"أحب تخيّل أن الظلام استمر ولم أفتح عينيّ قط. وأن ما حدث لاحقاً هو محض كابوس في ظلمة قبر فتاة مدوّن على شاهدة التاريخ: 1970 - 1975. كان يمكن أن تنتهي الحكاية باكراً، وأموت خفيفة وبريئة". من هذا المقطع يبدأ السرد في رواية "برتقال مر"، مقطع يعلن أن كل المكتوب تالياً له حدث بعده، وأن كل ما حدث كان يمكن ألا يحدث في الحياة الواقعية لو أن الأرض لم تكن مبلّلة، فنجت بطلة الرواية من الموت في عمر الخامسة.
الحكاية لم تنته باكراً إذاً، ولا مؤلفتها رحلت خفيفة بريئة. بل الأصح أن الحكاية بدأت هنا، الحكاية التي ستخلع الخفة والبراءة عن صاحبتها، وتُلبسها ثقل الماضي، وآثام ذنوب لا تغتفر.يحلّ الماضي بكل ثقله على يومين اثنين، فتتشظى الذاكرة وتتمدد بخط أسود رفيع، اختارته الكاتبة لتميّز بين الماضي والحاضر ذي اللون الأسود العريض. تكتب في هذا الحاضر أحداث يومين تعدّ بهما الأكلات متفنّنة في صنعها لرجلٍ أحبته طوال عمر الحكاية، "الطبخ والحب ليسا شيئين مختلفين، لأن نتيجتهما واحدة وباعثهما واحد. حين تطبخ تقوم بفعل حب، تستخدم كل حواسك لأجل الفوز بحبيبك. وحين تحب تفكر في أن تطبخ لحبيبك”.
تتمدد الذكريات وتطفو مع روائح الصعتر والقرفة والمردقوش، مثيرةً ذاكرة الذنوب التي ارتكبتها طفلة في الخامسة، حين أحبت خطيب خالتها، "الحكيم" الذي أسعفها بعد أن وقعت، ورتق مزق رقبتها، وترك بقايا عطره في عروقها. وكما تفعل روح زهور البرتقال المرّ فهي "روح حلوة وقوية إلى درجة إنعاش الغائبين عن الوعي وإعادتهم إلى الحياة"، هكذا أعاد "الحكيم" طفلة الخامسة إلى الحياة، فسكن عطره في روحها، كما "يسكن المازهر في الروح". لم يثنها عن حبه أنه فسخ خطبته من خالتها دون سبب، وتركها تعاني وتهذي طوال أيام. أحبته بصمت وحمّلت نفسها في الأعوام التالية آثام ذلك الحب المحرّم، "حين كنت أدس دفتر يومياتك أو أياً من صورك تحت مخدتي أو أسترق شمّه ولمسه، كان قلبي يختلج وأنا أنظر إلى سرير خالتي وأتصور أنها اكتشفت ما لدي. ماذا لو اكتشفت أن الخنجر الذي طعن قلبها موجود تحت وسادة تبعد عنها ثلاث خطوات؟”.
تستخدم الكاتبة تكنيكاً فريداً في الرواية، تبدأ فصولها القصيرة بفعل تقوم به، بخاطرة مرت في رأسها، بأغنية تسمعها وهي تعدّ الطعام، برائحة تشمّها، وتنتقل إلى ما يقابله في الماضي، لتسرد حكاية. هكذا مع استمرار السرد، تتناثر الحكايات وتتشعب، دون ناظم، الذاكرة وحدها هي ما يجمعها كلها، لتشكّل في النهاية عالماً كاملاً، يحكي قصة قرية صغيرة، وينقل الحياة فيها، وعادات أهلها وتقاليدهم، أغانيهم وأمثالهم الشعبية، لهجتهم وطريقتهم في الحياة، والمهن التي يزاولونها، من صيد العصافير إلى تقطير زهور النارنج. تكتب بسمة الخطيب كل ذلك، ملتفتةً بشكل دائري على سرد حكاية عشقها، وحكاية أمها وجدتها وخالتها، محوّلةً كل تفصيل مهما صغر إلى مزيج من السحر والجمال.
وضمن هذا الموزاييك من الروائح والأطعمة والصور والحكايا، تنسج الكاتبة أسطورة "البرتقال المرّ"، التي تتماهى مع أسطورتها هي، "تقول الأسطورة التي وجدتها بين أشواك الصبار والبطم إن البرتقال طالما ولد مرّاً، حتى وقعت إلهة في عشق ألوانه وعطره، فجعلته حلواً لتأكله. لكن بعضه تمرد أو استعصى على الحب، ولم يتخل إلى اليوم عن مرارته”.
البطلة أيضاً عاشت كشجرة البرتقال المرّ، بكل الخيبات التي وسمت طفولتها، بنت صغيرة دميمة، مصابة بالديسلكسيا، تخلط الأرقام وتبعثر ترتيب الحروف في الكلمة، توبخها معلّماتها ويتهمنها بالكسل والغباوة، تبتعد عنها زميلاتها ويسخرن منها، علاقتها مع أمها تتسم بالكراهية، كل تلك الأسباب جعلتها منعزلة ووحيدة، لم تلفت نظر شاب واحد، فكان الحب عصياً عليها، لكنها لم تكن عصيةً عليه، وكان عليها أن تفعل كما شجرة "النارنج" ذات الثمار المرّة التي لا تؤكل، أن تدافع عن بقائها ووجودها، مثلما "دافعت شجرة النارنج عن بقائها ووجودها بأن تكون صالحة لصنع "ماء الزهر”. هكذا وجدت هي في تعلّم الطبخ وإتقانه وسيلتها للوجود، ووسيلتها لنزع إعجاب النسوة، "أردت أن يتحدثن عني، فلا أبقى نكرة كما كنت بالنسبة إلى أخواتي وعيشة ومعلمات المدرسة والبنات كلهن”.
وكما تتحوّل روح زهور البرتقال المرّ إلى ماء الزهر بفعل صدمة، كذلك سيتحول اسمها بفعل صدمة سماعه بصوت الحبيب لينفجر أشلاء في السماء المبللة، معلناً للمرة الأولى عن نفسه: "مي".
بسمة الخطيب كاتبة من لبنان. درست الصحافة وزاولتها. وعملت في الإنتاج التلفزيوني، وكتبت السيناريو. لها مجموعتان قصصيتان: "دانتيل لسهرة واحدة"، "شرفة بعيدة تنتظر". "برتقال مرّ" هي روايتها الأولى.
الناشر: دار الآداب/ بيروت
عدد الصفحات: 296
الطبعة الأولى: 2015
يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات أو على موقع متجر الكتب العربي جملون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع