شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
التصفيق للرؤساء... كيف تتنوّع أساليب انتزاع استحسان الجماهير؟

التصفيق للرؤساء... كيف تتنوّع أساليب انتزاع استحسان الجماهير؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 21 نوفمبر 201707:18 م
لم يحتَج السادات أثناء إلقائه خطاباً عام 1972، بمناسبة ذكرى ثورة يوليو، كثيراً من الجهد لانتزاع تصفيق الحضور. كان عليه فقط أن يكرّر لفظ "ثورة يوليو" أو "الجيش" لتعج الصالة بالتصفيق الحار مرتين متتاليتين تفصل بينهما 28 ثانية فقط. قال السادات في خطابه: "ظل الحكام يعيشون في هذه الغواية إلى أن كانت سنة 1952"، فاندفع الجمهور بتصفيق متواصل لمدة 14 ثانية. وبعد ذلك بأقل من نصف دقيقة اندفع الجمهور في تصفيق آخر استمر ثماني ثوانٍ حين ذكر حركة يوليو متبوعة بالتاريخ التفصيلي لوقوعها (23 يوليو 1952). اعتمد السادات لحصد تصفيق الحضور في المثالين السابقين على أسلوب يرتكز على ذكر تاريخ أو حدث يحظى بتقدير الجمهور. يشرح الأستاذ المساعد لمادة البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاهرة عماد عبد اللطيف، في كتابه "لماذا يصفق المصريون؟"، أن هذا الأسلوب سبق أن اعتمده جمال عبد الناصر في الستينيات من القرن الماضي بذكره الحركات الجماهيرية أو العسكرية التي استهدفت الخلاص من الاستعمار القديم، أو انقلبت على أنظمة حكم ملكية، مثل مجاهدي الجزائر وثورة اليمن وثورة العراق. في عام 1966 ألقى ناصر خطاباً بمناسبة ذكرى الوحدة مع سوريا وذكر جملة "استيقظ العالم على أنباء ثورة 14 يوليو في العراق"، فعجّت القاعة بالتصفيق. وقد يلجأ الرئيس أيضاً إلى ذكر أشخاص. في سنوات حكمه الأولى، كثيراً ما ذكر السادات اسم عبد الناصر لاصطياد تصفيق الجماهير. بيد أن قائمة الأشخاص أو التواريخ أو الأحداث التي تحظى بالتصفيق اختلفت من لحظة زمنية إلى أخرى، وتأثرت بموقف الحاكم وتقييمه لمثل هذه الأحداث. يذكر عبد اللطيف أن "أعضاء الاتحاد الاشتراكي ومجلس الأمة الذين صفقوا في الستينيات لكل ما يتعلق بنقد شاه إيران، هم أنفسهم، بعد أن تحولوا ليصبحوا أعضاء في مجلس الشعب أو الحزب الوطني، مَن صفقوا بحرارة للشاه نفسه، رغم أنه لم يطرأ تغيير يذكر على الشاه أو على نظام حكمه". التغيير الذي طرأ كان على موقف الحاكم المصري منه. ففي حين عاداه عبد الناصر لموقفه الداعم لإسرائيل، وعلاقاته الوثيقة بأمريكا التي رأى أنها تهدد القومية العربية، وافقه السادات. وفي الحالتين صفق رجال السلطة للحاكم.

مصيدة الدين

يبدو أن السادات، في أواخر عام 1977، كان يدرك أن المفردات الدينية هي بوابة الوصول إلى استحسان الجماهير. ففي خطابه في مجلس الشعب في 19 نوفمبر 1977 تحدث عن قانون الضرائب وربط بينه وبين العدالة الاجتماعية التي أرادها الله فصفق له الحاضرون ثم ذكر آية قرآنية فصفقوا مرة أخرى. وكرر السادات ذلك فحصل خمس مرات أخرى على تصفيق حاد مصحوب بعبارات "الله أكبر" خاصة عندما قال "أخاف أن أذهب إليه (أي إلى الله) فيحاسبني: لماذا كما نصت الشريعة لم آخذ من فضول الأغنياء لأساعد الفقراء".
ظهر استخدام الدين بوضوح مع الرئيس الأسبق محمد مرسي. تقول الباحثة بسمة عبد العزيز لرصيف22 إنه بعد ترؤسه مصر حدث "صراع تمثيل"، بمعنى أن الرئيس الإخواني جاء ممثلاً لجماعة دينية، وبالتالي تصارعت مؤسسة الرئاسة ومشيخة الأزهر الممثلة للإسلام تاريخياً في مصر على تمثيل المصريين أو تمثيل الدين المُقدّم لهم، وتجلى ذلك تضمين مرسي خطاباته آيات قرآنية وأحاديث نبوية.
صفّق المصريون كثيراً لرؤسائهم وهم يسخرون من أشخاص آخرين.. ما هي الأساليب التي يستخدمها الرؤساء لانتزاع تصفيق الجمهور؟
السياسيون يطوّرون طرقاً خاصة بهم للحصول على التصفيق استناداً إلى مجموعة معايير... تعرفوا إليها
ولجأ الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الأسلوب ذاته في مناسبات كثيرة. وذكرت عبد العزيز أنه ذكر ذات مرة أن ظروف مصر صعبة ودعا الله أن يساعدها، فصفق له الجمهور رغم أنه قال "حضرتك يا رب".

الفكاهة والمفارقة

لا يمكن استبعاد الفكاهة من السياق. فبطرفة لطيفة استطاع الرئيس محمد نجيب أن يحصد تصفيق الجمهور وهتافه لمدة دقيقة كاملة، وذلك أثناء إلقاء خطاب عام 1953 في الذكرى الأولى لثورة 23 يوليو. قبل هذا الخطاب كان قد وزّع بعض الأراضي على المزارعين الفقراء، فقال ضاحكاً: "أرجو أن لا يكون إعطاؤهم هذه الأطيان سبباً في الإسراف أو الإهمال أو الكسل أو تعدد الزوجية". فضحك الجمهور وصفق له لمدة سبع ثوان. وفي ذكرى ثورة يوليو، عام 1966، ربط ناصر بين تذاكر الأتوبيس والسلع التموينية التي اختفت من الأسواق بسبب جشع التجار، قال: "قلنا هنرفع تمن تذاكر الأتوبيس. أنا بتكلم على تذاكر الأتوبيس مش على الرز، تذاكر الأتوبيس مش هتتباع في السوق السودا"، فصفق الجمهور. ثم عاد مرة أخرى وقال: "حد يطلع يشترى تذاكر الليلة من السوق السودا"، فصفق له الجمهور ضاحكاً. وبحسب عبد العزيز، امتلك رؤساء مصر السابقون روح الدعابة وانتزعوا بها تصفيق الجمهور، بينما افتقدها مرسي والسيسي بشكل ملحوظ.

السخرية من الآخر

صفّق المصريون كثيراً لرؤسائهم وهم يسخرون من أشخاص آخرين كانوا غالباً خصوماً للمتكلم. وبحسب ما ذكره عبد اللطيف، اختلف الطرف الآخر الذي يُسخر منه من ظرف سياسي لآخر. ففي الخطاب الناصري في الستينيات كان الرئيس يسخر من قوى الرجعية والإمبريالية والصهيونية وعملائها، وفي الخطاب الساداتي في أواخر السبعينيات كانت السخرية من الشيوعيين الملحدين أو الانتهازيين أو من الجماعات التي تتاجر بالإسلام أو المثقفين المأجورين. في خطاب ألقاه في جامعة القاهرة عام 1966، في ذكرى الوحدة مع سوريا، تكلم ناصر عن حلف بغداد ساخراً: "بيقول الملك فيصل إن الغرض هو مقاومة الإلحاد. هل هنقاوم الإلحاد بالسياسة ولا نقاوم الإلحاد بالدين؟ دا حلف سياسي ومش حلف ديني، إذا كان تكتل ديني كان يكون من رجال الدين. بقى شاه إيران وبورقيبة هم اللي هيقاموا الإلحاد في العالم العربي والعالم الإسلامي؟! اشمعنى؟!". وتنبع سخرية السؤالين من عناصر سياقية يعرفها الجمهور. فلم يكن الرئيس بورقيبة أو الشاه الإيراني ممن يُعرفون بالتدين. وبحسب عبد اللطيف، فإن هذه المعرفة المشتركة بين الخطيب والجمهور هي التي فتحت الباب أمام التساؤل الاستنكاري "اشمعنى؟". هذا الأسلوب عمد إليه السادات كثيراً. في خطاب في مجلس الشعب عام 1978، تهكم على تحوّل العلاقة بين ليبيا والاتحاد السوفياتي من العداء إلى التعاون، قال: "معمر القذافي قال عليه (الاتحاد السوفياتي) الملحد الكافر والاستعمار الجديد. دلوقتي علاقته مع معمر القذافي سمن وعسل. يا هل ترى معمر هو اللي قلب؟ ولا الاتحاد السوفياتي هو اللي آمن؟" فانفجرت القاعة بالضحك والتصفيق. ونمّ التصفيق عن استحسان للطريقة التي تمت بها صياغة السخرية، أو تأييداً لموقف السادات المعادي للطرفين.

مديح الأنا

وبواسطة مديح الذات، يحاول رجال السياسة دوماً تأكيد شرعية وصولهم إلى الحكم أو احتفاظهم به. يعزو الرئيس لنفسه صفات إيجابية كحب الوطن والتضحية من أجله وحمايته والحرص على مصالحه وتحمّل الصعوبات والمشاق في سبيله، إضافة إلى صفات أخرى مثل الذكاء الشديد وحسن تقدير العواقب. وبحسب عبد اللطيف، "يتزايد حضور هذا الأسلوب في الخطاب السياسي المصري في أوقات الأزمات، إذ يحرص الحاكم على أنه ما زال أهلاً للحكم وقادراً عليه، وكذلك في زمن الانتصارات يحرص على أن يربط نفسه بها، ويظهرها بوصفها نتاجاً لعظمة شخصيته وعظيم خصاله". في خطبة السادات التي ألقاها بعد حرب أكتوبر 1973، قال "عاهدت الله وعاهدتكم، وحاولت مخلصاً أن أفي بالوعد، ملتمساً عون الله". فاندفع الحاضرون بالتصفيق. ثم قال إنه شارك مع جمال عبد الناصر في إعادة بناء القوات المسلحة، وشاءت الأقدار أن يتحمل مسؤولية استكمال البناء، فجُوبه بتصفيق حاد آخر.
فعل مبارك ذلك أيضاً في خطبته أمام مجلسي الشعب والشورى في نوفمبر 2006 حين قال: "سأواصل معكم مسيرة العبور إلى المستقبل متحملاً المسؤولية وأمانتها ما دام في الصدر قلب ينبض ونفس يتردد". فصفق له الجمهور وصفق مجدداً عندما قال: "لا أهتز ولا أتزعزع، لا أفرط في مصالح الوطن أو سيادته أو استقلال إرادته، لا أقبل أي ضغوط، ولا أنحنى إلا لله". وبحسب عبد العزيز، يظهر مديح الذات كثيراً في خطابات السيسي. على سبيل المثال كثيراً ما طالب المصريين بألا يستمعوا لأحد غيره باعتباره يملك الصواب ولا يهدف إلا لمصلحة بلده وهو ما يُقابل بالتصفيق.

تنوع الأساليب

تتنوع أساليب انتزاع استحسان الجماهير، إلا أن عبد اللطيف ذكر لرصيف22 أن السياسيين يطورون طرقاً خاصة بهم للحصول على التصفيق، استناداً إلى مجموعة معايير، منها كفاءتهم في مخاطبة الجماهير، وطبيعة السياسات التي يتبنونها، ومستوى شعبيتهم، والظروف العامة التي تحيط بهم. فاعتمد عبد الناصر ما قبل هزيمة يونيو على أساليب إثارة حماسة الجمهور، بوصفه زعيماً، مقاتلاً، وبتصويره الشعب-الجمهور جنوداً في معارك نبيلة مستمرة، وذلك من خلال الكلام وتعبيرات الجسد، وصوته الجهوري القوي. لكن الهزيمة عطلت فعالية الحماسة، فلم يتبقّ من الأدوات إلا خطاب الإصرار على محو آثار الهزيمة، والمصفقون المأجورون، بحسب عبد اللطيف. وحين تولى السادات الحكم، كان المصريون يخشون من التحولات العاصفة، لذا صفقوا له كثيراً كلما أعلن أنه متمسك بسياسات عبد الناصر، ثم صفقوا أكثر حين قادهم إلى أول نصر على إسرائيل، وظلوا يصفقون له، حين أسكرتهم وعوده بالرفاه القريب. وحين فشلت وعوده، لم يبقَ من أدوات جلب الاستحسان إلا السخرية من الخصوم، والشتائم، وخطابات الكراهية والتحريض، وأوكلت مهمة التصفيق كليّة لمجموعات المنتفعين، والمصفقين المأجورين، بحسب عبد اللطيف. أما السيسي، فتذكر عبد العزيز أنه اعتمد لجلب التصفيق في بداية عهده على فكرة "الحنو" عندما قال "هذا الشعب لم يجد مَن يحنو عليه"، وكذلك على العزف على وتر أن "مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا"، وهي شعارات فقدت بريقها بعد فترة قصيرة. ويذكر عبد اللطيف لرصيف22 أنه رغم كل هذه الحيل والفخاخ أصبحت ثقة المصريين في دلالة التصفيق سيئة للغاية بسبب تاريخ طويل من تزييفه، واصطناعه، إلى حد أنهم اخترعوا مصطلحات للدلالة على التصفيق المأجور، مثل "المصفقاتية" أو "الهتيفة"، فالغالبية الأعم من المصريين تنظر إلى استجابات جمهور خطب الرؤساء على أنها مسرحية مفبركة، مكشوفة وفجة في بعض الأحيان. وتتفق عبد العزيز مع هذا الرأي وترى أن جمهور القاعة ممن يسمعون خطاب الرئيس ليس عينة عشوائية ممثلة للشعب، ولكنه مختار بعناية ودقة وقادم بالأساس من أجل التصفيق حتى لو لم يوجد ما يستدعي ذلك.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image