على أحرّ من الجمر، ينتظر آلاف اللبنانيين مهرجان Tomorrowland الشهير الذي يُنقل مباشرة في مدينة جبيل البحرية ومدن أخرى عبر العالم بالتزامن مع المهرجان الرسمي في بلجيكا، في 29 يوليو المقبل.
المهرجان البلجيكي الشهير، الذي يُعرف بالعربية بـ"أرض الغد"، يحمل روحية جعلت منه منذ انطلاقته في العام 2005 المهرجان الموسيقي الأشهر في العالم، وباتت بطاقات حضوره تنفذ بدقائق معدودة عند طرحها.
اسم المهرجان يعكس روحيته، والطريقة التي يُقدّم بها نفسه جعلته مقصد ملايين الشباب حول العالم.
هؤلاء وجدوا فيه مساحة للحلم بأرض خيالية / موعودة تضمن "الاحترام والصحة والطبيعة والمسؤولية والابتكار التي تشكل دوائر حب الغد. وفيها القلب هو الدائرة المركزية التي تمثل العاطفة والحب والاحترام". هكذا يُعرّف موقع المهرجان عن نفسه باعتباره "مسؤولاً عن جيل الغد" المدعو إلى الاتحاد تحت شعار "عش يومك وأحب غدك واتحد إلى الأبد".
كان للمهرجان أن يحافظ على بهجته اللبنانية، التي اقترب عدد المشتركين فيها من الـ18 ألف لبناني حجزوا أماكنهم خلال أيام قليلة من فتح باب التسجيل، لولا أن ثمة ما قرع جرس إنذار حول "أخلاقية" تلك البهجة فتعددت الدعوات إلى مقاطعته وإلغائه.
لماذا لا يمكن أن يلتحق لبنان بركب "أرض الغد"؟
تماشياً مع دعوته للاتحاد حول العالم، تأتي فكرة المهرجان بأن يجمع مدن عدة بـ"رباط سحري"، يتشاطر المشاركون فيه التجربة نفسها فتُنظم فعاليات مشابهة في تلك المدن ويتابع الجميع بعضهم عبر شاشات عملاقة كما يشاركون إطلاق الألعاب النارية في الوقت عينه.
على الموقع كُتب "إنّ الاتحاد مع أرض الغد هو أكثرُ من بث مباشر، إنّه عرض فريد يتيح لكم الهروب من الواقع". وجاءت الدعوة كالآتي "كونوا جزءاً من السحر. اتحدوا مع أرض الغد. يا شعوب الغد، استعدّوا للاتحاد مع أرض الغد. السبت، 29 يوليو، سيحصل اتحاد سحري مع دبي، ألمانيا، إسبانيا، تايوان، مالطا، كوريا الجنوبية، لبنان وإسرائيل".
"رباط سحري بين لبنان وإسرائيل؟". هكذا عاد الكلام عن الأدوات الناعمة التي تغرق لبنان في "فخ التطبيع"، لا سيما الثقافي والفني منه والذي يعده الداعون للمقاطعة "الأخطر" في هذه المرحلة.
قبل حوالي الشهرين، وعند الإعلان عن استضافة لبنان للحدث، دعت "حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان" لمقاطعته. وكتب العضو المؤسس فيها سماح إدريس واصفاً إياه بـ"مانيفستو أممي جديد، لكنّه بائس وفقير وغاشم، شعارُه ليس يا عمال العالم ويا أيّتها الشعوب المضطَهَدة اتّحدي"، بل..."يا أيّها القاتل والمقتول اتحدا!"
توجه إدريس للشركتين المنظمتين بالقول إن "التطبيع، في مفهوم الشعوب المكتوية بالاحتلال، لا يقتصر على اللقاء المباشر، أو البثّ المباشر، بين لبنان و"إسرائيل"، على ما توهِمان (وتتوهّمان). التطبيع هو القبول بمساكنة القاتل، ولو على أرض "فنيّة" واحدة، وضمن "مشروع" إيديولوجي مشترك يتستّر بوحدة العالم والكون".
واتهم الكاتب "دعاة وحدة العالم بقاتليه ومقتوليه" بأنهم "يريدون أن يهربوا من الواقع كي يديموه، ويريدون أن يستغلوا الفن والرياضة والأدب كي يؤبدوا الظلم".
الشركتان المنظمتان، وهما شركتا Tomorrowland وEntertainers SAL، أوضحتا أن ما من تطبيع في الموضوع ولا مخالفة للقانون على اعتبار أنّه لن يكون ثمّة "بث مباشر بين لبنان وإسرائيل" بحسب الاتفاق المسبق.
أتى ذلك في إطار رد للشركتين أوضح أن ذكر اسم لبنان وإسرائيل يأتي فقط على موقع الجهة المنظمة كإعلان عن الأطراف المشاركة و"لا يوضح كيفية حصول البث بين تلك البلدان".
ولم يفت المنظمون اللبنانيون التذكير بـ"موقع لبنان وهدف المهرجان ذي السمعة العالمية في استقطاب لبنان للسياح من البلدان المجاورة".
"لا لا... ونعم نعم... وبين بين"
انقسمت الآراء بشأن "أرض الغد" في لبنان.
في فيديو مصوّر يظهر عدد من اللبنانيين، من مختلف الأعمار، يرفضون قطعاً التعامل مع أي شيء قد يكون لإسرائيل ارتباط به، بشكل مباشر أو غير مباشر.
يحذر بعضهم من خطر التطبيع الثقافي، يستغرب آخرون كيف بات وجود إسرائيل في حدث ما أمراً مقبولاً لدى البعض، بينما يرون أن مثل هذه الأحداث تسهم في الترويج لصورة مغلوطة عن "إسرائيل الحضارية"، وينبهون أن ارتباط اسم لبنان بالحدث يعني اعترافاً غير مباشر بوجود إسرائيل.
وكالعادة، في جدل مماثل، أتى الرد ممن يرى في الأمر مبالغة غير مبررة، معتبراً أن المقاطعة المباشرة مع إسرائيل مفهومة، لكن الدعوة لمقاطعة كل ما يمكن أن يرتبط بها غير مقبولة. بالنسبة لهؤلاء، لا يمكن القبول بتلك المقاطعة التي تتناقض مع التفاعل الثقافي والفني للبنان، لا سيما وأن المهرجان المذكور أكد عدم ارتباط الحفل بإسرائيل بأي طريقة.
يعيد هذا الطرف التذكير بشأن انتشار الإسرائيليين في كل المجالات حول العالم، من مستثمرين ومالكي شركات وفنانين ومنتجين ومؤثرين في قطاع التكنولوجيا والتصنيع وغيرها، وبالتالي لا يمكن ضبط الأمر وهو أساساً غير منطقي.
يُذكر أن نقاشاً مماثلاً كان قد شهده لبنان الشهر الماضي بخصوص مقاطعة فيلم "المرأة الخارقة"، الذي تلعب دور البطولة فيه الممثلة الإسرائيلية (والمجندة السابقة في الجيش الإسرائيلي) غال غادوت.
وبين الدعوات للمقاطعة "كي لا يسخر منا العدو"، وبين الدفاع عن حرية المقاطعة كخيار شخصي يعود لكل فرد حر في المجتمع بحسب مبادئه وأولوياته، والتذكير بأن أفلام أخرى للممثلة عرضت في لبنان من دون ضجة تذكر، أتت النتيجة بأن منعت السلطات اللبنانية عرض الفيلم.
انتهت الضجة حول الفيلم لتنتقل إلى "تومورولاند" في سياق متصل.
ردّ جلبير أشقر على الاتهامات التي وجهت له بالتطبيع: "المقاطعة المفيدة هي التي تضرّ بالعدو، لا بنا نحن"
بالنسبة للتعاون المباشر مع العدو ما زال الإجماع قائماً على رفضه، فهو غير قانوني بالدرجة الأولى، وإن كانت بعض الاتهامات تخرج بين الفينة والأخرى لتقول أن البعض يرغب بالتطبيع لولا الخوف من خرق القانون.
في المقابل، يصبح الانقسام أكثر عمقاً ووضوحاً عند مقاربة مسألة المقاطعة لما يتصل بإسرائيل بشكل غير مباشر، فتصبح المقاربة استنسابية كون لا قانون يشمل كل تفاصيلها كما الحال مع "تومورولاند" وقبله "المرأة الخارقة" وقبلهما حوادث كثيرة أخرى.
من هنا، تظهر الحاجة ملحة لنقاش جدي في هذا النوع من المقاطعة، بعيداً عن الانفعالية وتراشق اتهامات التخوين من جهة والتخلف من الجهة الأخرى.
"التطبيع" ووجهات النظر
يقول أستاذ القانون الدستوري عصام نعمة اسماعيل في إحدى كتاباته إنه لم يخطر ببال أي من النواب الذين أقروا القانون في العام 1955 أنه سيأتي يوم يحاجج فيه أحد بشأن مدى مقاطعة إسرائيل.
لذلك عندما أُقِرّ القانون جاءت المادة الأولى فيه بـ"عبارات عامة مطلقة" تغطي كل أنواع التعامل من أي نوع كان. وجاء فيه "يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقاً مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو منتمين إليها بجنسيتهم أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها، وذلك متى كان موضوع الاتفاق صفقات تجارية".
لكن الأمور تغيرت جذرياً منذ العام 1955، إذ تعددت الوسائط وتعددت إمكانيات التقاطع مع إسرائيل في مهرجان ما أو دائرة ثقافية ما، وخرج مع هذا الواقع وجهات نظر مختلفة.
من بينها من يرى أن التقاطع ليس تعاملاً أو تطبيعاً، وبعض من يتبنون هذه الفكرة يذهب بعيداً ليرى أنه فرصة لإثبات التفوق والتميز، فيعتبره نوعاً آخر من أنواع النضال. وثمة من لا يعير اهتماماً كبيراً للموضوع ويعتبر أن العالم صار أكبر من قدرتنا على ضبطه.
