قضت بنود معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بالتبادل الثقافي بين البلدين. وعلى هذا الأساس، أقيم المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة، واستثمرته تل أبيب جيداً، فجعلت منه قبلة ونقطة انطلاق لباحثيها في الشأن العربي والإسلامي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
أتاح المركز للباحثين الإسرائيليين فرصة القيام بزيارات ميدانية برعايته، والقدرة على البحث والتحري والدراسة وإجراء جولات حرة لجمع وتحليل المعلومات في ما يخص مصر والشرق الأوسط.
أقامت إسرائيل مركزها على ضفاف نيل القاهرة عام 1982 في شقة إيجار مملوكة للفنانة ماجدة الصباحي، وزودته بمكتبة ضخمة تكتظ بأحدث الكتب والدراسات العبرية والعربية وأقامت فيه الندوات واللقاءات الطلابية بين مصريين وإسرائيليين من المتخصصين والمهتمين بثقافة السلام، فقاطعته الجامعات المصرية، واستفاد من بقائه الباحثون الإسرائيليون.
ضربة البداية
في كتابه "غصن الزيتون، قصة المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة" يوثق الباحث الإسرائيلي شمعون شامير تاريخ العلاقات الأكاديمية الإسرائيلية المصرية وشبكة العلاقات المتداخلة بين الطرفين منذ سبعينيات القرن الماضي. ضربة البداية كانت إسرائيلية، عندما اتخذت جامعة تل أبيب قراراً بإقامة "مركز كابلان لدراسة تاريخ مصر وإسرائيل" في أبريل 1980. وتم على أثر ذلك تعيين شامير رئيساً للمركز، وتلته دعوة باحثين مصريين لحفل تدشين "كابلان"، فحضر وفد مصري من أعضائه الدكتور حسين فوزي، عميد جامعة الإسكندرية آنذاك، والذي حصل على الدكتوراة الفخرية من جامعة تل أبيب، بالإضافة إلى الدكتور أحمد جمعة وغيرهم. انطلق شامير بحماسة في إدارة مركز "كابلان" يُشجّعه في ذلك وجود شخصيات مصرية ثقافية وأكاديمية تؤيد مشروع السلام، إضافة إلى ما يصفه بـ"تاريخ العلاقات اليهودية المصرية الممتد لآلاف السنين". تعددت زيارات شامير لمصر، والتقى الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في يوليو 1980، بدعوة من الأخير بعد نشر شامير مقالاً في صحيفة "أكتوبر" المصرية. استمر اللقاء بينهما عدة ساعات، ليبلغه السادات أن وفداً أكاديمياً مصرياً سيزور إسرائيل لبحث العلاقات الأكاديمية. في نهاية عام 1980، وصل الوفد المصري برئاسة الدكتور مصطفى خليل، الذي كان في الماضي رئيس الحكومة المصرية ونائب رئيس الحزب الحاكم آنذاك، والدكتور بطرس بطرس غالي الذي كان عميد كلية العلوم السياسية بجامعة القاهرة والدكتور علي عطية المختص باللغات الشرقية في جامعة عين شمس وكان حينها باحثاً زائراً في تخصص الأدب العبري في جامعة تل أبيب. تجوّل أعضاء الوفد المصري في جامعة تل أبيب وتلقوا شرحاً حول مجموعة المشاريع العلمية والتكنولوجية بالجامعة. وتلت ذلك جلسات نقاشية افتتحها رئيس جامعة تل أبيب، ثم تحدث شامير قائلاً: "ما زال هناك عدم فهم في مصر حول شعب إسرائيل وثقافته. ورغم التحسن الذي طرأ مؤخراً، إلا أن النصوص المناهضة لليهودية لا تزال منتشرة، وكذلك الواقع أيضاً في الجانب الإسرائيلي". قام شامير بدراسة عمل المراكز الأكاديمية التابعة للسفارات بمصر كالمعهدين الألماني والفرنسي المختصين في البحوث المتعلقة بالآثار والتراث الإنساني بهدف تقديم مقترح لمعهد إسرائيلي يقوم بدور مماثل في القاهرة. وقدّم شامير مقترحاً إلى وزارة خارجية بلاده تحت عنوان "محطة البحث الإسرائيلية في القاهرة". وبحسب شامير أبدى الإسرائيليون في مارس 1981 استياءً عارماً من الجانب المصري لبطء تقدم عملية التطبيع في العلاقات كأساس لمعاهدة السلام بين مصر ودولة الاحتلال. واستغل الإسرائيليون "حالة الاستياء هذه" لتقديم ورقة المركز الأكاديمي كبادرة حسن نيّة، وكان المصريون وقتها قلقين من كل ما يمكن أن يؤدي إلى تأخر الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، فكان الرابح ملف المركز الأكاديمي. وهكذا وافق عليه بطرس غالي ووزير الخارجية المصري كمال حسن بشكل سريع على تأسيسه.المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة... أقامته إسرائيل على ضفاف النيل عام 1982، فقاطعته الجامعات المصرية، واستفاد منه الباحثون الإسرائيليون
المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة... "لا ينشغل الإسرائيليون بعدد الزائرين، والمهم لديهم هو النتيجة ولو كانت استقطاب شخص واحد والتأثير عليه وربطه بالمركز"
المركز وثورة يناير
في سبتمبر 2011، تعرّضت السفارة الإسرائيلية بالقاهرة لهجوم من قبل المتظاهرين، واقتحم شباب واجهة العمارة التي بها السفارة في مشهد لفت الأنظار ونقل على الهواء. عقب هذا الهجوم، قامت الخارجية الإسرائيلية بإجلاء رعاياها وموظفي السفارة من القاهرة واضطر المركز الأكاديمي لإغلاق أبوابه خشية تعرضه لاقتحام مماثل. يدير المركز حالياً البروفسور الإسرائيلي جبرائيل روزنباوم وزوجته ميشال. ورغم انتهاء فترة تكليفهما في أكتوبر 2010، إلا أنهما استمرا نظراً للسيولة الأمنية التي تشهدها مصر بعد ثورة يناير، وصعوبة تكليف آخرين، وفقاً لموقع الأكاديمية الإسرائيلية. رزونباوم باحث متخصص بالثقافة والحضارة المصرية ومترجم ومتحدث جيد بالعربية، واللهجة المصرية على وجه الخصوص، وعمل رئيساً لقسم اللغة العربية والأدب في الجامعة العبرية بالقدس قبل أن يتولى إدارة المركز عام 2006، وتتركز أبحاثه على اللغة والأدب والدراما والفلك، كما تساعده زوجته على استكمال دراسته للمجتمع المصري. يتلقى المركز تمويله من الحكومة الإسرائيلية، ويعامل المدير وزوجته معاملة الدبلوماسيين ضمن فريق عمل السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وتتحفظ إدارة المركز الأكاديمي على ذكر مقدار الميزانية المخصصة لأنشطته وبرامجه بشكل واضح. قرابة 35 عاماً مضت على وجود المركز الإسرائيلي بالقاهرة ولا يزال يفتقد الإقبال المناسب من المصريين المختصين، فضلاً عن غيرهم، على حضور ندواته وأنشطته، وهو ما يطرح سؤالاً حول جدوى وجوده رغم مقاطعته من جانب الجامعات ومعظم الأكاديميين المصريين، وإصرار إسرائيل على بقائه رغم ما يعتبره البعض فشلاً في القيام بالدور المنوط به. منير محمود، وهو موظف سابق بهذا المركز، ومحاضر للغة العبرية بالجامعات المصرية ويعمل أيضاً مرشداً سياحياً للوفود الإسرائيلية يقول لرصيف22 إن الجامعات المصرية لديها أكثر من 13 قسماً تقوم بتدريس اللغة العبرية وآدابها ويتخرج منها أكثر من 2000 طالب سنوياً، وجزء كبير منهم يستمر في الدراسات العليا لنيل درجتي الماجستير والدكتوراة. وبرأيه، فإن هؤلاء "يحتاجون إلى خدمات المركز الأكاديمي الإسرائيلي".الأهداف الخفية للمركز
وعن أهداف المركز الأكاديمي الإسرائيلي وما يثار عن أهدافه الخفية له، قال محمود: "أهدافه هي تحديداً ما جاء بشأنه في اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية بشأن التعاون الثقافي بين الدولتين، وهي توفير المراجع والمواد العلمية للباحثين من الدولتين تحت إشراف إدارة التمثيل الثقافي بوزارة الخارجية المصرية". وأشار إلى أنه "يُحظر عليه تنظيم دورات لغة أو أنشطة ترفيهية في إطار المُتاح للمراكز الثقافية الأجنبية، لأنه لا يعتبر مركزاً ثقافياً بل أكاديمياً للباحثين والمختصين، ولكن يمكنه تنظيم محاضرات وندوات أكاديمية في المجالات العلمية والأدبية والتاريخية والفنية دون الخوض في موضوعات ذات صبغة دينية أو سياسية". ويضيف: "ما يُثار عن أهداف خفية له غالباً هو غير صحيح. وفي جميع الأحوال، فإن المركز خاضع لإشراف إدارة التمثيل