بكل تأكيد، يبدو امتلاك سيارة خاصة أمراً طبيعياً اليوم، بل من أساسيات الحياة العصرية.
منذ منتصف القرن العشرين، أصبحت هذه الآلة المعدنية ذات الدواليب الأربعة من مداميك الثورة الصناعية، ولعبت دوراً محورياً في تطور الثقافة الشعبية، والحياة العملية، والنمو الاقتصادي للأشخاص والدول على السواء.
وقد انبثقت من وجودها صناعات وقطاعات عدة، بدءاً من شركات تصنيع السيارات، وصولاً إلى منتجات التأمين عليها، وتنظيفها، وصيانتها، وغير ذلك الكثير. كما باتت مستهلكاً رئيساً لمنتجات سوق النفط.
إلا أن هذه القطاعات الضخمة مهددة بحقيقة تُرسّخها شركات الأبحاث والحكومات وحتى شركات السيارات، التي تؤكد أن المستقبل لن يشمل السيارات بصورتها التقليدية.
تشريعات للحد من السيارات التقليدية
تنحيةُ السيارات التقليلدية عن الطرق تحل مشكلات عدة، أهمها تخفيض البصمة الكربونية والتلوث البيئي وزيادة الأمن على الطرق وحل أزمة تعاني منها معظم المدن الكبرى، وهي الازدحام. كانت سنغافورة قد أعلنت مؤخراً أنها ستجمد شراء السيارات الجديدة بدءاً من 2018، وستزيد استثماراتها في مجال المواصلات والبنية التحتية بنحو 20 مليار دولار. هذه الخطوة لم تكن مفاجئة لسكان هذا البلد، حيث يعدّ امتلاك سيارة أشبه بالحلم،نظراً لارتفاع ثمنها والضرائب الكبيرة المفروضة عليها. على سبيل المثل، يتجاوز ثمن التويوتا كورولا الـ80 ألف دولار أمريكي، أي 4 أضعاف ثمنها في مناطق أخرى من العالم. لم تكن سنغافورة الوحيدة ولن تكون الأخيرة في هذا السياق، إذ ستلحق بها أوروبا التي تعد رائدة في هذا المجال، لا سيما أن مدنها وعواصمها عانت كثيراً من الازدحام والتلوث. أعلنت بريطانيا سابقاً أنها ستمنع بيع السيارات العاملة على البنزين أو الديزل في عام 2040، وستكون مدينة أوكسفورد أول مدينة بريطانية تمنع هذه السيارات من الشوارع قبل الموعد بعشرين عاماً، وذلك عام 2020. كذلك أعلنت فرنسا منع السيارات العاملة على البنزين أو الديزل عام 2030، ومنذ اليوم تقيم مدينة باريس بين الفينة والأخرى حملة "يوم بلا سيارات" لتهيئة السكان لهذه الخطوات. ونتيجة لسياسات كثيرة اتبعتها الدولة منذ 2005 لتقليل الاعتماد على السيارات، وخاصة العاملة على الوقود، شهدت مبيعات الأخيرة هبوطاً بنسبة 20% منذ ذلك الحين. وفي آسيا، وضعت دول مثل الصين والهند العديد من التشريعات للحد من السيارات التقليدية. أما البلد الوحيد في العالم الذي قرر حظر سيارات البنزين والديزل نهائياً، بدءاً من سنة 2025، فهو النرويج، برغم أنه من أهم منتجي البترول في أوروبا.ما هو البديل؟
يوماً بعد يوم، تبدو صورة السيارة العاملة على الوقود، مع انبعاثاتها والازدحام التي تسببه، مظهراً غير حضاري ولا يتناسب مع التطور التكنولوجي الذي وصلنا له في قطاعات أخرى. ويبدو الاستثمار في المواصلات العامة الحديثة، وخاصة القطارات السريعة والمريحة الذاتية القيادة، أمراً حتمياً للدول التي تتجه بمدنها نحو نموذج المدن الذكية. كذلك الأمر بالنسبة للسيارات الكهربائية، وتطبيقات مشاركة السيارات والرحلات، والسيارات الذاتية القيادة، التي أصبحت تمثل حلولاً بديلة ومتحضرة وأكثر أماناً وحفاظاً على البيئة. العالم أجمع بات مقتنعاً بأن نهاية السيارات التي تعمل بمحركات الوقود التقليدي هو أمر حتمي، مع أن حصة السيارات الهجينة أو الكهربائية من السوق ما زالت ضئيلة. ففي 2016 استحوذت هذه المركبات الصديقة للبيئة على 3.5% من إجمالي المبيعات العالمية للسيارات بسبب غلاء ثمنها بشكل أساسي. ولكن بقيت مراكز الأبحاث والشركات مصرة على توقعاتها بمستقبل تسيطر عليه هذه السيارات. وكالة "بلومبيرغ" أكدت حتمية هذا التحول، متوقعةً أن يصل هذا السوق إلى نقطة تضخم بين عامي 2025 و2030، ثم ستزداد مبيعات السيارات الكهربائية بشكل حاد. وعزت الوكالة ذلك إلى حل المشكلة الأكبر التي تلجم تطور السيارات الكهربائية، وهي التكلفة العالية للتصنيع، خاصة تكلفة إنتاج البطاريات، التي بدأت منذ 2010 بالانخفاض، بوتيرة أسرع من المتوقع. وهذا يدعم الصناعة لتشكل 54% من سوق السيارات العالمي في 2040.العالم أجمع بات مقتنعاً بأن نهاية السيارات التي تعمل بمحركات الوقود التقليدي أمر حتمي.. سنغفورة ستمنع بيعها بدءاً من 2018 ودول أخرى عام 2030
جيل الألفية الثالثة أقل تعلقاً بالقيادة ممن سبقوهم.. 48% من البريطانيين الذين تراوح أعمارهم بين 17 و20 عاماً كانوا يمتلكون رخص قيادة عام 1994 مقابل 31% في 2016
ماذا يعني هذا لشركات السيارات
يرى قطاع إنتاج السيارات أن التحول السريع إلى السيارات الكهربائية سيعني إضافة مئات الآلاف من العمال إلى جيش البطالة. إلا أن الشركات لم يعد أمامها الكثير من الخيارات، فبات استثمارها في تقنيات السيارات الكهربائية ومحاولة البحث عن طرق لخفض تكلفتها، أمراً حتمياً لاستمراريتها. وعليه، تتوالى إعلانات مصنعي السيارات عن استثماراتهم في التقنيات الحديثة لضمان نصيبهم في السوق، ومنها إعلان شركة فولفو وقف إنتاج السيارات التقليدية بعد 2019. وإعلان تويوتا اليابانية مشروع تطوير تكنولوجيا السيارات الكهربائية بالتعاون مع مازدا بهدف تخفيض تكلفتها. علماً أن جنرال موتورز أعلنت أنها في الطور الأخير لاختبار سيارات القيادة الذاتية في شوارع نيويورك، لتكون الخطوة الأولى قبل إطلاقها كسيارات أجرة. هكذا يشكّل مصنعو السيارات التقليديون، مثل BMW وفولفو ونيسان وغيرهم، منافسة صاعدة أمام شركة السيارات الكهربائية الأهم حالياً، تسلا.كيف سيبدو مستقبل القيادة؟
يبدي الباحثون الاجتماعيون شكوكاً في هذه التوقعات، مستندين إلى دور السيارات والقيادة كجزء من الثقافة الشعبية الراسخة، وخاصة لدى الشباب، إلا أن دراسة حديثة لهيئة النقل التابعة للحكومة البريطانية أتت بنتائج صادمة في شأن تفضيل القيادة. تقول الدراسة إنه في عام 1994 امتلك 48% من الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 17 و20 عاماً رخص قيادة. وكذلك 75% من الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 21 و29 عاماً. أما في 2016 فانخفضت هذه النسب إلى 31% بين الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 17 و20 عاماً، و66% لدى الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 21 و29 عاماً. هذا الانخفاض يثبت أن جيل الألفية الثالثة أقل تعلقاً بالقيادة ممن سبقوهم، وفيما يرجع البعض ذلك لغياب الأمن الاقتصادي، يتمثل السبب الأهم بتغير سلوكيات هذا الجيل واعتماده على التكنولوجيا بشكل كبير، مثل تفضيله التسوق وإتمام معاملاته الرسمية عن طريق الانترنت، وتواصله الدائم افتراضياً مع أشخاص بعيدين. عدا الصعود السريع الذي شهدته شركات عدة مثل أوبر وكريم.ماذا عن الدول العربية؟
بالرغم من غياب الأرقام الدالة على مبيعات السيارات الكهربائبة في العالم العربي، وعدم وجود تشريعات حكومية داعمة لها، فمن المتوقع أن تتأخر هذه الدول عن اللحاق بالركب العالمي في هذا الاتجاه، لا سيما أن السيارات الكهربائية بحاجة لدعم كبير للبنية التحتية، وتوفير محطات للشحن الكهربائي، وتخفيض تكاليف التأمين والتسجيل لهذه المركبات للتشجيع عليها. ولكن الدول العربية ستجبر في مرحلة ما على اللحاق بالركب، خاصة حين يأتي القرار من شركات تصنيع السيارات نفسها، التي ستوقف تصنيع السيارات العاملة على الوقود مستقبلاً. وفي ظل غياب المبادات العربية، تعد الإمارات العربية المتحدة، وخاصة دبي، متقدمة في هذا المجال. إذ أطلق المجلس الأعلى للطاقة في دبي محفزات للتوسع باستخدام السيارات الكهربائية في الإمارة، عبر إتاحة شحنها مجاناً حتى نهاية عام 2019. كما تعفى المركبات الكهربائية من رسوم الهيئة عند التسجيل والتجديد، وستقوم المدينة بتوفير مواقف مجانية للسيارات في 200 موقع. كذلك تخطط وزارة الطاقة لزيادة نسبة السيارات الكهربائية في أسطول سيارات الهيئات الحكومية إلى 10% في السنوات المقبلة، وهذا يشمل سيارات المرور والشرطة وسيارات الأجرة. كثيراً ما تبدو التغيرات الاجتماعية الكبرى غريبة ومستحيلة في بدايتها، إلا أن جميع الدلائل تؤكد أن المواصلات ستتخذ مفهوماً جديداً في المستقبل القريب. وإن لم نرَ السيارات الطائرة التي وعدتنا بها الأفلام الخيالية سابقاً، فبالتأكيد سنرى المزيد من تطبيقات مشاركة الرحلات والسيارات، والمركبات الذاتية القيادة، والقطارات الفائقة السرعة، والسيارات الكهربائية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...