كنت في الحافلة، ألف جسدي بذراعيّ، وأتمعّن انعكاس وجه صديقي الذي يقف على الرصيف المقابل ملوحاً لي يرتسمُ بضبابية فوق جسد النافذة الزجاجي، حين أصابني شعور عميقٍ بالذنب حيال نفسي.
قبل ساعةٍ تقريباً كنا نتسكع معاً، وكان يتحسس بأصابعه الممتلئة الجلد الذي يغطي يدي، حين قال بصوتٍ يخبئ رغبةً متقدة: عبالك تشوفي الغرفة يلي استأجرتها جديد، ومنكمل سهرتنا هنيك؟
وأمام جسده المتناسق ووجهه الأليف وسنين معرفتنا الطويلة، وددتُّ جداً أن أقول: نعم! هكذا ببساطة، كما لو أنّ البلاد المرعبة التي تحاوط أجساد النساء بالألغام والعساكر والقوانين الصارمة المجرّمة والتشريعات الدينية النابذة اختفت تماماً وصار ممكناً لنا برحلة آمنة من المتعة، لكنني سرعان ما وجدتُ نفسي أرتبك، أفكّر في ألف عائقٍ، أتهرّب، أقول لا خجولة ثمّ أقرر العودة للمنزل.
حائطٌ ضخم في درب رحلةٍ جنسية ممتعة
تمارس النساء الجنس، لا أنكر هذا، حتى في أكثر المجتمعات انغلاقاً وذكوريّة وتجريماً لهذه الممارسة، سواء بشكلٍ شرعي أو سريّ. بطرق يمكن إخفاء أثرها أو بجرأة ترك بصماتٍ في موقع الجريمة -جسدها- لكن هل هناك مساحة صالحة لتكتشف النساء أجسادهنّ جنسياً في حقل المتعة وتتعلّم بلوغ النشوة تحت قبضة الذكورية؟
لو شرّحتم خوفي الذي حالني قبل قليلٍ دون خطوة كنت لأخطوها في أيامٍ سابقةٍ بجرأةٍ أكبر لوجدتم فيه صورة أكثر بروزاً من غيرها، تشغل المساحة العظمى، رغم أنّ في داخلي آلافاً من عبارات التحذير وإرشادات الصحة الجنسية، والخوف، والقليل من شهقات المتعة، لكنّ صورةً واحدة كانت الحائط الضخم الذي يسدّ الطريق بالكامل، وهي صورةٌ لفتاةً في الثانية والعشرين من عمرها، تتحدث على الهاتف مع حبيبها الذي يقول كلاماً جنسياً، وتداعب بأصابعها أكثر مناطق جسدها حساسيةً، وباختلاف وضعية وشدة المداعبة ومحاولاتها المستمرة إلا أن شيئاً ما لم يحدث: لا تبلغ النشوة.
هل هناك مساحة صالحة لتكتشف النساء أجسادهنّ جنسياً في حقل المتعة وتتعلّم بلوغ النشوة تحت قبضة الذكورية؟
استعدتُ هذه الصورة من الذاكرة بعد تكرر الأمر مراراً. فحين حدث، وقد عجزتُ حقاً عن تحديد متى وكيف بدأ، كان مفاجئاً لدرجة أنّه سار على خطى الصدمة حتى بلغ الإنكار واختبأ فيه، وخلال سنتين لاحقتين من المحاولات المستمرة لم أستطع الاعتراف أمام نفسي بحقيقة وجود مشكلة، إذ عزّز الجهل بجسدي جنسياً الإنكار، لكنني كنت أهرب إلى مصادر طبية أبحث عن إجابة أو توصيف، دون تحقيق أيّ نتيجةٍ ملحوظة.
تمارس النساء الجنس، وبالطبع لا يمكن حصر ملايين التجارب على تنوعها وتفرُّدها بشكلٍ واحد، ولا يمكن صبغها بصبغة واحدة أبداً، ولكن عوضاً من افتراض طبيعة ثابتة لهذه الممارسات يمكن النظر في ما نملك من أساساتٍ هشّة تقوم عليه، سواء أكانت سريّة أو قانونية تحدث بين زوجين، لنفهم الظروف التي تحيط بها وتشكل مشاعرنا ومخاوفنا .
قانونياً مثلاً هذا الفعل مجرّم تماماً في حال اكتشافه تحت بند قانون الزنا، ما يعني أن الأمر يجب أن يبقى متوارياً عن القانون، وهذا الأمر سلبيّ لا إيجابي، لأنه يعني غياب أي سلطة محاسبة في حال تعرضت المرأة للاستغلال أو الابتزاز أو التعنيف من الشريك، فهي في مثل هذه الحالة مُدانة لا ضحيّة، ولو حدث الأمر دون أي إساءة من الشريك، ولكن في الصباح التالي وجدت الفتاة نفسها تعاني من ألم في جهازها التناسلي، أو لاحظت تغيرات تستدعي زيارة طبيب، لن يكون من الممكن اتجاهها ببساطة إلى أقرب طبيبة نسائية والحصول على الرعاية الصحية المناسبة، فماذا لو اكتُشِف أمرها؟
ماذا لو أن هذه الطبيبة عرفت من تكون وفي جلسةٍ ما أفشت سرها؟
سيكون عليها الابتعاد واختيار مكانٍ لن يعرفها أحد فيه قدر الإمكان، ولربما تستعير خاتماً ذهبياً يوحي أنها متزوجة فتريح نفسها من أسئلة الطاقم الطبي المتّهمة، وتتجنب معاملتها بدونية أو احتقار.
