من السودان إلى تشاد فتونس... ثلاث محطات في جولة إفريقية استثنائية قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أواخر عام 2017، وكانت الأولى من نوعها لرئيس تركي.
محطته في السودان وصفها بالتاريخية بعد أن ضمن لبلاده حق إدارة جزيرة سواكن، وفي تشاد وقّع خمس اتفاقيات للتعاون، بالإضافة إلى إطلاق محادثات ثنائية لبدء التنقيب التركي عن النفط وتشييد مطار جرمايا شمال البلاد وجسر فوق نهر شاري.
تُعتبر جزيرة سواكن كبرى غنائم أردوغان خلال تلك الزيارة، فهي العاصمة القديمة والميناء الرئيسي لولاية البحر الأحمر، بينما كانت بورسودان مجرد عاصمة إدارية مقارنة بالثقل الإستراتيجي لسواكن التي كانت أحد مقارّ الأسطول العثماني منذ أن سيطر العثمانيون على مصر والسودان عام 1517 حتى مجيء الاحتلال البريطاني للقاهرة والخرطوم عام 1882.
مصر والسلطنة وسواكن
حرص حاكم مصر الخديوي إسماعيل عام 1865، في إطار صعوده الإقليمي على حساب الدولة العثمانية على الاستيلاء على سواكن تحديداً من الخليفة العثماني. كانت سواكن حينذاك تقع في إيالة الحبشة العثمانية، وكانت ولاية البحر الأحمر السودانية لا تقع تحت سيطرة حكام السودان. وقام إسماعيل، حفيد محمد علي باشا، ببناء منازل ومصانع ومساجد ومستشفيات وكنيسة للأقباط، وهي البنية التحتية التي لا تزال في الجزيرة حتى اليوم، وفقاً لموسوعة "تاريخ الدولة العثمانية" للمؤرخ التركي الشهير يلماز أوزتونا (1930 – 2012). ويشير أوزتونا إلى أن سليم الأول، عقب غزو سوريا ومصر، حرص على إرسال قوة خاصة للسيطرة على الجزيرة، تحت إشرافه شخصياً، لأنه مَن يتحكم في سواكن يتحكم في شرق السودان، خاصةً صحراء النوبة التي تشمل المنطقة الصحراوية بين شاطئ البحر الأحمر والضفة الشرقية من نهر النيل في قلب السودان، في تمدد صحراوي يصل شمالاً إلى مثلث حلايب وشلاتين. وتكمن أهمية سواكن الدينية في أنها كانت أقرب نقطة وميناء سوادني لميناء جدة، ولذلك كانت تاريخياً محطة للحجاج. زيارة أردوغان إلى ثلاث دول إفريقية وحصوله على حق إدارة جزيرة سودانية بهذا الثقل التاريخي العثماني أعادت إلى الأذهان الوجود العثماني في القارة الإفريقية، بكل ما فيه من إنجازات وإخفاقات وتساؤلات حول التعامل العثماني مع الملف الإفريقي.رؤية العثمانيين للقارة الإفريقية
تشرح موسوعة أوزتونا أهم دروس قراءة تاريخ تلك الحقبة. كان للعثمانيين، باعتبارهم قبائل آسيوية سكنت دولة نصفها يقع في أوروبا، رؤية إستراتيجية مختلفة عن رؤى الدول الإسلامية السابقة في مكة ودمشق وبغداد والقاهرة. كان السعي الأول للسلاطين العثمانيين اجتياح أوروبا حتى بريطانيا في أقصى الغرب الأوروبي لو لزم الأمر. في المقابل، نظر العثمانيون إلى القارتين الإفريقية والآسيوية من أربعة محاور: الأول، أنها الظهير الإسلامي الذي يجب أن يقع تحت السيطرة العثمانية لأنها الامتداد الإسلامي ورأس حربة الدولة العثمانية، ومن هنا كان اهتمام العثمانيين في شمال إفريقيا تحديداً من دون اهتمام حقيقي بوسط وجنوب وغرب هذه القارة، رغم وجود مجتمعات ذات أغلبية مسلمة فيها، ولكن لم تشكل وقتذاك أهمية سياسية أو عسكرية تعزز الظهير الإسلامي للأناضول.كان السعي الأول للسلاطين العثمانيين اجتياح أوروبا حتى بريطانيا، ونظروا إلى القارتين الإفريقية والآسيوية كظهيرين إسلاميين لخططهم
