للجسد لغة، ولكل إيماءة تفسير، والإنسان لا يتحدث بلسانه فقط، بل كثيراً ما تتحدث بقية أجزاء جسده، وأحياناً تنصت لأحدهم وتشعر أن عينيه تقولان شيئاً مختلفاً عما ينطق به لسانه. ولتفسير القصد الفعلي لما وراء الكلام، يتمّ اللجوء إلى فكّ طلاسم لغة الجسد علّها تقدّم معلومات إضافية على ما ينطق به المُتحدث. معروف أن أصحاب المناصب يلجأون إلى الحديث المنمق لإيصال رسائل معينة، ويحاولون ممارسة أقصى ضبط للنفس من أجل إخفاء مشاعرهم الحقيقية، ومع ذلك قد تخونهم سيطرتهم الحركية وتعبر عن شيء يحاولون إخفاءه. إذا تتبعنا أحاديث وحركات وإيماءات الرؤساء العرب وملوكهم، تظهر مجموعة من "اللزمات" الحركية التي تقول الكثير عن طبائع شخصياتهم.
ماذا تقول الـ"لزمة" عن شخص الرئيس؟
اللزمات هي اضطرابات حركية أسبابها غالباً نفسية، وهي عبارة عن تنفيذ لا إرادي ومتكرر وملّح لحركات أو لأصوات بصورة مفاجئة سريعة جداً وتحدث متقطعةً وتكرر في اليوم الواحد عدة مرات. وللزمات أشكال عدة، منها لزمات الوجه والرأس والعنق والجذع والأطراف، وتفسيرها يختلف من فرد إلى آخر. أثناء المتابعة المتأنية لخطاب رئاسي ما، تلفت نظر المُشاهد حركة "يد" أو "وجه" مُعيّنة يكررها الرئيس بين حين وآخر. هذه هي اللزمة الملازمة له. وبسؤال الدكتور هاشم البحيري، عالم النفس المصري ورئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر، عن تفسير اللزمات أو الحركات اللاإرادية وكيفية قراءتها، وهل من تفسير عام ينطبق على كل حركات "اليد" مثلاً أو تحديد واضح لما تعبّر عنه اللزمة، قال لرصيف22 إن كل لزمة حركية تعبّر عن شيء ما، ولا قاعدة مُعيّنة عن دلالات لزمة محددة، فليس هناك حركة تعبّر عن "انعدام الثقة بالنفس" على سبيل المثال، فلكل شخص ولكل حركة تفسير، ومع هذا توجد بعض القواعد العامة. بروتوكولياً، يلجأ الرئيس إلى خبراء لمساعدته في ترتيب حديثه، وضبط انفعالاته وحركاته، ليوصل رسالة مُحددة تقتضيها سياسته، تقول الخبيرة في لغة الجسد الدكتورة رغدة السعيد لرصيف22، موضحةً أنه على سبيل المثال كانت للرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، خطابات تُدَّرس بسبب انضباط لغة جسده العالية. ولفتت إلى أن أغلب الرؤساء العرب يلجأون إلى خبراء سياسيين ليسوا متخصصين في لغة الجسد، ولذلك نجد الكثير منهم تخونه انفعالاته، وبخاصة أن هناك شخصيات حسيّة وانفعالية لا تستجيب لتوجيهات الخبراء."احترام داخلي وخارجي"
عُرف عن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، تعديل "جاكيت البدلة" الذي يرتديه أثناء حديثه في أغلب لقاءاته الجماهيرية. وعن تفسير هذه اللزمة الغريبة، يقول البحيري لرصيف22 إن انشغال الشخص بمظهره الخارجي أثناء حديثه ينمّ عن محاولاته المستميتة للظهور بمظهر قوي ومحترم داخلياً وخارجياً، من أجل وصول إلى أقصى درجات الكمال.إذا تتبعنا أحاديث وحركات وإيماءات الرؤساء العرب تظهر مجموعة لزمات حركية تقول الكثير عن طبائعهم
إصبع صدام وضرب القذافي الطاولة وتحريك عبد الناصر جاكيته.. ماذا نستنتج من الحركات الملازمة للرؤساء العرب؟ولكن السعيد تقول إن هناك احتمالية أخرى هي أن عبد الناصر لم يكن معتاداً البدلة الرسمية المفتوحة، بل البدلة الحربية المغلقة الأزرار، لذا كان لديه شعور داخلي بعدم الارتياح لمظهره ويحاول تجاوزه بضمّ الجاكيت.
"إصبع الاتهام"
الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان معروفاً بقوته وعنفوانه، وأظهرت لقطات عديدة له، رفعه السبابة عندما يوجّه حديثه، في إشارة شبيهة بالتوعد.
ويقول البحيري إن هذه اللزمة تُسمى "إصبع الاتهام" الذي يستخدمه الشخص للتشكيك وتوجيه التهم لجميع مَن يتحدث إليهم.
"لغة الأمر المباشر"
ولدى الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، لزمة تُشبه لغة الإشارة التي يستخدمها ذوو الاحتياجات الخاصة سمعياً أو صوتياً، فهو مع كل حرف ينطقه يُشير بشكل يناسب الكلمة، على سبيل المثال إن تكلم عن القلب يشير إلى قلبه، وإن كرر كلامه يكرر حركة يده.
تقول السعيد إن هذه اللزمة تسمى لغة استرشادية، وتعني أن الشخص "بصري" ومفرداته بسيطة يعبّر عنها بحركة جسده، وهي تُسمى لغة الأمر المباشر الواضح، ما يعني أن شخصية صاحبها عصبية، ويعاني من انعدام الثبات الانفعالي.