أما مجتمعياً فالفضيحة أشبه بثأر المجتمعات القبلية، سيلاحقها مدى الحياة وسيؤدي في أحسن الاحتمالات لنبذها وتركها دون أي دعم ولاحقاً تصورها كفريسة سهلة من المجتمع ذاته الذي سيجرمها.
وتحت عباءة الذكورية يبدو الجنس فعلاً مُجرّماً ومُحرّماً أكثر من كونه ممتعاً، وبناءً على ما نكتسبه نحن النساء من أفكار عن الشرف البيولوجي المرتبط بشكل وثيق بالقيمة الذاتية، ومفهوم الأخلاق الذكوريّ وثنائية عذراء/ عاملة في مجال الجنس التي تحاوط مخاوفنا، فهناك رحلةٌ طويلة للتخلص من الشعور بالسوء حيال نفسها تمضي فيه الفتاةُ وحيدةً بغية تواصل أفضل مع جسدها، وقد لا تنجح بتخطيه.
فإذاً، هل يبدو واضحاً أيّةُ خطورة تحاوط هذه الرحلة الجنسية لدرجة أن تجنبها قد يبدو صحياً أكثر؟
هل نتحدث في الجنس الذي نطوّع كلّ شيء لأجله؟
نتحدث اليوم في كلّ شيءٍ تقريباً، في السياسة، الدين، الأدب، الاقتصاد، الفلسفة، الحب، الألم، العائلة ومشاكلها، الزيارات الأولى السرية للطبيب النفسي، الطقس، التعرض للعنف بأنواعه، الرغبة في الانتحار، ولكن هل نتحدّث في الجنس أيضاً؟
حين فكّرت في المصادر التي راكمت ثقافتي عن الجنس ثم عن جسدي كجزء من هذه العملية، والتحول الذي ساهم به الفكر النسوي في نقلي من مفعول به خاضع كما في المخيلة العربية وما يتسرب منها من قصص على استحياء، إلى فاعل يجب أن يتعلم ما يُريد وما لا يريد ويشرحه لشريكه، ويتعلم وضع حدود وقول لا.
وجدتُّ أشياء بدأت من المراهقة، عبارات قالتها فتياتٌ بحذر وصوت منخفض وسط جماعاتٍ ضيقة في المدرسة، أو مشاهد مسربة من أعمال تلفزيونية، فلست من الجيل الذي استخدم الإنترنت في فترةٍ مبكرة، كلها لمحت للأمر تلميحاً، مثل يد على الخصر، قبلة على الرقبة، نقاط دم فوق السرير، تلامس شديد، تنفس سريع، ألم، صراخ، عتمة.
لاحقاً في المرحلة الجامعية سمعتُ عبارات أوضح في الوصف، جسدٌ عارٍ، قضيب، إيلاج، شهوة، أعضاء تناسلية، وبالطبع الأفلام الإباحية التي تعزز اضطراب تشوه صورة الجسد، وتشوّه الخيال، وتعزز الفجوة بين ما نعرف وما يحدث حقاً. أذكر مرات عديدة حاولت فيها الوصول لمصادر واقعية تقول شيئاً عن أجساد النساء وشهوتهنّ تحديداً، لكنّ احتكار المعلومات الجنسية، إذا ما تحدثنا عن المصادر العربية في الحقول الدينية والعلمية الذكورية والخرافات، جعل الأمر يبدو مستحيلاً، إلى أن شاركتني إحدى صديقاتي بودكاست عربي كان الإستماع إليه أشبه بتجربة تمرد على العالم، يسلط الضوء على تجارب واقعية لنساء يشرحن عن مشاكل عانينَ منها، وكيف أنّ الجنس فعل يتطور ويتحسن بالفهم لأجسادنا وشهواتنا وتقبلها والممارسة الصحية التي تعطينا ما نريد، وقد كانت سعادتي لا توصف بسماع إحداهنّ تحكي عن أنها عالجت مشكلة البرود الجنسي وأنّ الأمر لم يكن بسيطاً لكن الرحلة كانت تستحق. أذكرها تقول: "مو ذنبك، لا تحسّي بالنقص"،بنبرة عربية طبطبت على قلبي.
وهنا بدأتُ للمرة الأولى أقرأ عن الدور الرئيسي والمحوري للدماغ في المتعة، فككت معهم جسدي وتعلمت عنه، وللمرة الأولى شعرتُ بشيء ما جيد يحدث، اعترفتُ بالأمر وفهمته، والآن أسعى لإصلاحه.
