كمطر هادئ ينزّ على أرض عطشى، تهطل ذكريات الدكتورة "وردية" على صفحات رواية إنعام كجه جي الأخيرة "طشاري". ذكريات تسحبها المؤلفة من ذاكرة بطلتها وتباريح روحها، لتنقشها بأحرف من وجع وشجن في سردها، وتمزجها بالكثير من "ذهب" التراث العراقي: الأمثال الشعبية، الأغاني، الأسماء، والمفردات العامية...
الدكتورة "وردية" طبيبة عراقية، مسقط رأسها "بغداد"، وهي مسقط قلبها أيضاً، لكن الحرب وتغيُّر ظروف البلاد تجبرها على الرحيل إلى باريس، بعد أن توزعت عائلتها في كل أقاصي الأرض. "كأن جزاراً تناول ساطوره وحكم على أشلائها أن تتفرق في كل تلك الأماكن. رمى الكبد إلى الشمال الأميركي وطوّح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج. أما القلب، فقد أخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة (...) وحزّ بها القلب رافعاً إياه، باحتراس، من متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج إيفل".
في باريس، تستقبلها إبنة أخيها، لتصبح العجوز الثمانينية صديقة ابنها "إسكندر"، تحكي له عن "العراق" وعن أمنيتها في أن تعود لتدفن في ترابه بعد موتها. يقوم الفتى بإنشاء مقبرة إلكترونية على "كومبيوتره" يجمع فيها شتات الأقارب المتوزعين في كل أنحاء العالم. يضع قبوراً للأحياء إلى جوار قبور الأموات، محققاً بذلك حلماً يصعب تحقيقه على أرض الواقع: "وضعت السماعتين فسمعت موسيقى ناعمة تتناغم مع حركة فأرة الكومبيوتر التي يقبض عليها إسكندر (...) عرض عليها قبوراً تفنن في تشييدها، وأقام عليها شواهد ملونة مثل أقواس قزح".
تتناول الكاتبة في روايتها تاريخ العراق، منذ الخمسينيات حتى اليوم، بكل مآسيه وأحداثه ومنعطفاته، من خلال ذكريات "وردية" الفتاة المسيحية، التي درست الطب في بغداد ثم انتقلت لتعمل في "الديوانية"، وأحبت الناس هناك وأحبوها، حين لم تكن المذاهب ولا الطوائف لتفرّق بين الناس آنذاك.
تتزوج من طبيب يعمل معها في المشفى وتنجب أطفالها، الذين يكبرون ويرحل كلّ منهم إلى وجهة مختلفة. "ياسمين" تشحن كطرد بريدي إلى دبي لتتزوج بشخص بالكاد تعرفه، لأنها هددت بالخطف من قبل جماعة تكفيرية، و"برّاق" يعيش متنقلاً من بلد إلى بلد بحسب عقد العمل الذي يحصل عليه، أما "هندة" التي تحتل قصتها جزءاً كبيراً من السرد، فرحلت مع زوجها بعد ويلات حرب 1991، وعانوا الأمرّين للظفر بتأشيرة للسفر إلى كندا، وبعد وصولهم إلى هناك، بدأت مصاعب من نوع آخر، إذ توجب عليها معادلة شهادتها كي تحصل على عمل، لن تجده إلا في منطقة نائية وبعيدة عن أسرتها.
تنقل الإبنة معاناتها إلى أمها من خلال رسائل ترسلها إليها، لتصبح الرسائل جزءاً من تنوّع الأساليب السردية التي استخدمتها "إنعام كجه جي" في روايتها، إضافة إلى الفصول المروية على لسان الراوي العالم بكل شيء، والفصول الأخرى المكتوبة على لسان إبنة أخت "وردية". لا يوجد خط زمني صاعد أو هابط للأحداث، فتارة تأخذنا إلى الماضي وتارة تعود بنا إلى الوقت الحاضر، وكأنها أرادت أن يكون شكل روايتها مكتوباً بأسلوب "طشاري" الذي أثبتته كعنوان للرواية، ليرمز إلى الشتات العراقي في كل بقاع الأرض، وليكون عنواناً أيضاً لديوان شعري تكتبه إبنة الأخ. يسألها إبنها "إسكندر" عن معنى الإسم، تجيبه "بالعربي الفصيح: تفرّقوا أيدي سبأ". وتوضّح أكثر "تطشّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات (...) إنهم أهلي الذين تفرّقوا في بلاد العالم مثل الطلق الطشّاري".
تنتهي الرواية، فيظلّ القارئ مأسوراً ومسكوناً بالحنين، الحنين الجامح إلى العراق بكل ما فيه، حتى لو لم يكن قد زاره من قبل.
إنعام كجه جي كاتبة وروائية عراقية، من مواليد بغداد 1952، درست الصحافة والإعلام، وعملت في الإعلام المرئي والمسموع. حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس، التي انتقلت إليها عام 1979، وما زالت تقيم فيها حتى الآن حيث تعمل كمراسلة لجريدة "الشرق الأوسط"، ومجلة "كل الأسرة".
صدر لها في عام 1998، كتابها الأول الذي خطّت فيه سنوات من سيرة المراسلة الإنجليزية لورنا هيلز التي كانت متزوجة من النحات والرسام العراقي "جواد سليم" وعنونت الكتاب "لورنا، سنواتها مع جواد سليم". ثم أصدرت عام 2003 كتاباً بالفرنسية بعنوان: "المأساة العراقية كما كتبتها النساء"، ترجم إلى الإيطالية واليونانية. أعدّت وأخرجت، في عام 2004، فيلماً وثائقياً عن "نزيهة الدليمي" التي كانت أول امرأة تعيّن كوزيرة في العالم العربي.
اتجهت بعد ذلك للكتابة الروائية في عام 2005، حين أصدرت روايتها الأولى "سواقي القلوب"، وهي تقول عن هذه التجربة، أنها تشبه امرأة أنجبت طفلاً بعد أن كبرت، وقد ترجمت هذه الرواية إلى اللغة الإيطالية، ثم توالت أعمالها الأدبية، فنشرت عام 2008 روايتها الثانية "الحفيدة الأميركية" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2009، وترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والصينية. "طشاري" هي روايتها الثالثة، وقد اختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام 2014.
download (12)
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed Alaa -
منذ 3 ساعاتلا حول ولا قوة إلا بالله
Hossam Sami -
منذ 4 أيامالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...
diala alghadhban -
منذ 6 أيامو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ 6 أيامشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ أسبوعجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...