الثقافي للبعثات الأجنبية بوزارة الخارجية المصرية وتحت رقابة أجهزة الأمن المصرية، واذا قام بأية أنشطة "غير قانونية" فإنه تحت سيطرة ومتابعة أجهزة الأمن المصرية". أنشأت جامعة القاهرة المركز الأكاديمي المصري للدراسات الشرقية لمقاومة التطبيع مع المركز الإسرائيلي. وعن ذلك يقول يقول منير محمود: "للأسف مكتبات الجامعات المصرية ليس بها تحديث في الإصدارات السنوية الجديدة في مجالات الأدب العبري واللغة والديانة اليهودية، ما يجعلنا بحاجة علمية ماسة لزيارة مكتبة المركز الأكاديمي الإسرائيلي للحصول علي المزيد من المراجع والمواد العلمية".أستاذ العبرية لا يعترف بإسرائيل
لم يكن سهلاً استطلاع آراء أساتذة اللغة العبرية بالجامعات المصرية حول عمر المركز الإسرائيلي. فبعد توجية أسئلة إلى العديد منهم أجاب واحد فقط رافضاً ذكر اسمه، وقال: "لا أعترف بما يسمى دولة إسرائيل، ولكن طبقاً للعلاقات الدولية وكون إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة ونظراً لتوقيعها اتفاقية سلام مع مصر، فإن من حقها إقامة مركز أكاديمي في القاهرة". وبسؤاله عن موقفه من زيارة الأكاديميين المصريين للمركز، أوضح أنه ضد فكرة ذهابهم إليه حتى لا تكون فرصة للاحتكاك المباشر بمكان يمثل "العدو الأوحد". وقال: "أعتقد أن ذهابهم يعود لأحد سببين، إما لضرورة البحث والحاجة إلى مواد علمية غير موجودة إلا هناك، وهو ما يتطلب منا توفير البديل المناسب لحماية أبنائنا، كجزء من الأمن القومي لمصر، والسبب الثاني "المنظرة"، فبعض الطلاب يتباهون أمام زملائهم بأنهم يتعاملون مع إسرائيليين، ومن المفترض أن لقاء الصهاينة لا يبعث على الفخر أو التباهي". تواصلنا مع عينة عشوائية من الطلاب دارسي اللغة العبرية في جامعة القاهرة لاستطلاع آرائهم حول المركز الأكاديمي الإسرائيلي ودوره من وجهة نظرهم، فكانت النتيجة أن أغلبية ساحقة منهم فكروا جدياً في الذهاب إلى المركز الأكاديمي الإسرائيلي للاستفادة منه، لكنهم يخشون عواقب هذه الخطوة، ما دفعهم للعزوف عنها بدلاً من الدخول في سين وجيم، على حد تعبيرهم. هبة حمدي، وهي خريجة قسم اللغة العبرية وأثارت جدلاً واسعاً بمداخلاتها الهاتفية مع قنوات إسرائيلية خلال ثورة 25 يناير المصرية، تقول: "لدى الإسرائيليين بُعد نظر نفتقده، فهم لا ينشغلون بعدد الزائرين، والمهم لديهم هو النتيجة، فاستقطاب شخص واحد والتأثير عليه وربطه بالمركز، سينشئ جيلاً بعد ذلك. يعوّل الإسرائيليون على المستقبل، وهذه أهم إستراتيجياتهم: التغيير البطيء الذي يثمر على المدى الطويل". وأجمع جميع الطلاب في العينة محل الاستطلاع على أهمية وجود مثل هذا المركز بالنسبة للدارسين المصريين نظراً لما يتيحه من وفرة في المواد القابلة للبحث، في ظل ندرة الموارد العلمية لهذا التخصص خارج المركز، وعلى أنهم يعتبرونه المصدر الأول للبحوث العلمية الخاصة بالشؤون الإسرائيلية والتاريخ الإسرائيلي والأدب العبري حديثه وقديمه. وقالت الطالبة "ف. م." التي رفضت ذكر اسمها أن مركز الدراسات الشرقية لا يعوض عن المركز الأكاديمي الإسرائيلي نظراً لصعوبة البحث في أرشيفه وتضاؤل الكتب والمراجع الحديثه في مكتبته. وأفاد أغلب الطلاب بأن الأساتذة يحذرونهم من الذهاب إلى المركز خوفاً من المساءلة القانونية والأمنية إذا أقدموا على هذه الخطوة، ويوجهونهم نحو الاكتفاء بمكتبات جامعاتهم إضافة إلى المركز المصري للدراسات الشرقية. واعتبر أكثر من نصف العيّنة أن المركز هو صرح علمي شأنه شأن أي مركز أكاديمي لأية دولة أجنبية لها علاقات دبلوماسية مع مصر، بينما رأى نحو ثلثهم أنه ستار لأهداف "موسادية"، وهدفه التجسس على أفكار المصريين من خلال التواصل مع المترددين عليه.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي