حين تقع العملات الورقية بين يديكم في مصر، توقعوا أن تجدوا أنفسكم شاهدين على قصص حب وروايات وحكايات قد تورطكم في مشاعر متضاربة، وأنتم تقرأون ذكريات النجاح والميلاد والوداع مختصرة في محفظة نقودكم.
يهوى بعض المصريين الكتابة على كل ما يحيط بهم، فيكتبون في الصغر على مقاعد الفصل الدراسي، وحين يكبرون يبدلون الوسيط فيكتبون على أعمدة الإنارة وعلى جدران المنازل، عبارات مثل "حج مبرور وذنب مغفور"، وأخرى للفخر بالانتماء للأهلي أو الزمالك أشهر أندية كرة القدم.
يكتبون كذلك على مقاعد المواصلات العامة، وأبواب الحمامات العمومية كنوع من تخليد ذكرى بعينها. في مصر، لا عجب إذا كتب العشاق على حبات الأرز والمعكرونة أو الأشجار أو الأحجار الحروف الأولى من أسمائهم. يكتب هؤلاء على كل شيء تقريباً، حتى على العملات الورقية التي يجاهد الناس في الغالب لكسب المزيد منها وكأنها هي الحياة.
في السنوات الماضية كانت واحدة من أبرز الظواهر التي عرفتها مصر، فكرة الكتابة على النقود، وبدأت الظاهرة تزداد بزيادة "حفلات السبوع" التي تقام للاحتفال بقدوم طفل جديد في القرى الصغيرة، حيث يطبع الوالدان اسم المولود وتاريخ الميلاد وجملة على طريقة "أنا جيت نورت البيت" على عملات ورقية متنوعة لتوزيعها على الحضور في حفل السبوع لتخليد ذكرى الحدث.
وبدون سابق إنذار، انتقلت تلك العادة إلى المدن وأصبحت تقاسم المصريين تفاصيل حياتهم.
تقول "ريهام فتح الله" 16 عاماً، طالبة بالمرحلة الثانوية، إن والدها عوّدها أن يهدي إليها في كل مناسبة مبلغاً من المال مع عبارة مكتوبة تحفظها عن ظهر قلب، رغم مرور سنوات طوال على كتابتها.
تضيف لرصيف22: "اعترف لي أبي أنه ورث تلك العادة عن والده. وكانت أول مرة أحصل فيها على 5 جنيهات كان مكتوب عليها "عقبال ما أشوفك دكتوره "وكانت بمناسبة حصولي على الشهادة الابتدائية، واليوم وأنا على أبواب الجامعة أنتظر تحقيق هذا الحلم لأرى ماذا سيكتب لي والدي على الـ200 جنيه ولن أرضى بغيرها بديلاً".
لم يرث الحاج "كرم"، 56 عاماً، بائع خضار بأحد الأسواق الكبرى بمحافظة القليوبية شمال القاهرة، عن والده هواية بعينها، لكنه ورث عنه مهنة بيع الخضروات، ولأنه كثيراً ما ينشغل مع الزبائن الذين يطالبونه بتخفيض الأسعار، قرر أن يدون كل ما يتعلق بحساباته على العملات النقدية.
ويروي: "كنت أكتب دائماً على الأوراق ولكني اكتشفت بعد فترة أني أفقدها ولا أعرف أين تذهب، لذا جربت الكتابة على العملات الورقية لأنها تبقى معي حتى نهاية اليوم، قبل إرسالها إلى الخزنة "المدام يعني"، فهي من تدبر كل شؤونا المادية. ورغم أن بعض زبائني يرون في كتابتي على الفلوس أمراً غير مقبول فإني مقتنع بأني على صواب "هو أنا بكتب على فلوسي ولا فلوسهم!".
أما "دينا" الطالبة بالثانوية العامة، فهي شاهدة على حكايات كثيرة أبطالها من "الفلوس الورق". تقول إن إحدى صديقاتها تحتفظ بمجموعة من النقود التي أهداها لها حبيبها في أكثر من مناسبة، وجميعها تتضمن عبارات رومانسية باللون الأحمر.
بينما "لمياء"، 41 عاماً، موظفة بوزارة التموين، ترى أن الإنسان قد يكتب على العملة ملاحظات أو حسابات حتى لا ينساها، تماماً كما تفعل هي، إذ تدون على العملات حسابات البيت وفواتير الكهرباء والبقال، وتؤكد: "لو كتبت على أي حاجة تانية هنساها إنما على الفلوس لا".
قلة احترام للعملة الوطنية؟
لم يتوقف شغف المصريين بالكتابة على العملات الورقية للاعتراف بحب الأخر، وتهئنة الغير أو حتى تسجيل الديون والحسابات الشخصية، فقد تعدى الأمر تلك الحدود ووصل إلى تدوين عبارات سياسية كما حدث في 2013 حين انتشرت بالأسواق عملات ورقية مدون عليها شعار حركة تمرد دعت إلى خلع الرئيس السابق محمد مرسي، وهو الفعل الذي حاول بعض الحركات المساندة لمرسي الوقوف أمامه بالتأكيد على أن هذا الفعل لا يليق خصوصاً أنه يهين العملة الورقية الرسمية للبلاد. ورغم أن "محمود" 20 عاماً، طالب كلية الحقوق بجامعة القاهرة، لا علاقة له بالسياسة من قريب أو بعيد، فإنه رفض فكرة الإهانة تلك، وأكد أنه حصل من أساتذته على الكثير من العملات الورقية المدونة عليها عبارات التهئنة بسبب تفوقه، غير أنه أنفقها جميعاً حين منع والده عنه المصروف في فترة ما، ووجد في تلك "المدونات" كما يحب أن يطلق عليها، كنزاً ثميناً وقع بين يديه. كذلك اعترف بأنه لا يرى في فعل كهذا تشويهاً للعملة المصرية التي تراجعت بشكل كبير بسبب قرارات تعويم الجنيه. وهو نفس النهج الذي تبناه "علي" و"عبدالله"كونهما يدرسان بكلية التجارة جامعة عين شمس، ويؤكدان أنه بخلاف تراجع قيمة الجنيه لا يعدو الأمر كونه مزاحاً، أو وثيقة لتسجيل أحداث بعينها للاحتفاظ بها أطول فترة ممكنة، كما أن خال "عبد الله" أنجب 5 مرات وفي كل مرة كان يحتفل بسبوع كل منهم بطباعة جمل احتفالية على العملات الورقية المختلفة. يعارض "أحمد وجدي" 32 عاماً، مندوب مبيعات بشركة لمستلزمات الأدوية بمحافظة الجيزة، الآراء السابقة، ويرى أن الكتابة على العملات الورقية نوع من تدوين الذكريات، لكنه تصرف غير حضاري لأن ظاهرة الكتابة على النقود تحديدا ترجع إلى مشاكل نفسية لدى الشخص الذي يمارس هذا الفعل.على الجانب الأخر من الفجوة
فى المقابل، يرى المصرفيون تلك الأفعال من زاوية أخرى. قال بهاء الخولي الخبير المصرفي بالمؤسسة العربية للاستثمار، إنه لا بد من سن قوانين صارمة تجرم الكتابة والتشويه المتعمد للعملة الوطنية، وطالب البنك المركزي المصري بجمع تلك العملات وإعدامها وطباعة عملات جديدة بدلاً منها. وأضاف: "أغلب الدول ترفض الكتابة على عملاتها لأنها ترى في ذلك إهانة لرموزها، وبالتالي فعلى الدولة أن تدشن حملات توعية لتحث المواطنين على تجنب مثل تلك الأفعال، ولفت البنوك إلى ضرورة جمع تلك العملات وإقناع أصحابها باستبدالها. وقال محمد عمارة أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة جنوب الوادي - القاهرة، عن تلك الظاهرة إن البعض يمارس تلك العادة بصورة لا إرادية، للتعبير عما بداخل النفس، موضحاً أن لكل كلمة تُكتب على العملات دلالة معينة. ويرى عمارة أن البعض يلجأ للكتابة على العملات الورقية كونها الأكثر انتشاراً بين الناس، وبالتالي فالكتابة عليها تعني ضمان وصول الرسالة إلى أكبر عدد ممكن، كما أن قيمتها المادية تجعل الناس أكثر حفاظاً عليها من الورق العادي. بدوره دعا د. علي المكاوي أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، المصريين إلى الإقلاع عن عادة الكتابة على العملة الورقية، لأنها تشكل رمزاً للدولة مثل العلم والسلام الوطني. وشدد على أنه أجرى عدة بحوث حول هذه الظاهرة بعدما جمع مئات العملات، من فئة الخمسة قروش الورقية حتى العشرة جنيهات واكتشف من خلال العبارات المكتوبة عليها أن المصريين يستخدمونها لأكثر من 14 غرضاً، منها كتابة رسائل حب أو عنوان أو شعار أو حكمة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...