"نرجسية مرضية"
كانت لدى الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي لزمته، "خبط قوي" بيده على الطاولة التي أمامه، حينما يتحدث.
تفسّر السعيد هذا الأمر بأنه لزمة حقيقية غير مفتعلة، نابعة من إحساس بالنرجسية المرضية. فالقذافي كان يتعامل مع الآخرين باعتبار نفسه ملك الملوك، كما سمّى نفسه، وتلك قناعته الشخصية، لذا يريد من خلال "الخبط" على الطاولة إسكات الجميع، لظنه أنه هو وحده الذي يسيطر على الموقف.
"الانفعال... أسلوب تعبير شرق أوسطي"
الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة كان يتكلم ويُحرّك جسده العلوي كاملاً في حركات انفعالية متكررة، وخاصةً يديه، أو يتمايل بانفعال شديد.
ويُفسّر البحيري هذه الحركات بأنها أسلوب تعبير عن الرأي يتميز به سكان البحر المتوسط، لما لهم من انفعالات مُشابهة تُسمى بأسلوب شرق أوسطي، وينمّ عن محاولة إيصال الرسالة المطلوب إيصالها بشكل قوي وإلحاح على وجوب الفَهم الصحيح لما يُحاول الشخص التعبير عنه.
"تشبُّه بالثقافة الغربية"
بالرغم من أنه غير متعارف عليه سياسياً، فإن الرئيس القطري تميم بن حمد يُحبذ وضعية الجلوس "ساق فوق الساق الأخرى" إحداهما مرفوعة بشكل كبير عن الثانية..
ويُرجع البحيري الأمر إلى التشبه بالثقافة الغربية، فضلاً عما فيه من رسالة غرور مُبطنة.
"انطباع سلبي"
يلجأ الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إلى لزمة مدّ لسانه أثناء الحديث ويكرر الأمر أثناء حواراته.
وترى السعيد أن هذه اللزمة من الممكن أن تكون مُصاحبة للرئيس منذ فترات زمنية بعيدة، وعلى الأرجح منذ الطفولة، لافتةً إلى أنها حركة عضوية ولها تفسير فرضي هو أن الشخص فاقد للسيطرة على نفسه وتصرفاته، وبالتالي غير متحكم في تعبيرات وجهه، ما يُعطي انطباعاً سلبياً عنه لمُتلقي حديثه.
"إخفاء توتر وكبت انفعالات"
شبك اليدين إحداهما بالأخرى من أشهر اللزمات التي اشتهر بها العديد من الرؤساء العرب. كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، في أغلب اطلالاته في لقاء تلفزيوني أو خطاب جماهيري، يضمّ يديه معاً ويعاود الحركة نفسها مراراً.
وعُرفت عن الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك لزمة شهيرة جداً هي التقاء كفّي يده مع شبك أصابعه ثم فك الأصابع وتحريك يديه.
العاهل الأردني عبد الله الثاني بن الحسين قلما نراه منفعلاً، فهو شخصية هادئة ولزمته هادئة مثله، فله حركة ضمّ اليدين، ولكن بهدوء ولثوانٍ معدودة، ثم إعادتهما إلى وضعهما الطبيعي.
ويؤكد البحيري أن هذه اللزمات يمكن وضعها في قالب واحد له تفسير محدد، هو محاولة الدفاع عن النفس، وكأن الشخص موضع اتهام، وكنوع من اتخاذ ساتر للحماية من خطر ما، كما أن أصحاب هذه اللزمات اللاإرداية يحاولون بها إخفاء القلق وتقليل حدة التوتر الكامن في داخلهم.
"الأذرع... دليل زعامة"
قبل أن يتغيب عن المشهد السياسي، كان الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة يعتمد لزمة تثبيت ذراع ومدّ الآخر على طوله، وتحريك رأسه للنظر في أكثر من زاوية أثناء كل خطاب له.
وكان ملك السعودية الراحل عبد الله بن عبد العزيز يستخدم يده اليمنى في حركة بطيئة جداً ويرفعها قليلاً أثناء حديثه بشكل هادئ. هذه اللزمة التصقت به.
يؤكد البحيري أن تحريك الأذرع بأي شكل من الأشكال نابع من إحساس داخلي بالزعامة، وبالتالي التعبير عنها بحركة فتح الذراع والتلويح به، وكأن الشخص يريد إيصال رسالة بأنه قائد وزعيم.
"الرئيس الراعي"
الرئيس السوداني عُمر البشير، كلما أطل بحديث أو لقاء، يمسك بيده عصا يلوّح بها ويحركها كثيراً مع كل كلمة.
يقول البحيري إن الأمر هنا مختلف قليلاً، فهي لا تعبر عن الزعامة بشكل مُطلق بل عن فكرة الرعية، فهو يتصرف وكأنه راعي قبيلة، وليس قائداً. الراحل الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، عُرف عنه التلويح بيده اليمنى تحديداً في خطاباته أو لقاءاته الجماهيرية، ورافقته هذه اللزمة حتى لحظاته الآخيرة.
والتلويح باليد هو بالأساس استجابة، وهو أيضاً أفضل أسلوب للتفاعل بين الأشخاص، وفي حال تكرر يصبح "لزمة"، تقول السعيد موضحةً أن الرئيس عرفات كان يلوّح دائماً بيده لشعبه، لإرسال رسالة إليهم بأنه حاضر ومتفاعل معهم، وهو أمر ينمّ عن التحفيز المتبادل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...