في المقابل، ثمة طرف يصر على كل شكل من أشكال المقاطعة باعتبار أن الفن والثقافة، التي يفترض أن تعكس حضارة ورقي شعب ما، يستغلها العدو كسلاح ناعم لتلميع صورته.
هؤلاء يردون على من ينظّر حول لا جدوى الانسحاب من فعالية ما إذا وجد فيها إسرائيلي وضرورة مواجهته بسلاح الفن أو الثقافة والعلم بالقول إن المعركة خاسرة بهذا الشكل.
بالنسبة للمدافعين عن المقاطعة التامة، فإن الإسرائيلي أكثر تأثيراً على دوائر الفن والثقافة في العالم الغربي، وبالتالي فإن المنافسة لن تكون لصالح أصحاب نظرية المشاركة، كما أن الأخيرة تشكل اعترافاً بالوجود الإسرائيلي.
عن "الردح" و"المقاطعة المفيدة"
قبل عام تقريباً، أثار ظهور الأديب اللبناني أمين معلوف على تلفزيون "i24" الإسرائيلي الناطق باللغة الفرنسية جدلاً واسعاً.
من دافع عن ظهور الأديب قال إنه تكلم بمواضيع ثقافية بحتة من دون التطرق للسياسة، على اعتبار أن المطلوب هو المحتوى أياً كانت الوسيلة التي يُنشر عبرها، كما طالبوا بضرورة الانفتاح لإيصال الصوت إلى العالم.
في المقابل، رأى المعارضون أن الكلام في الأدب على القناة الإسرائيلية أخطر منه في السياسة، فهو يلمع صورة العدو الذي يعرف كيف يستغل الوسائل الناعمة جيداً.
دعوات لمقاطعة مهرجان Tomorrowland بحجة أن منظميه "يريدون أن يستغلوا الفن والرياضة والأدب كي يؤبّدوا الظلم". ما رأيكم؟
وعادت المقارنة بين معلوف والياس خوري، صاحب كتاب "باب الشمس"، الذي تحدث إلى جريدة "هآرتس" والباحث جيلبير أشقر الذي أعطى تصريحاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت" وبين زيارة البطريرك الماروني للأراضي المقدسة وإقامة الشاعر الفلسطيني محمود درويش ندوة شعرية في حيفا…
ثمة من يميل لوضع هؤلاء جميعاً في خانة واحدة عنوانها التطبيع، وبين من يرى في السلة تمايزات ومعطيات تفترض النظر إلى كل حالة على حدى.
أياً يكن فإن ما سبق يدل على أن صيغة التخوين ومنطق "إن لم تؤازرنا بالمطلق تصبح عدونا المطلق" لم يعودوا ذي نفع مسلّم به جدلاً في مقاربة مفهوم المقاطعة.
ردّ جيلبير أشقر، عندما دافع عن مقابلته مع الصحيفة الإسرائيلية، قائلاً "هل نستمر بمفهوم غبيّ للمقاطعة يضرّنا نحن ولا أحد سوانا، ونخلط بين استخدام المنابر الإعلامية التي يُتاح لنا استخدامها وبين مقاطعة المؤسسات الصهيونية والبضائع الإسرائيلية؟ فالمقاطعة المفيدة هي التي تضرّ بالعدوّ، لا بنا نحن".
لا يمكن الوصول هنا إلى نتيجة قاطعة، لكن مع كل جدال مماثل تتأكد الحاجة إلى السؤال حول الأشخاص الذين تخاطبهم تلك الحملات، وماذا عن الجيل الجديد الذي تنبغي مخاطبته أكثر من غيره والذي يثير عامل تخوينه من شركاء الداخل مخاوفه أكثر من غيره؟
هل تكفي اللغة الخشبية الراديكالية، مع الإقرار بقدرة المقاطعة على تحقيق الإنجازات في مواقع عدة، لمواجهة الأساليب "الناعمة" والذكية والعصرية التي يعتمدها العدو؟ وهل يكفي قدم القضية الفلسطينية لإثبات أحقيتها في ظل قمع وإجرام وتسلط الأنظمة العربية التي حكمت طويلاً باسمها؟
وماذا عن القانون القديم الذي تنبغي مقاربته، ليس من منطق إلغاء المقاطعة، وإنما الأخذ بالاعتبار التغيرات التي يشهدها العالم اقتصادياً وصناعياً وثقافياً وتواصلياً ومراجعتها كي لا تبقى الاستنسابية سيدة الموقف؟
كل ذلك وأكثر تنبغي العودة إليه والتعمق فيه خارج إطار "الردح" الذي يغطي على كل جدال بمجرد أن تذكر فيه كلمة إسرائيل. الكلمة كافية لإثارة الكثير من الانفعال والقليل من الكلام العقلاني الضروري لمواجهة فاعلة مع طرف يتفق الجميع على وحشيته وإجرامه واحتياله واغتصابه للأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين