقرر إرساله إلى البرلمان حين الانتهاء منه. "حاولنا التواصل بشكل شخصي مع عدد من نواب البرلمان لدعم هذه المواد وإثارة هذه القضية لكن، للأسف لم نجد أي اهتمام من أي جهة رسمية بهذه القضية، ولا يوجد تواصل رسمي بين البرلمان والمجتمع المدني". تشديد العقوبة القانونية على استخدام المواد الكيماوية الحارقة مهما كانت الإصابة، هو الحل الوحيد الذي تعتبر مي جمال، المحامية والباحثة في مركز تدوين، أنه قادر على التصدي لهذا النوع من الجرائم. تستشهد مي بتجربة بنغلادش، والتي كانت تسجل زيادة سنوية كبيرة في حوادث التشويه بالأسيد حتى قررت السلطة التشريعية رفع عقوبة الاعتداء بهذه المواد إلى 50 سنة مهما كانت حجم الإصابة، الأمر الذي أعقبه انخفاض كبير في أعداد هذه الاعتداءات. وفي آخر حادث نشرته وسائل الإعلام المصرية استخدم فيه الجناة ماء النار، توفيت ضحية الاعتداء عقب إلقاء الجناة المادة الحارقة عليها. ووفقاً لتقرير لهيئة BBC صادر عام 2013، فإن 30% من نسبة ضحايا هذا النوع من الاعتداءات تحت سن 18 سنة. لا يتضمن مشروع القانون الذي تقدمت به اللجنة التشريعية في البرلمان المصري أي ذكر خاص باعتداءات المواد الكيماوية. تأمل منظمات المجتمع المدني بأن يلتفت نواب البرلمان إلى مشروعها أو الاستعانة بمواده القانونية لوضع خطوة احترازية لمواجهة هذا النوع من الاعتداءات قبل أن يتزايد.

لا ترى انعكاسات مرايا البيت

أمام مرايا بيتها كلها، لا تستطيع هبة رؤية التشوهات التي تركها أشرف على وجهها، لكنها تشعر بها كلما لمسته. تحاول يومياً أن تتخيل شكل ابنها وبات يبلغ من العمر 13 سنة. تقول أنها لن تشعر بأن حقها عاد إليها إلا إذا تشددت عقوبة هذه الاعتداءات، "أو أن يترك القضاة الضحايا تذيق الجناة من الكأس نفسه"، وفق ما تقول. 

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image