ربما لا يهتم أشخاص كثر باسترداد القيمة المتبقية من فاتورة المطعم والبار من النادل، أو من قيمة البنزين، أو من "بون" السندويتشات من الكاشير، والحساب الشفوي من القهوجي، فضلاً عن تعمّد البعض ترك الفكة إكراماً لفنيي شركات الصيانة وغيرهم، أو رغبةً في ضمان خدمة مميزة مقدماً، لتتأسس على ذلك سلوكيات اجتماعية وثقافية تختلف من بلد إلى آخر، بينما تمثل تلك الكسور والإكراميات نظاماً مالياً هو عماد مدخول العاملين في مجالات كثيرة، استغله أصحاب الأعمال وجرى اعتماده كمزايا وظيفية وبنود أساسية من مفردات الرواتب، ليصبح هناك عالم اقتصادي كامل يقوم على "كسر الجنيه".
علم البقشيش
تعود الدراسات التي تتناول البقشيش كظاهرة اجتماعية أو قيمة اقتصادية مؤثرة وذات دلالات متعددة، في الأكاديميات ومراكز البحث الغربية، إلى سبعينيات القرن الماضي، بينما يتعذر حتى الآن الحصول على مصدر لدراسة عربية مشفوعة بالإحصاءات والتجارب الميدانية التي تستخلص أسباب ونتائج وواقع ممارسات تعد شبه يومية بالنسبة للبعض، ومصدر رزق بالنسبة لقطاعات واسعة من العاملين في الأسواق والمجالات المختلفة، وعلى رأسها المجال السياحي. "علم نفس بقشيش المطاعم" هو عنوان دراسة عن العوامل النفسية الكامنة وراء تحول البقشيش من ظاهرة ترجع إلى الحانات الانجليزية في القرن الـ18، حين يعلق الزبائن القطع النقدية للنادل رهنًا للخدمة المميزة، إلى أعراف وقواعد وأطراف تشمل العديد من المهن المختلفة وتنطوي على ملايين الدولارات. هذه الدراسة نشرتها جامعة كورنيل الأمريكية عام 1984، لتبيان الأثر النفسي لهذا التحول وكيف يمكن أن يكون مفيداً للمستهلك ومقدم الخدمة وصاحب العمل. اعتمدت هذه الدراسة على إحصاءات مصلحة الضرائب الأمريكية، التي كشفت أنه من أصل 500 مليون$ هي إجمالي ناتج قطاع المطاعم في عام 1977، كان نصيب العمال 80 مليوناً، مصدرها البقشيش. ووصفت الدراسة الرقم بـ"الضخم"، الذي يستدعي التحليل، وهو ما أسفر على مدار سنوات عن اهتمام بهذا النمط الاقتصادي عبر دراسات أكاديمية متخصصة ومتنوعة ومقالات وتدوينات ومواقع لخبراء المطاعم والأعمال المختلفة خاصة بالبقشيش فقط، بينما لا تعدنا المكتبة العربية، لا سيما الإلكترونية، بغير الفتاوى الدينية وأنسب طرق دفع البقشيش، وأخيراً انطباعات عن الأثر النفسي لتلك الظاهرة الاجتماعية التي وصفتها الدراسة السالفة الذكر بـ"الظاهرة المشؤومة".نقطة نظام
تقوم إدارات المطاعم بتحديد عدد النقاط المستحقة من إجمالي قيمة البقشيش شهرياً لكل درجة وظيفية، ويختلف نظام توزيع النقاط من مطعم لآخر، حيث يحصل عامل التنظيف مثلاً على بونط/نقطة، وعامل المنطقة الخلفية (back area) على نقطتين، والنادل المبتدىء على 3، وصولاً إلى المتر دوتيل الذي يحصل على 10، ثم يتم تقسيم إجمالي قيمة البقشيش على إجمالي عدد النقاط لكل العاملين في المطعم، وعلى هذا الأساس تحدد قيمة النقطة الواحدة، فإذا كان إجمالي النقاط 100 وإجمالي المبلغ 5000 جنيه، فالنقطة الواحدة تساوي 50 جنيهاً.كيف يمكن الاعتماد على مبلغ غير متوقع؟
يقول نور، وهو مدير أحد المطاعم منذ أكثر من 15 عاماً، إن أصحاب العمل يضعون في حسبانهم قيمة البقشيش كجزء أساسي من الراتب، إذ يتم إخبارك في البداية أن قيمة المرتب الزهيدة "التي يلتزم بها رب العمل" سوف تعوضها قيمة البقشيش التي لن تقل عن كذا، إذن كيف يتم تحديد غير متوقع؟ "الأمر ليس كما يظنه البعض للوهلة الأولى"، يقول نور، ويضيف: الأمر محسوم ومقدر سلفاً، بغض النظر عن إكراميات الزبائن. فكما يتم الاتفاق مع رب العمل أو المدير على نقاط التبس (البقشيش) والرقم التقديري له، يشمل الاتفاق تسديد "أرضية" يومياً للمدير أو المتر، كأن يدفع كل كابتن أوردر (درجة وظيفية) مبلغاً معيناً، وبذلك يضمن الجميع الحصول على مبلغ ثابت، وأيضاً عدم تهرب البعض من تسليم قيمة البقشيش كاملة تحت أي حجة.اجتهادات وفتاوى أهل الذكر
وبينما توصلت دراسة حديثة للجامعة نفسها (كورنيل) إلى أن 44% من الأمريكيين حالياً يرون أنه من الأفضل صرف أجور أعلى لطاقم الخدمة بدلاً من الاعتماد على البقشيش كمصدر للدخل، حسبما ذكر الموقع الالكتروني لـcnn، لا يمكن التكهن بنسب الرفض أو القبول بين المصريين، رغم آلاف الأسئلة التي تشغلهم حول تلك القضية، وأكثرها من ناحية دينية، كما يظهر ذلك في المنتديات والمواقع الإسلامية، التي حاول أن يجيب عنها الشيوخ في ظل غياب الباحثين ومشترعي القوانين. ونهى الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق، عن مخالفة قواعد المؤسسة وطلب أو قبول البقشيش من الزبائن بحجة الاسترزاق، لأن في ذلك انتهاكاً لما تعاقد عليه العامل وصاحب العمل، بل "قدح في اسم مؤسسة عايزة تبين إنها ما بتاخدش البقشيش من حد أو إنها على هذا المستوى، وحضرتك بتقدح علشان أكل عيشك.. أكل عيشك إزاي؟ الاسترزاق ازاي في عقد العمل؟.. دي مفاهيم خاطئة.. فيه عقد عمل قصاد مبلغ يا ترضى بيه يا ماترضاش". وسبق أن انتشرت فتوى أخرى للشيخ جمعة تبيح إخفاء البقشيش عن صاحب العمل الجائر. وهو أكد في إحدى فتاويه استقلال الذمة المالية للعامل عن صاحب العمل وأن ليس من حقه أو حق المدير أن يمنعه من قبول البقشيش أو أن يأخذه منه، لأنه بذلك يصبح "مرتكباً حراماً لحصوله على مال من دون وجه حق". عدا فتاوى مفتي الديار السابق، تكثر وتتضارب فتاوى أخرى، باختلاف المواقف التي يسأل فيها "أهل الذكر" عن البقشيش هل هو حلال أم حرام؟ وكيف يفصل الدين بين العامل وصاحب العمل في استحقاق البقشيش؟ بينما تتفشى الظاهرة وتتخذ أنماطاً اجتماعية واقتصادية شبه محددة، يقودها الاستغلال والاتجار بالبشر، في صورة عربية لما يطلق عليه العبودية الحديثة من دون أن تحظى بدراسات أو قوانين ضابطة لما يكون عليه الأمر إذا أصبح البقشيش هو الأجر كله، أو أصبح العامل هو من يدفع لصاحب العمل.أن تدفعوا لرب العمل
"بسكوتة" عمل في إحدى محطات البنزين، دون مرتب ثابت أو متغير، بل على العكس، كان عليه أن يدفع هو للقائمين على المحطة 100 جنيه، ما يطلق عليه "أرضية"، مقابل عمله 24 ساعة متواصلة، أملاً في تحصيل قيمة معقولة من البقشيش بعد حسم حساب الأرضية ووجبات الطعام والسجائر.الطيار رزقه على هواه
محمد يملك "مكنة صيني" أي موتوسيكل/دراجة نارية صينية الصنع، ولا مهنة له في الوقت الحالي، يعمل كطيار (عامل دليفيري) مع المطاعم أحياناً وصيدليات في أحيان أخرى، ويجمع بين أكثر من مكان حين يكون في حاجة لتدبير مبلغ من المال، لكنه لا يتقاضي أجراً محدداً عن عمله، بل نسبة من قيمة التوصيل المضافة إلى الفاتورة، والتي تختلف من مكان لآخر، عدا البقشيش.الكاشير و"كسر الربع جنيه"
يقول إسلام إنه اعتمد هو وزملاؤه نظاماً خاصاً بهم من دون بقية العاملين في مطعم الوجبات السريعة، حيث لا يتم توزيع قيمة البقشيش خلال مدة معينة على جميع زملائه حسب نظام النقاط، ولكنهم قرروا أن يعتمدوا نظاماً أقرب إلى نظام "الجمعية" الادخاري الشعبي، إذ يحصل كل واحد منهم على إجمالي القيمة بالكامل على فترات قصيرة محددة، كل أسبوع أو 15 يوماً على الأكثر، وبذلك يضمن كل منهم أن يحصل على "مبلغ محترم كل فترة". وفضلاً عن اعتمادهم على الفكة (كسور الجنيه: نصف، ربع، أو أدنى من ذلك) التي يتركها الزبائن مرغمين لعدم توفر "فكة"، في تغطية العجز نهاية الوردية، فيقوم العاملون بوظيفة الكاشير، بضم تلك القيمة إلى "حصالة التبس"، ويقول إسلام إن الفكة أو ما نسميه "كسر الربع جنيه" هو الذي ينقذنا في جميع الأحيان نظراً لتدني قيمة الرواتب وطول فترة العمل التي لا تسمح بعمل إضافي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه