من منا ينسى فيلم "علي بيه مظهر" الذي جسد فيه الفنان محمد صبحي واحداً من أهم أدواره؛ في شخصية الفقير المتمرد على حاله التي ما هي في الحقيقة سوى نموذج مرضي لأحلام اليقظة؟
ترك اللبن يغلي حتى فاض، ترك صنبور المياه مفتوحاً، ألقى الثمرة وأبقى قشرتها، ترك المفتاح داخل المنزل.
هذه عيّنات من نماذج لمواقف نختبرها يومياً بسبب الشرود، فهل نصدق إذاً أننا نمضي نصف فترات استيقاظنا في أحلام اليقظة؟
لماذا يشرد الذهن؟
يعرّف سيغموند فرويد حالات الشرود أو أحلام اليقظة بأنها أداة لتجربة رغبات مكبوتة، أو غرائز غير مقبول تنفيذها في عالم اليقظة. بينما يراها جمال فرويز المختصّ النفسي، أحلام اليقظة ووسيلة للتعبير عما في دواخلنا من رغبات وطموحات وأهداف، أو للهروب من الضغوط المحيطة بنا سواء كانت اقتصادية أو عاطفية أو اجتماعية. يوضح لرصيف22، أننا جميعاً نختبر حالات شرود الذهن على مدار اليوم، لكن بدرجات متفاوتة، فتكون كثيرة لدى المراهقين، يليهم الأطفال ثم البالغون وكبار السن، إذ كلما قل العمر زاد الطموح. وتختلف الأحلا في طبيعتها. ففي مرحلة المراهقة تتركز غالبية أحلام اليقظة حول الجنس والرومانسية أو الأحلام البطولية بعكس كبار السن. المدهش أن أحلام اليقظة لا تقتصر على الخيالات الوهمية، بل قد تتضمن أموراً محسوسة؛ مثل روائح الطعام أو مذاقه، أو سماع صوت مميز، أو حتى رؤية صورة بوضوح، ما يساعد على خوض التجربة كأنها حقيقية. تزايد اهتمام الباحثين بظاهرة أحلام اليقظة حتى طور اثنان منهم في جامعة Harvard، تطبيقاً على آيفون لتوضيح العلاقة بين حالات شرود الذهن والشعور بالسعادة؛ وأكدا أن أحلام اليقظة تراود الأشخاص وقت الضيق أكثر من فترات السعادة. غالباً ما يرتبط الشرود بأشياء يميل إليها الشخص أو يرغب فيها، وبالضغوط المجتمعية وضعف الإمكانات الذاتية لتحقيق الأحلام، وهذا ما يعرفه علم النفس بـ "الحتمية النفسية"، بحسب فرويز. وربطت دراسة بين كثرة الشرود ومعاقرة الخمر وإدمان المخدرات حتى يصل الأمر إلى هلوسات سمعية وبصرية، بحسب مجلة أتلانتك.متى تصبح خطراً؟
قد يعتقد أشخاص أن السيئ في أحلام اليقظة أنها تلهينا عن العمل أو المذاكرة أو تنسينا ما نفعل. غير أن فرويز يشير إلى وجود مراحل وحالات متطرفة من شرود الذهن، يختار خلالها الأشخاص الانخراط فيها ويرفضون الخروج منها. يحكي فرويز لرصيف22، عن أحدث الحالات المرضية التي يعالجها، حالياً، لسيدة في بداية الخمسين من العمر، تعيش في وهم أنها شخصية ناجحة حصلت على 40 دكتوراه في العلوم من روسيا، وأن الحكومة المصرية استولت على ثرواتها، وتذهب أبعد من ذلك إلى أن الرئيس السابق حسني مبارك أحبها وقرر إعادة ثرواتها المنهوبة غير أن قيام ثورة يناير منعه من ذلك. تحوّل طموح هذه السيدة في أن تصبح مثل شقيقتها، أستاذة جامعية، حلماً دائماً ترفض الخروج منه، وهنا قد تتحول شخصية مؤذية للغير مع مرور الوقت، إذ ظنت أنهم يسعون إلى نفي نجاحها المزمع أو سرقة أفكارها، فتتحول أحلامها فصاماً، يقول المختص النفسي. يحذر فرويز من انتقال هذه الأحلام من طور التفكير إلى طور التنفيذ، ومنها الرغبات الجنسية لدى المراهقين أو أحلام البطولة والثروة من دون النظر إلى طريقة تحقيقها مشروعة كانت أم لا. كذلك، دخل واحد من كل 16 أميركياً وحدة عناية مركزة، عام 2014، بسبب حوادث منزلية في حال "سهو"، من بينهم 249 ألفاً أصيبوا بواسطة سكاكين القطع، و105 آلاف وقعوا عن الدرج، و22 ألفاً جُرحوا خلال استعمال آدوات المطبخ. وتوصل باحثون فرنسيون إلى أن أحلام اليقظة كانت سبباً رئيسياً لغالبية حوادث الطرق بعد مقابلة 955 شخصاً أصيبوا خلال حوادث مرورية، ولفتوا إلى أن تلك الأحلام كانت عنصر تشويش أو تشتيت انتباه لهم. يرى فرويز أن علاج هذه الحالات المرضية يحصل لدى إدراك الشخص أن الأحلام يمكن أن تنفذ "مرحلياً" ومن دون تسرع، مع عدم المبالغة بها أو تركها تسيطر عليه أو تلغي واقعه.فوائد الشرود؟
يصر علماء نفس كثرٌ على فوائد أحلام اليقظة، ويعتبرونها فرصة "لاستراحة" العقل والذهن من ضغوط العالم الخارجي. ووفق ما نشرت مجلة Psychologies، فإن أحلام اليقظة تمثل أكثر من نصف نشاطنا العقلي، وتتمثل أهميتها، وفق ما أكده إريك كلينغر Eric Klinger، الأستاذ في علم النفس في جامعة مينيسوتا، في أنها تكشف لنا رغباتنا وأهدافنا. وأضاف: "نظن أحلامنا عبثية وغير منظمة وهي في الحقيقة ترتب أمور حيواتنا وتساعدنا في إبقاء مهماتنا نصب أعيننا، بل تساعدنا في تحقيق أقصى استفادة من قوة أدمغتنا". لفتت المجلة إلى دراسة تؤكد أن أحلام اليقظة وإعمال الخيال يجعلان الأطفال أقل عنفاً، في حين تجزم ناشيونال جيوغرافيك بأن أحلام اليقظة تجعلنا أكثر إبداعاً. وكانت دراسة لجامعة مينيسوتا توصلت إلى أن الأشخاص يفضلون الاعتراف بالمواقف المحرجة التي يتعرضون لها على الإفصاح بأحلام اليقظة الخاصة بهم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...