في مصر، كانت هناك عادة بين أطفال الريف تسمى "الخَرْج"، إذ يأتي كل منهم بطعام من بيته، ويجتمعون في الحارة ليتشاركوا الأكل معاً. وكانت مجموعة الفتيات الريفيات حين تدعو شاباً إلى الطعام، تقول له: "كل معانا عشان وشك يحمر"، خجلاً وصحة. ويشيع بين العرب في أقطار مختلفة وبلهجات متعددة، مقولة: "بيننا عيش وملح"، تعبيراً عن الرباط الذي يوثقه الطعام بين المشتركين فيه.
عادات وتقاليد وتواصل اجتماعي وأشياء أخرى أنتجتها عادة الأكل الجماعي، بينما كانت في حقبة ما، ولا تزال لدى بعض الثقافات، مترادفة للدكتاتورية والثقافة الأبوية.
فراخ الديكتاتور
انعكست هذه الديكتاتورية على شكل الطاولة المستطيلة، التي تجتمع حولها العائلة للطعام، فالكبير يجلس إلى رأس المائدة وحول ضلعيها الطويلين يجلس الباقون، وفي بعض المجتمعات هو الذي يبدأ الطعام ويليه الآخرون، وقد يتولى هذا الكبير أو من ينوب عنه توزيع الشهي من الطعام كاللحم على الباقين، فنجد الأب هو من يقوم بهذا الدور أحياناً، أو الأم كنائبة عنه. وقد يرتبط موعد الطعام بالمواعيد المناسبة لهذا الكبير، لا بالتوقيت الذي يشعر فيه أي من أفراد الأسرة بالجوع، وأصبحت هذه الأمور جزءاً من آداب الطعام عند الكثير من المجتمعات. ويرى الباحث المغربي عبدالكريم عطري في كتابه "قرابة الملح: الهندسة الاجتماعية للطعام"، أن الطعام بشكل عام يعد نسقاً تواصلياً بامتياز، وأن الطعام الجماعي بالفعل يعزز الديكتاتورية، فالرجل الكبير أو الأب يأكل صدر الدجاجة الأكثر لحماً، وتذهب أفخاذها للذكور، الذين سيمتلكون السلطة في المستقبل، أما الأم وبناتها فلهن ما يتبقى. وعلى المستوى الاجتماعي، تعد إقامة الموائد الجماعية والعزائم نوعاً من الوجاهة، التي تعزز السلطة الاجتماعية لرؤساء القبائل في مجتمع مثل المغرب، خلال مناسبات كـ"الزرود" و"العراضات"، بحسب عطري. المسألة تجاوزت نطاق الأسرة والمجتمعات المحلية، وانعكست بشكل ما على مستوى الدولة، فالزعيم الصيني ماو تسي تونغ غيّر نمط الحياة كلها في بلاده بعد الثورة الثقافية، وجعل الأكل الجماعي فرضاً على الجميع، بعد مصادرة أواني الطهو من الأسر، واستبدال ذلك بنظام المطاعم الجماعية. في بكين وحدها، كان هناك 12 ألف مطعم جماعي إلى جانب ملايين المطاعم في الريف، يذهب إليها الأب والأم العاملان بعد انتهائهما من العمل، بصحبة الأطفال ليتناولوا طعامهم فيها. وفي أغلب دول العالم تقريباً، نجد هذا النمط من الطعام في الحياة العسكرية، وكذلك في السجون، حيث يأكلون بشكل جماعي، في مطاعم عمومية داخل المعسكرات أو السجون.منافع الأكل الجماعي:
يحقق المساواة ويقاوم العزلة ترى أستاذة الأنثربولوجيا الأمريكية كارول م. كونيهان في كتابها "أنثروبولوجيا الطعام والجسد: النوع والمعنى والقوة"، أن الطعام الجماعي يحقق المساواة، ويقاوم العزلة التي أحدثها ظهور الرأسمالية، التي عززت الفردية. في الماضي، كانت تقام الموائد الجماعية بشكل احتفالي في قرى إيطاليا، وهو الحال نفسه السائد اليوم في المجتمعات غير الرأسمالية، وهذا النمط يجمع شمل المجتمع المحلي، ولو بشكل مؤقت، فيسد الفوارق الطبقية ويشبع جوع المحرومين، ويشعرهم ولو مؤقتاً بالمساواة مع غيرهم، بالإضافة إلى الحالة الحميمية التي يحققها هذا النمط بين الأفراد، على عكس الحالة الفردية التي تعزز العزلة وتزيد الفوارق، تقول كونيهان. وترى كونيهان أن مجتمع ما قبل الفردية، كان يحقق نوعاً من المساواة بين الرجل والمرأة من خلال التشارك في إعداد الطعام، ضاربةً المثل بإعداد الخبز في المجتمعات الزراعية القديمة، حين كان الرجل يزرع الحبوب ويطحنها كي تخبزها الزوجة. يقي من السمنة أثبتت دراسة استقصائية أجراها علماء من كوريا الجنوبية أن الأكل الجماعي يقي من متلازمة الأيض (التمثيل الغذائي) وزيادة الوزن، لما للعامل النفسي الناتج عن تناول الطعام من تأثير على عملية الأيض. ومتلازمة الأيض هي اضطرابات صحية تنتج عن زيادة الوزن، ويصاحبها احتمال كبير بالإصابة بأمراض في القلب والشرايين، وضغط الدم، والسكري وغيرها. الدراسة الكورية راقبت الحالة السريرية لحوالي 7800 شخص على مدار سنة تقريباً، وتبيّن أن من يأكلون بمفردهم من الرجال غير المتزوجين هم أكثر عرضة لمتلازمة الأيض، بثلاثة أضعاف ممن كانوا يأكلون مع غيرهم. أما النساء المعتادات تناول الطعام بمفردهن، فكن معرضات للإصابة بمتلازمة الأيض بنسبة 29% عن غيرهن، و45% منهن تعرضن لمعدلات مرتفعة من السمنة. الأكل الجماعي يتخلله أحاديث بين المشتركين في الطعام، وفيه قد نراعي شكلنا أمام من يشاركنا في الطعام، وهو أمر يجعلنا نأكل ببطء، وفي هذا البطء فائدة عظيمة، إذ أثبتت دراسة لعلماء يابانيين نشرتها جمعية القلب الأمريكية أن الأكل السريع يؤدي إلى البدانة. يزيد الإنتاج ويحسن الأداء الزملاء المعتادون الأكل الجماعي أثناء العمل يتحسن أداءهم، ما يؤثر بشكل إيجابي على المؤسسة التي يعملون فيها، هذا ما أثبتته دراسة لعلماء من جامعة كورنيل الأمريكية. الدراسة استمرت 15 شهراً، وشملت 50 فريق عمل بمؤسسات مختلفة، راقبهم نحو 400 باحث، واكتشفوا أن من أكل وحده من الموظفين حصل على درجات تقدير أقل من مديريهم، لضعف إنتاجيتهم وأدائهم، وحدث العكس مع من اعتادوا تناول الطعام مجتمعين، والذين شملهم جو ودي، جعلهم أكثر تعاوناً في العمل، كما شحنهم بطاقة إيجابية دفعتهم للعمل بجد. يحث على تفاعل الطفل مع مجتمعه كذلك كشفت دراسة أوروبية أن الأطفال الذين يتناولون وجبة الإفطار بمفردهم، أكثر عرضة للسمنة بنسبة 40% عن غيرهم، ممن يتناولون الإفطار مع أسرهم. الدراسة التي أجراها باحثون من جامعة أجدر النرويجية على نحو 8 آلاف طفل يعيشون في مجموعة دول أوروبية، أثبتت أيضاً أن تناول الطفل وجبة العشاء مع الأسرة بشكل منتظم، يقلل من احتمال إصابته بالسمنة بنسبة 30% عن غيره، ولكن المثير للفضول أن هذه النتيجة لم تتضح في وجبة الغداء. وبين الباحثون أن تناول الطعام مع الأسرة ينظم مواعيد الوجبات للطفل، ما ينعكس بالإيجاب على استيعاب الجسم له، وكذلك فإن الأحاديث التي تدور على المائدة تجعل الطفل يأكل ببطء فيتناول كمية أقل من الطعام، ما يقيه السمنة. كما أن تناوله الإفطار مع الأسرة يجعله يذهب إلى مدرسته بنشاط وطاقة. استشاري طب الأطفال، الدكتور هاني رمزي عوض يوصي بالأكل الجماعي للأطفال، لأسباب عدة، أولها أنه يكسبهم ثقافة مجتمعهم حتى من قبل أن يتعلموا الحوار، مشيراً إلى أن دراسة أجراها باحثون من جامعة كورنيل الأمريكية، على 200 طفل في عمر عام، أكدت أن الأطفال في هذا العمر يدركون من خلال الطعام الجماعي، الفرق بين اللغات والثقافات التي تمهد لصنع ذوق عام لمجموعة بشرية معينة، إذ توقع الأطفال أن الأشخاص الذين يتحدثون نفس اللغة يحبون نوعية الطعام ذاتها، في حين تبين أن من يتحدثون لغات مختلفة يعجبون بأطعمة مختلفة. كما أثبتت دراسة لجامعة مونتريال الكندية، أشرفت عليها أستاذة العلوم التربوية ليندا باجاني، أن الأطفال المعتادين تناول الطعام مع والديهم، يكتسبون مهارات اجتماعية أعلى من غيرهم. وقالت باجاني إن استماع الطفل لنقاش والديه وأفراد الأسرة الكبار، حول الأمور الحياتية التي تدور أثناء الطعام، يعلمه كيف يشتبك مع الحياة، ويكسبه مهارات تفيده في تعامله مع المجتمع.توفير للطعام وحماية للبيئة
"أكلة هنية تكفي 100"، مثل شعبي مصري، ثبت صحته، إذ تسعى منظمة الأغذية والزراعة العالمية إلى إعادة نمط الأكل الجماعي، وترى أن هذه الطريقة تحد من إهدار الطعام، ما يحمي البيئة من نفايات بقايا الأكل. وحفاظاً على اللحوم وعدم هدرها، كان أكلها قديماً لا يتم في الغالب إلا بشكل جماعي، وخلال المناسبات، لأن أكلها بشكل منفرد يتسبب بإهدارها، والالتزام بهذا النمط كان يولد الألفة بين الناس، بحسب كتاب "ظواهر حضارية وجمالية من التاريخ القديم" لفوزي رشيد. ونقلت إذاعة مونت كارلو عن خبراء، أن العادة جرت على وضع مقادير معينة من الطعام في الصحون الفردية، والتي كثيراً ما تكون أكبر من حاجة المستهلك، الذي عادةً يترك بقايا في طبقه، ترمى في سلة النفايات.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...