لم تتوقع الإعلامية السعودية خلود القاضي التي طالبت كثيراً بحماية السعوديات من التحرش، أن تكون هي نفسها ضحية للتحرش في أحد المحال التي تبيع العطور، بالقرب من سوق معروفة شمال جدة (غرب السعودية)، بإشارة لاأخلاقية من البائع. على الفور، تقدمت القاضي بشكوى إلى مكتب العمل، وإلى الشرطة. وقد أثارت القاضي التي يتابع حسابها في موقع التدوين المصغر تويتر نحو 32.9 ألف شخص، القضية عبر حسابها، لتحصل على حقها في نهاية المطاف، ويُحاسَب المتحرشون. قضية القاضي تكررت أكثر من مرة، في أكثر من مكان في الأسبوع ذاته، وقد ألقت شرطة الرياض (وسط السعودية) القبض على أربعة أشخاص اتهموا بالتحرش بطفل، وفي المدينة نفسها أيضاً، ألقت القبض على رجل تحرش بعاملة منزلية، ونُشر مقطع فيديو بالحادثة في مواقع التواصل الاجتماعي.
قانون معطل
لأكثر من عقد، ظلت السعوديات يشتكين من التحرش، ويطالبن بقانون صارم ورادع، غير أن جهات دينية، كانت تقف في وجه سَنّ مثل هذا القانون. منذ 2008، والقانون حبيس أدراج مجلس الشورى السعودي، وقد أُحيلَ إلى لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية في المجلس، بعدما رأى أعضاء في المجلس أن هذا القانون يُعزّز مفهوم الاختلاط. كشفت مصادر في مجلس الشورى لرصيف22، أن مشروع القانون الذي ما زال يراوح مكانه، سيعتبر: "أي سلوك بهدف التحرش سواء كان قولاً أو فعلاً أو حتى إشارة أو موقفاً أمراً موجباً العقاب، إذا كان الهدف منه الإيقاع الجنسي بالطرف الآخر، أو إهانته أو استفزازه أو تحقيره بسبب جنسه أو مجرد خدش حياء الأذن أو خدش حياء العين". تنامي تلك الحوادث، دفع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى إصدار أمر ملكي بسن قانون لمكافحة التحرش، يوضح نوعه، ويحدد العقوبات اللازمة التي تمنع وبشكل قاطع مثل هذه الأفعال، وما زال القانون ينتظر النور.مشكلة متأزمة
يعاني المجتمع السعودي من تنامي مشكلة التحرش، وهو أمر يرجعه قانونيون تحدثوا لرصيف22، إلى غياب التشريعات والقوانين الواضحة التي تحدد بشكل واضح وصريح التحرش، وعقوباته. كثيرة هي القصص، فقبل نحو عشرة أشهر، ضج المجتمع السعودي بحادثة تحرش في أحد المجمعات التجارية الكبيرة، بمدينة الخُبر (شرق السعودية)، بعدها بأيام قليلة أُلقي القبض على مجموعة من الشباب تحرشت بفتاتين، وأحيلت إلى المحكمة، ليُحكم عليها بعقوبة تتراوح بين السجن لأسابيع عدة والجلد في مسرح الجريمة. ماذا حدث بعد ذلك؟ حصلت حالات تحرش في المدينة الصغيرة ذاتها التي لا يزيد عدد سكانها عن 573671 نسمة، حسب تقرير الهيئة العامة للإحصاء في السعودية لعام 2017، ومرة أخرى في مجمع آخر لا يبعد أكثر من ثلاثة كيلومترات من الأول. وقعت أكثر من حالة في كل من الدمام والرياض وجدة والطائف، كانت أشهرها التي وقعت في كورنيش جدة قبل نحو عام، وفيها تحرش أكثر من عشرين شاباً بفتاتين كانتا تتنزهان على الشاطئ. في كل مرة تنتشر مقاطع فيديو لشباب يتحرشون بفتيات، تتعالى الأصوات التي تطالب بسرعة إصدار قانون التحرش. وفي بعض الحالات، نال متحرشون نصيبهم من الضرب بأيدي نساء، ولكن ما يريده الحقوقيون، هو قوانين رادعة تضع حداً لهذه الظاهرة المتزايدة في المجتمع المحافظ بطبعه. بحسب المستشار القانوني أحمد الراشد، هناك تيار ديني قوي ومتشدد يعتقد أن وجود قانون للتحرش سيجيز الاختلاط الذي يراه أشد خطورة من التحرش ذاته. ويقول لرصيف22 :"لأكثر من عشر سنوات، كان هناك مَن يقف في طريق قانون التحرش، معتبراً أنه سيجيز الاختلاط، لكن السعودية تغيرت كثيراً خلال الأشهر الماضية، وقوة هذا التيار ضعفت بشكل كبير". يشتكي الراشد من أن نظرة القضاه تتفاوت إلى مثل هذه القضايا بشكل كبير. ففي وقت يرى قضاة التحرش جريمة كبيرة عقوبتها مغلظة تحت طائلة التعزير، يعتبر آخرون أن المرأة هي المذنبة، لأنها تخرج من منزلها متبرجة، وغي محتشمة. وبحسب الراشد، يُعاقب المتحرِّشون بعقوبةٍ التعزير كحق عام بناء على تقدير القاضي. قبل نحو عشرة سنوات، تحرش مراهقون بفتاتين في حديقة النهضة بالرياض، فحكم عليهم القاضي بالسجن 12 سنة لكل منهم، ولكن قبل فترة وجيزة، حكم قاض في جدة على المتحرشين بفتيات كورنيش جدة، بالسجن لأربعة أشهر فقط. “هذا هو لب المشكلة”، هكذا يعلق القانوني عبدالله الرجيب على ما يحدث، ويضيف لرصيف22: "لا يمكن ترك الأمور على هذا الشكل، نحن الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها قانون للتحرش"، ويشدد على أنه حتى اليوم لا يُعتبر التحرش في السعودية جريمة محددة الأركان والمعالم، وعقوبته تقديرية، تخضع لاجتهادات القضاة. فقد يخفف أحدهم الحكم وقد يغلظه آخر. ويتابع: "ننتظر إصدار القانون، ونأمل بأن يكون واضحاً ومحدداً وبعقوبات صارمة، لأن الوضع بات يفوق الاحتمال".قصص مؤلمة
قصص كثيرة اطلع عليها رصيف22، من أهمها قصة نوال (ع) التي كانت تعمل في إحدى الشركات الخاصة بالدمام (شرق السعودية). كانت في البداية تعتقد أن أسلوب مديرها في العمل، طبيعياً، ولكن يوماً بعد يوم، بدأ يبالغ في أسلوبه الرقيق معها، حتى أنه بات يطلب منها الاجتماع بشكل منفرد لعرض تقاريرها دوناً عن أي من زميلاتها. ومع تكرار تلك الاجتماعات في مكتبه، وحرصه على الاتصال بها على هاتفها الشخصي خارج أوقات العمل، شعرت بالضيق، لكنها كانت تخشى خسارة العمل. تقول نوال: "تحملت كثيراً، لأنني لم أجد الوظيفة بسهولة، ولكن عندما طلب مني مديري بشكل صريح أن أذهب معه إلى شقته، خرج الأمر عن المنطق وبات لا يمكن السكوت عليه، بخاصة أنه خيرني بين القبول بطلبه أو الفصل من العمل". أغلقت الأبواب في وجهها، هكذا تتذكر القصة التي مضى عليها ثلاث سنوات بألم، وتضيف: "عندما شكوت الأمر لأمي، حمّلتني المسؤولية، وأصرت على ألّا أخبر أحداً، حتى لا تُحرم هي وشقيقاتها من وظائفهن، ولما ذهبت إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلبت مني الموافقة على عرضه، للقبض عليه متلبساً، أو لا تستطيع عمل شيء". في نهاية المطاف، لم تكن نوال بشجاعة خلود القاضي، فقررت الاستقالة، ومحاولة نسيان ما حدث، هكذا ببساطة. "نوال ليست حالة خاصة"، تؤكد الناشطة الحقوقية، ريم العمودي، وهي مختصّة بالدراسات الاجتماعية، أن "الخوف من رد فعل الأقارب الذكور"، يدفع النساء إلى الصمت، ليس في السعودية وحدها، بل في كل أنحاء العالم. وتضيف لرصيف22: "في مجتمع يحمّل المرأة مسؤولية التحرش، لا يمكن توقع أن تقدم شكوى رسمية، ستكون هي الضحية في نهاية المطاف". وتتابع: "تتعامل السعوديات مع التحرش بالصمت ولا يتجرأن في أكثر الحالات على الإفصاح عمّا تعرضن له، خوفاً من الفضيحة، فمهما كانت ثقة الأهل في بناتهن، فهناك من سيلومهن، ويقول لو أنها لم تُعطِ الرجل فرصة لما تحرش بها، وهذا ما يشجع كثراً من المتحرشين على التمادي، إلى درجة أنها أصبحت ظاهرة".الفرق بين الغزل والتحرش
"المتحرشون بغالبيتهم لا يعرفون أنهم يرتكبون جريمة"، يحاول الأستاذ في علم الاجتماع، والمحاضر في جامعة الملك سعود بالرياض الدكتور محمد العتيقي، أن يجد أسباباً لانتشار التحرش. يقول لرصيف22: "الثقافة معدومة في هذا الإطار، فالأسلوب الذي يُربي فيه الأبناء، وسياسة الحلوى المغطاة والمكشوفة، والتي يسير عليها رجال الدين لتحميل المرأة مسؤولية ما يحدث من فلتان أخلاقي، دفعا المراهقين إلى الاعتقاد أنه من حقهم التحرش بكل فتاة جميلة، هم لا يعرفون أن اللفظ الخادش يعتبر تحرشاً". في الاتجاه ذاته، تعتقد عضوة الجمعية السعودية لحقوق الإنسان الدكتور سهيلة زين العابدين حماد، أن قانون التحرش سيحد من جميع هذه الممارسات. وتقول لرصيف22: "وجود مثل هذا القانون سيحمي المرأة من التحرش الجنسي ليس في الأماكن العامة فقط، بل في مكان عملها أيضاً، وهذا هو الأهم، ففي مكان العمل قد يختلف الأمر، ناهيك بالتزامها الصمت خوفاً من الفضيحة، أو من عدم وجود شهود وقت وقوع الحادث"، وتضيف: "للأسف، المجتمع يحمّل المرأة مسؤولية كل شيء، من خلال لباسها وتبرجها ويرى أنها لو لم تكن كذلك لما تحرش أحد بها". تعترف جمعية حقوق الإنسان السعودية، بتنامي حالات التحرش، وكتبت في تقريرها السنوي لعام 2016، أنها رصدت أكثر من أربعة آلاف حالة تحرش، محذرة من أن التحرش داخل الأسرة، بدأ يطفو على السطح من خلال قضايا كثيرة سُجّلت أخيراً لدى الجهات المختصة بالتحرش الأسري. عن الموضوع ذاته، قالت وزارة العدل في تقرير لها نُشر في الصحافة المحلية، أن المحاكم السعودية نظرت في 2797 قضية تحرش عام 2016، كانت غالبيتها في منطقة الرياض، فيما كان عدد قضايا التحرش التي نظرتها المحاكم عام 2015، نحو 3416 قضية. أظهر تقرير بثته وكالة أنباء رويترز قبل نحو سبع سنوات، أن السعودية احتلت المركز الثالث عالمياً في قضايا التحرش الجنسي في مواقع العمل بين 24 دولة أجري بحث عليها من قبل شركة عالمية بتكليف من وكالة الأنباء، وشملت 12 ألف موظفة من دول المسح، وأن 16% من النساء العاملات في السعودية، تعرضن للتحرش الجنسي من المسؤولين في العمل. وبيّن أيضاً أن نسبة التحرش في السعودية، أعلى بكثير منها في الولايات المتحدة وفرنسا والسويد وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأستراليا وإسبانيا. "ماذا عن التغزل الفاحش؟"، يتساءل المحامي عبدالله الغفيص الذي يؤكد أن أعداد حالات التحرش أكبر بكثير من المعلن عنها، لأن النساء بغالبيتهن لا يشتكين. ويقول لرصيف22 :"لو احتسبنا التحرش اللفظي، لتجاوز العدد المليون حالة سنوياً، فالتحرش ليس جسدياً فقط، فقد يكون القول أشد وأقسى".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...