لا يزال حادث غرق مركب "الحرّاقة" قبالة الشواطئ التونسية في الثامن من أكتوبر الماضي، حديث الصحافة إلى اليوم. فالتحقيقات لا تزال متواصلة لما لفّها من غموض وتضارب في الروايات بين الناجين والجهات الرسمية من جهة، وتواصل البحث عن المفقودين وانتشال الجثث من جهة أخرى، ليفرض موضوع الحرقة بذلك مكانته على لائحة الأخبار الوطنية وحتى الإقليمية، خصوصاً أن أعداد الحرّاقة خلال هذه الفترة تعكس انفجاراً عنيفاً للظاهرة. هذه الطريقة في الهجرة ليست جديدة في حدّ ذاتها، فهي تعود إلى عقدين تقريباً، حين ولدت كلمة "الحرقة"، كتعبير على حرق الحدود السياسية بمعنى اجتيازها عنوة وتمرّداً على رفض الحق في السفر لجميع البشر على اختلافاتهم. يقول المهدي مبروك، أستاذ في علم الاجتماع ووزير الثقافة التونسي السابق وصاحب كتاب "voile et sel" حول الحرقة، في لقاء مع رصيف22، أن "مفهوم الحرقة ظهر بداية التسعينات 1991- 1992 لمّا فرضت إيطاليا التأشيرة على مواطني العالم العربي بمقتضى انتمائها إلى فضاء شنغن، ما تسبب حينcاك في غلق منافذ ويتبلور كافة".
أثناء ذلك، اختار التائقون إلى الحياة والحالمون بنزع ثياب الفقر والاحتياج وارتداء بدلات يرون فيها تحقق وجودهم كبشر، السفر إلى حيث جنة ما قبل الموت وقد كانت في نظرهم أوروبا.
موقف يؤكده الشاب علاء الغول (26 سنة) ونستشفه من حماسته في حديثه إلى رصيف22: "وصلت إلى أوروبا أربع مرات عبر الحرقة. وفي كل مرة، كانت سلطاتها تعيدني وأنا لا أزال مصرّاً على الحرقة لما شاهدته في أوروبا، ذلك أن الحياة هناك وليست هنا والجنة التي نحلم فيها بعد الموت لدى الأوروبيين الآن". القارة العجوز في نظر علاء وأولاد حيه الشعبي في إحدى مدن الساحل الشرقي لتونس، ليست عجوزاً أبداً، بل هي معرض فخم لمتع الحياة ولذّاتها يوفر منازل وسيارات وزوجات فاتنات لجميع مواطنيه. فهذه الثلاثية التي تمثل حقّاً لمواطني أوروبا الغربية هي أحلام في نظر الشاب التونسي، أحلام شبه مستحيلة التحقق في خضم واقع اجتماعي يتسم بالتدافع العنيف حول فرص العمل ومصادر الإنتاج. موجة الهجرة تأرجحت على مدى سنوات بين السرعة والبطء تأثراً باختلاف لائحة الأوضاع المتداخلة في اتخاذ قرار الحرقة وإمكان تحققه، حتى ظهرت الثورة نقطةَ ضوء في آخر النفق المظلم الذي يسير فيه الشباب من سنوات. ركضوا إليها حالما أشعل الشاب محمد البوعزيزي جسده ليبعث بنوره إلى أرجاء البلاد ويستفيق الكل على مطالب الشغل والحرية والكرامة الوطنية. سقط النظام الذي كان يقبض على الأحلام ويئدُ بنات الأفكار التي تحاول استرداد الوطن من هيمنة النظام وحاشيته، مثلما يحدث في كل ثورة. في ذلك الوقت، كان محصول الأمل وافراً لأن الشاب التونسي لأول مرة يريد شيئاً ويتحقق، وبات يعتقد أنه يمسك الدفة بكلتا يديه. ولكن، في الوقت الذي خيّل إلى المتابعين أنه سيتشبث بالبقاء أكثر حصل العكس، حيث يؤكد مبروك أن أعلى موجة حرقة شهدتها تونس كانت بعد الثورة، حيث وصلت الأرقام إلى أربعة وعشرين ألف مهاجر تمكنوا من الوصول إلى شواطئ إيطاليا في الأسابيع اللاحقة. يلهج شباب كثر اليوم ممن تحدثنا معهم بأن الثورة سُرقت وراحت معها الأحلام وتبخرت الصور التي حلقت طويلاً في سمائهم التي ناموا تحتها في شوارع الاعتصامات وساحات التظاهرات.
ثورة على البلد لا على النظام
"1400 مهاجر تونسي غير قانوني عبروا البحر على مدى شهر سبتمبر فقط، من دون احتساب من دخلوا خلسة". هذه المعلومة التي أوردتها منظمة الهجرة العالمية أعقبها الناطق باسمها بتصريح آخر أكد فيه أن 1374 مهاجراً وصلوا إلى إيطاليا عبر البحر بين 9 و11 أكتوبر، فيما أُنقذ 659 آخرون في عرض المتوسط في الحادي عشر من الشهر نفسه. يمكن الاستنتاج من هذه الأعداد، والتي يتبين أنها تزداد، على الرغم من مأساة غرق قارب للمهاجرين في عرض البحر وموت ما يربو على 50 مهاجراً تونسياً، أن قرار الحرقة لم يسقط من أولويات الشباب التونسي. فهناك من يرى في المرحلة الحالية تبلور ظاهرة اجتماعية من الضروري معرفة مسبباتها التي أرجعها مبروك إلى عودة اشتغال شبكات التهريب بنسق أكبر على مستوى الحدود التونسية - الليبية خصوصاً، وما يشهده الوضع هناك من تسهيلات التهريب عبر شبكات تحريق دولية. "انتفاء الحاجز الأمني لدى الحراقة واكتساب نوع من الجرأة الناجمة عن خيبة كبيرة، علاوة على تنامي عدد العاطلين من العمل، حيث إن المدرسة الوطنية وحدها تفرخ كل عام 100 ألف عاطل، ما يعني 600 ألف خلال سنوات ما بعد الثورة، وهم يمثلون جيشاً وخزان هجرة يعطي المغامرة التي قد تكون قاتلة"، يضيف مبروك. بالتالي، فإن أهمية فهم هذا السلوك التونسي الذي ارتقى إلى مستوى الظاهرة بسبب اتساع دائرة انتشاره في صفوف الشباب، وحتى دونهم ليس صعباً أن نفهم دوافعه والمعطيات المساهمة في انتشاره. فبصفة تكاد تكون عامة، تعدّ الهجرة في تونس مطلباً ليس من فئة المهمشين أو غير الحاصلين على شهادات علمية فقط، بل حتى ممن هم أفضل منهم حالاً."أعلى موجة حرقة شهدتها تونس كانت بعد الثورة، ووصلت الأرقام إلى 24 ألف مهاجر" يقول المهدي مبروك وزير الثقافة التونسي السابق
"1400 مهاجر تونسي غير قانوني عبروا البحر على مدى شهر سبتمبر"، تقول منظمة الهجرة العالمية...
تعد الهجرة في تونس مطلباً ليس من فئة المهمشين فقط بل حتى ممن هم أفضل منهم حالاً....وهذا ما يؤكده وزير الشؤون الاجتماعية التونسي عندما صرح في السادس عشر من يوليو الماضي بأن "تونس تحتل المرتبة الثانية عربياً في تصنيف الدول العربية الطاردة الكفاءات، وتأتي في الترتيب مباشرة بعد سوريا التي تشهد حرباً طاحنة تستحيل معها أشكال الحياة العادية كلها، وتدفع بملايين البشر إلى الهجرة والنزوح".
الحرّاق مهاجر سلب حق السفر
يميل بعض الإعلاميين التونسيين إلى إدانة الحرّاقة ونعت من يقومون بها بالتخلي عن الوطن والبحث عن الكسب السهل والسريع، من دون تغطية الدوافع المعقدة والمختلفة خلف هذا قرارهم. الحرّاقة لا يختلفون في المحصلة عن المهاجرين الذين تمكنوا من الحصول على جوازات سفر وتأشيرات تخولهم السفر عبر الموانئ والمطارات، من حيث اليأس في النجاح على أرض الوطن وقدرته على استيعاب أحلامهم. فقد تختلف المواقع والمؤهلات والسياقات بين الحرّاقة والمهاجرين من جهة، وبين أفراد كل فئة من جهة أخرى، لكن المطلب الإنساني هو ذاته عموماً، وهو البحث عن سبل العيش الكريم والاستقرار المادي الذي هو ضمانة كل شيء. يقول أسامة السيّد (22 سنة) وهو اسم مستعار لشاب استطاع أن يحرق الحدود ويستقر في فرنسا للعمل في مطعم، لرصيف22، أن قرار الهجرة لم يكن سهلاً، لكنه كان ضرورياً. "بعد انقطاعي عن الدراسة في مرحلة البكالوريا، عملت لثلاث سنوات متتالية في مقهًى لم أتمكن خلالها من توفير أي شيء أحسّن به مستقبلي، فخاطرت بحياتي ونجحت في أن أضعها على الطريق الصحيح لأحقق ما حلمت به طويلاً"، يقول السيد. في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشوارع والمقاهي، يتحدث التونسي كثيراً عن المطار وعواصم دول الشمال، حيث إنه يطالب ساخراً بتعليق لافتة على مطار تونس - قرطاج الدولي تُكتب عليها الآية القرآنية الآتية "ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إليها فإنا ظالمون"، وهو ما يظهر كذلك في انتشار خبر على موقع فايسبوك تحت عنوان "حرقة جماعية" إلى أكثر من 90 ألف مهتم خلال بضعة أيام.مؤشرات اجتماعية محرجة
المتوسط الحسابي للبطالة في تونس قد تجاوز 15 بالمائة وبلغ عند الحاصلين على شهادات عليا 30 بالمائة و50 بالمائة لدى الإناث من هؤلاء حسب المعهد الوطني للإحصاء. هذا إضافة إلى أن متوسط الدخل السنوي للفرد في تونس لا يتجاوز 3.9 آلاف دولار بينما تأتي في المرتبة 87 في قائمة أفضل البلدان للأعمال في العام 2017. هذا علاوة على حالة الإحباط التي يعيشها المواطن التونسي من إمكانية التغيير عبر الممارسة السياسية جراء افتقاد الثقة في الطبقة السياسية وهو موقف يستشف من الخطاب أغلبية الشباب وقد ترجم من خلال إحصائيات متنوعة نذكر منها الأرقام التي ذكرتها دراسة أعدها المرصد الوطني للشباب السنة الماضية كشفت أن نسبة الانخراط الحزبي للشباب لم تتجاوز 2.7 بالمائة فيما بلغت نسبة التسجيل في الانتخابات لدى الفئة العمرية (18-30 سنة) 20 بالمائة ولم تتعدى نسبة ترشحهم في القائمات الانتخابية 3 بالمائة حسب الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. أسباب الحرقة متداخلة بين ما هو اجتماعي ونفسي وحتى ثقافي إلا أن السبب المباشر هو ذاك المتعلق بلقمة العيش وسبل الحياة أي الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي ما تنفكّ تعمق الفوارق الطبقية والجهوية دون إسقاط العوامل الذاتية وتمثلات الشباب التونسي حول أوروبا بلد الحريات وتحقيق الثروات.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...