حقل المتعة، إلى جانب حقل الوظيفة الإنجابية
في معظم الأفلام والمسلسلات الأجنبية التي شاهدتها، والتي صوّرت علاقةً جنسية بشكلٍ واضح، كانت غالباً ما توحي بأنّ الأمر سهل، سلس، انسيابي وممتع.
لكنني حين أفكّر في قصص النساء التي سمعتها من محيطي، لا أذكر سوى القلق، الألم، عدم الكفاية جنسياً، عدم التوافق.
إحدى خالات صديقتي قالت مرةً في جمعة نساء: " لسا محتفظة بالمحرمة يلي عليها الدمات، ما بيطلعله يعمل شي".
كانت تتحدث عن زوجها. ضحِكَت محاولةً إضفاء طابع من الكوميديا على الأمر، لكنها لم تنجح. ظلّ صادماً وبشعاً، والمشكلة أنّ ما جرّ هذه العبارة المخيفة للضوء كان خبراً انتشر في الحيّ عن عروس انفصل عنها زوجها بعد زواجهما بشهرين فقط لأنه ادعى أنها لم تكن "عذراء"، وأن الفتاة الآن في حالةٍ يرثى لها.
ما أفكر فيه الآن، أن المجتمعات الذكورية الأبوية ضحكت على النساء بحديث "شرعنة الجنس" بالزواج. ليس لأنه المشكلة، بل وسط هكذا ظروف وعقليات قد يبدو الوسيلة الأكثر أماناً.
ولكن هل هناك مساحة حقاً خاصة بالنساء يُتاح لها فيها التجريب؟ ماذا لو اكتشفت سيدة ما بعد الزواج أن زوجها لا يتوافق معها جنسياً، لا يكفيها، لا تكفيه، لا يستمع أو لا يكترث أصلاً بما تفضل؟ هل هناك مساحة لتشرح له ما تريد دون أن تخاف من أن يشكّ بامتلاكها تجارب سابقة؟ وحين لا سبيل لإصلاح الأمر، هل تستطيع طلب الطلاق والبحث عن شريك مناسب، دون أن يشعرها المجتمع بأنها جاحدة؟
الكثير من الأسئلة ولا صورة في بالي - قد تكون مجحفة، لكنها واقعية - سوى لنساء تخلّين عن المتعة، وادعين أن الجنس وسيلة إنجابية لا أكثر أو بحثن على علاقات جانبية تسدُّ جوعهنّ بسبب ظروفٍ مشابهة.
في سياقٍ آخر، حدثتني إحدى صديقاتي النشطة جنسياً عن مراتٍ لا يفارقن خيالها، قام الشريك بدفعها لمداعبة عضوه حتى بلغ النشوة ثم قال بأن الأمر انتهى، فرحلت وهي تسأل: وأنا؟
قالت لي: "كان الأمر بشعاً، شعرتُ بالاستغلال، بأنه استخدمني". بينما تذرع هو بأن ما حدث طبيعيّ، وأنهما يحتاجان وقتاً أطول ليعرف أحدهما الآخر، ويعرف ما تحب فيمتّعها، وتصير الممارسة أفضل.
قالت لي: "استغلّ جهلي بالأمر، لكن لاحقاً بعد مراتٍ كثيرة من كرهي لنفسي، والشعور بأني غير مثيرة، تعلمت أنه ليس خطأي، وضرورة قول لأ، وتعلمت وسائل لأكتشف الشريك جنسياً قبل أن أشاركه جسدي".
ماذا لو اكتشفت سيدة ما بعد الزواج أن زوجها لا يتوافق معها جنسياً، لا يكفيها، لا تكفيه، لا يستمع أو لا يكترث أصلاً بما تفضل؟ هل هناك مساحة لتشرح له ما تريد دون أن تخاف من أن يشكّ بامتلاكها تجارب سابقة؟
يخرج الجنس في قوالب كوميدية بحريةٍ وجرأة أكبر في أحاديث النساء المتزوجات، اللواتي لن يُشكك بهنّ وبالتزامهنّ بتعليمات الذكورية الصارمة بالابتعاد عن أشهر المحرمات، لكنه يخرج مثل مسخٍ صغير، غير مكتمل الملامح، ورغم أننا نسخر كل أفعالنا ونكاتنا وأفكارنا واعتقاداتنا وسوء ظننا بالآخر في سبيله كمجتمعاتٍ تعاني من الكبت والذكورية، لكننا لا نجيد حتى الاعتراف بهذا، ونستمرّ بإنتاج العلاقات السامة.
مضت الحافلة، وأنا أفكّر في أنّي أعرف جسدي أكثر الآن لكنّي أخاف أكثر إعادة التجربة، مثل أي أحدٍ يقيّده خوفه وهو يدرك أنّ الكثير يفوته. نظرياً تعلمت ولكن عملياً متى أتأكد من صحة ما تعلمته؟
وضعتُ سماعاتي في أذنيّ شغلتُ أغنية مفضلة وفكرت: لا، لا يوجد مساحة، وضحكت: "قال مساحة للجنس قال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