يخطو أردوغان في تحركه الإستراتيجي في البحر الأحمر الخطوات الإستراتيجية العثمانية نفسها: نفوذ تركي قوي في الصومال وإدارة جزيرة سواكن السودانية...في تلك الحقبة، كان العالم أجمع يتعامل مع القارة السمراء باعتبارها مجاهل بلا موارد طبيعية أو ثروات بشرية. حتى الاستعمار الغربي لم يطرق باب إفريقيا إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن طرق باب آسيا والقارة الأمريكية الجديدة أولاً. ولم تُكتشف ثروات إفريقيا إلا بداية القرن العشرين. وكان المحور الثاني في رؤية العثمانيين لإفريقيا وآسيا هو تصفية النفوذ الأوروبي الموجود أو المحتمل حتى يتم حصر القوى العظمى في أوروبا داخل القارة الأوروبية، ما يسهّل العمليات الحربية الجارية في وسط وغرب أوروبا. والمحور الثالث كان حسم الصراع الإستراتيجي بين الأناضول وفارس ومصر. فلا يمكن للدولة العثمانية وهي تحارب أوروبا غرباً وتتأهب للجم الصعود الروسي شرقاً أن تُكبّل بصراع إسلامي – إسلامي. تم كسر فارس إستراتيجياً في موقعة جالديران يوم 23 أغسطس 1514، وسيطر سليم الأول على مصر عام 1517. وكان المحور الرابع هو تأمين احتياجات الدولة العثمانية من الموارد الطبيعة والبشرية. وكانت ولايات العثمانيين في مصر والشام وآسيا الوسطى واليمن كفيلة بتوفير ذلك، لذا لم يجد سلاطين العثمانيين أن هنالك فائدة من اكتشاف القارة الإفريقية أبعد من شمال السودان انطلاقاً من مصر.
حروب العثمانيين المنسية في إفريقيا
حروب العثمانيين في شمال إفريقيا ربما هي الأشهر في عالمنا العربي. سيطر سليم الأول على مصر والسودان بداية القرن السادس عشر، ثم لعب رجالات البحرية العثمانية الدور الأكبر في باقي دول الشمال. وفي منتصف القرن السادس عشر سيطروا على ليبيا والجزائر، وفي نهاية القرن خضعت تونس. ولم يهتم العثمانيون بالمغرب كثيراً رغم أنهم حاربوا ذات مرة مع الدولة المغربية ضد البرتغال وسيطروا على بعض الأراضي المغربية لبعض الوقت، إلا أنهم، وفقاً لأوزتونا، نظروا للمغرب باعتباره مفتاحاً للمحيط الأطلسي وليست له سلطة قوية في البحر المتوسط. ولم يكن الخروج من مضيق جبل طارق يوماً هدفاً للبحرية العثمانية عسكرياً. ولكن للعثمانيين في إفريقيا حروباً وولاية منسية. والحاصل أنه أثناء الغزو العثماني للقاهرة التحق مملوك بالجيش العثماني، يعرف في كتب التاريخ بـ"أوزدمير باشا"، وهو من مواليد القاهرة لأسرة مملوكية استوطنت مصر في القرن الخامس عشر قادمة من القوقاز. وأثار أوزدمير لغطاً لدى المؤرخين الأتراك في ظل سياسة تتريك كل ما هو عثماني. ولكننا أمام عسكري ولد في مصر لأب ولد في مصر أيضاً. من هنا نشأ مصطلح "أتراك مصر" في كتب التاريخ العثماني، والمقصود به مماليك مصر الذين انضموا إلى صفوف الدولة العثمانية وكانت أصولهم القوقازية والشركسية تعني أنهم أتراك في ظل بعض النظريات التاريخية عن الأصول التركية لجميع تلك الشعوب. ومن المرجح أن هذا الأدميرال العثماني من أصول مصرية قوقازية مشتركة وعاش قبل انضمامه إلى الجيش العثماني باسم آخر غير هذا الاسم الغريب عن ثقافة مماليك مصر سواء القادمين من القوقاز أو غيرهم، كما هو غريب بطبيعة الحال عن الثقافة المصرية. أصبح هذا المملوك يسمي أوزدمير باشا شابسوغ في البلاط العثماني نسبة إلى قبيلته القوقازية، واستطاع في منتصف القرن السادس عشر أن يجمع جيشاً من 30 ألف جندي من المصريين والمماليك، بالإضافة إلى ألف مقاتل من الانكشاريين بأسلحتهم. وبهذا الجيش توغّل في السودان حيث قضى على الممالك والإدارات المحلية شرقاً وجنوباً، ثم أبحر على ساحل غرب البحر الأحمر. بدأ جيش أوزدمير في الاستيلاء على موانئ غرب البحر الأحمر واحداً تلو الآخر، حتى استطاع تحويله إلى بحيرة عثمانية عام 1567، مسيطراً على سواحل الحبشة التي تقع اليوم في ساحل إريتريا، بالإضافة إلى سواحل السودان التي لم يسبق للعثمانيين السيطرة عليها، بالإضافة إلى جيبوتي والصومال، ثم إقليم هرر الإثيوبي الذي يظل حتى اليوم ذا أغلبية وثقافة مسلمتين. وتشكل مدينة هرر عاصمة إقليم هراري في الدولة الإثيوبية الحالية. أسس أوزدمير إيالة الحبشة العثمانية عام 1554، وظلت قائمة حتى تفكيكها عام 1867 على وقع الانهيار البطيء للإمبراطورية العثمانية. ولما استتب الحال للعثمانيين في غرب البحر الأحمر ذهب بجيشه وأسطوله إلى اليمن ليعيد إخضاعها للدولة العثمانية ويحكمها لفترة قبل أن يقوم السلطان سليمان القانوني باستدعائه وجعله مستشاره الخاص. وكان ذا نفوذ هائل في البلاط العثماني وزكى ابنه أوزديمير أوغلو عثمان باشا لدى السلطان، ولاحقاً أصبح عثمان باشا (مواليد عام 1526) في القاهرة مثل ابيه وجده، حاكماً لإيالة الحبشة ثم بات من أهم قادة العثمانيين في القرن السادس عشر، ولقب بفاتح أذربيجان والقوقاز وتبريز وداغستان والسهوب الروسية، وتولى منصب الصدر الأعظم.أهمية السويس والبحر الأحمر للعثمانيين
أقام العثمانيون قاعدة بحرية عسكرية مهمة في مدينة السويس المصرية، باعتبارها مدخلاً للبحر الأحمر عبر خليج السويس في زمن ما قبل حفر قناة السويس. وكانت تلك القاعدة نقطة انطلاق الأساطيل العثمانية إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، كما شُيّدت قاعدة لوجستية للعثمانيين في جزيرة سواكن السودانية وثالثة على سواحل الصومال. ويلاحظ أن أردوغان في تحركه الإستراتيجي اليوم في البحر الأحمر، يخطو نفس الخطوات الإستراتيجية العثمانية، سواء النفوذ التركي القوي في الصومال أو جزيرة سواكن المكسب الأبرز لتركيا عام 2017. بسط العثمانيون نفوذهم على خليج عدن ثم خليج عمان وبحر عمان ومضيق هرمز وبحر العرب وخليج البصرة، انطلاقاً من ميناء السويس، ثم أمر السلطان سليمان عام 1538 بشن أربع حملات بحرية انطلاقاً من السويس إلى المحيط الهندي لتصفية النفوذ والاحتلال البرتغاليين، إذ كان القرن السادس عشر هو قرن الصراع العثماني البرتغالي بامتياز. استطاعت البحرية العثمانية تحرير أراضي سلطنة عمان وعدن من النفوذ البرتغالي، ولكن البرتغاليين كانوا أسياد البحار وقاموا بالتوغل في البحر الأحمر عقب غزو عدن وحاصروا جدة بحرياً في أربعينيات القرن السادس عشر، إلا أن العثمانيين استطاعوا استرداد عدن عام 1548. فشل العثمانيون في دحر الوجود العسكري البرتغالي في شبه الجزيرة الهندية، رغم أنهم كانوا الأقرب جغرافياً إلى الهند عن البرتغال، كما أن المحيط الجغرافي للمنطقة كان إسلامياً، بل كانت دولة مسلمة بثقل إمبراطورية مغول الهند متحالفة مع العثمانيين. وقرر سليمان إيقاف الحملات عام 1555، وإن كان العثمانيون قد عادوا ودعموا أهل آتشيه في سومطرة الإندونيسية عام 1569. يمكن القول إن الخسائر العثمانية في إفريقيا خلال القرن التاسع عشر كانت أقوى جرس إنذار بقرب تفكيك الدولة العثمانية. خسرت إسطنبول الجزائر عام 1830 ثم مصر والسودان عام 1882، وكان لخسارة مصر وقع عظيم على الدولة العثمانية نظراً لمكانتها الإستراتيجية. وبالفعل عقب أقل من أربعة عقود من هذا التاريخ، كانت الدولة العثمانية عملياً في ذمة التاريخ.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...