"نحن قوم يحرّم النظر في كتبنا"، هكذا قال العالم الصوفي محيى الدين بن عربي عن المتصوفة، فمن أحبوهم اعتبروا أقطابهم من أولياء الله الصالحين، ولكن من ذمّوهم اعتبروهم أتباع بدعة ضالة مضلة، خرجوا على الإسلام، وأفتوا بتكفيرهم.
وعندما قال ابن منصور الحلاج: "معبودكم تحت قدميّ"، اتُّهم بالزندقة والكفر وقُتل، واتضح أنه كان يقصد المال، الذي يحبه الناس لدرجة العبادة، بحسب ما ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه "مشكاة الأنوار".
يعتمد المتصوفة في رؤيتهم على آيات من القرآن، وأحاديث عن النبي، وحياته البسيطة المتقشفة، وسلوك بعض الصحابة المقربين من الرسول.
وهم يوردون حديث النبي الذي نصه: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به". لذلك، كان للصوفية درجات في التقرب إلى الله، حتى أن أفراداً قلة منهم، ادعوا أنهم يصلون إلى مرتبة الكشف؛ حيث يرون الله تعالى.
هكذا، يصرّ المتصوفة على أنهم يستمدون أصول التصوف من القرآن والحديث واجتهاد العلماء، في ما لم يرد فيه نص.
في تفسير الصوفية للقرآن، نجد لديهم معان غير المتعارف عليها عند أهل اللغة والتفسير، ففي تفسير هذه الآية القرآنية، من سورة النور: "الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم".
من تفسير الصوفية لهذه الآيات، اصطلحوا لأنفسهم بعض التعريفات التي صارت ضمن قاموس مفرداتهم.
فيقولون إن الزجاجة المشار إليها هي القلب، والمصباح هو الروح، والشجرة التي توقد منها الزجاجة المشبهة بالكوكب الدري، هي النفس، والمشكاة، هي البدن، والزيتونة، هي النفس المستعدة للاشتغال بنور القدس بقوة الفكر، والزيت، هو نور استعدادها الأصلي، وهذا بحسب كتاب "معجم مصطلحات الصوفية" للمتصوف عبدالرازق الكاشاني (تـ.730هـ/1329م).
قد يفسر ذلك أن في علوم الصوفية عالَمان: منها ماهو واضح تقليدي، وما هو باطن لا يدرك شفراته إلا المتصوفة، بحسب حورية بن قادة، الباحثة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية. أغنى الفكر الصوفي الثقافة العربية الإسلامية بألوان بديعة من الفهم والتأويل وابتكار المعاني الجديدة
عند المتصوفة درجات في التقرب إلى الله، ومصطلحات يعرف الصوفية بها أنفسهم، ومراتبهم، ونظرتهم للعالم
الدرر المنظومة في تضميم الدنيا المقبحة, ليوسف بن سعيد الفولاني, من مخطوطات تمبكتو
يؤكد على ذلك الدكتور عبدالحليم العزمي، أمين عام الاتحاد العالمي للطرق الصوفية، خلال حديثه لـ"رصيف22"، مشيراً إلى أن المسلم مطالب بالموازنة بين الحقيقة والشريعة، بين الروح والجسد، ولا يجوز أن يكتفي بأحدهما دون الآخر. الصوفية عالم مبهرٌ للكثيرين، ويبدو غامضاً مليئاً بالأسرار، يقدّره البعض ويكفّره البعض الآخر، مع أنه كان دائماً ولا يزال جزءاً أساسياً من الثقافة الإسلامية، وفكُّ شفرات هذا العالم يكمن في ما قاله ابن عربي، حول المعنى الظاهر والباطن لأحاديثهم.
شفرات صوفية
في كتابه "معجم المصطلحات الصوفية"، جمع الكاشاني مئات المصطلحات، التي تعتبر محصلة لكل كتب المصطلحات التي سبقته، كما يقول مختصّ التراث وأستاذ اللغة العربية، الدكتور عبدالرازق شاهين، الذي حقق الكتاب. فهنا إطلالة على كيف يعرف الصوفية أنفسهم، ومراتبهم، ونظرتهم للعالم.مخطوطات تمبكتو، جذوة الأنوار فى الذب عن أولياء الله الأخيار
التصوف: هو التخلق بالأخلاق الإلهية
كثرت الآراء حول المعنى اللغوي للتصوف: فمنهم من قال إنه مأخوذ من الصوفة، لأن الصوفي مع الله كالصوفة المطروحة، لاستسلامه له. ومنهم من قال إنها مأخوذة من الصِّفة لأن الصوفي يتصف بحسن الأخلاق والصفات. وقيل إنه مأخوذ من "الصُفَّة" بضم الصاد، تشبيها بأهل الصفة من أصحاب النبي محمد، وهم مجموعة من الفقراء كانوا يقيمون في المسجد النبوي، وكان الرسول يأمر بإعطائهم الصدقات، وقيل غير ذلك. ومن حيث المصطلح، هناك تعريفات أخرى كثيرة غير التي أوردها الكاشاني، فمنهم من قال إنها علم إصلاح القلوب، ومنهم من عرفه بأنه تدريب النفس على العبودية لله، ومنهم من اعتبره رياضة روحية تلزم الإنسان بمنهج تعبدي لله، فوق ما فرضه، بحسب حورية بن قادة. خرقة التصوف: هي ما يلبسه المريد من يد شيخه، الذي يدخل في إرادته ويتوب على يده لأمور منها، "التزيّي" بزي الشيخ المراد الالتباس بصفاته. ومن هذا المعنى وصول بركة الشيخ إلى المريد الذي لبسه. تؤكد حورية بن قادة أن هناك تفسيرات عدة لهذا الطقس الصوفي، ولكنها لاتخرج عن معنى عام يفيد بإلباس المريد بلباس شيخه ليكون خليفة أو صورة له، في ظاهره وباطنه. مبنى التصوف: خصال ثلاث، هي، التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار. فالصوفي زاهد بطبعه، مشغول بالسعي إلى معرفة الحقيقة والوصول إلى الله، مطيع لا يجادل شيخه، لأنه يصل من خلاله إلى الله.زاوية سيدي عبد القادر بن محمد (سيدي الشيخ)، في ولاية البيض، الجزائر
الطريقة: السيرة الخاصة بالسالكين إلى الله، من قطع المنازل والترقي في المقامات. وينتظم أغلب المتصوفة اليوم في مجموعات تسمى بالطرق الصوفية، كل طريقة لها شيخ ولها منهج خاص في شكل التعبد، لكنها جميعا تندرج تحت قيم ومرجعية إسلامية ذات أصول واحدة.
مراتب أهل التوصف ودرجاتهم
لأهل التصوف مراتب ودرجات، نقلها الكاشاني، وهي: الحقيقة المحمدية: الذات مع التعيين الأول، فله الأسماء الحسنى كلها، وهو الاسم الأعظم. ويرى ابن عربي في كتابه "الإنسان الكامل" أن كل موجود "كائن" يمثل مجلى "مظهراً" لاسم من أسماء الله، أما النبي محمد فهو مجلى لاسم الإله الجامع، أي أن النبي هو الصورة البشرية لمجموع صفات وأسماء الله. وكذلك، فهو مبدأ خلق العالم وأصله، وهو منتهى غايات الكمال الإنساني، وهو المشكاة التي يتلقى منها كل الخلق، بمن فيهم الأنبياء، علومهم الباطنة. القطبية الكبرى: هي مرتبة قطب الأقطاب، وهي باطن نبوة محمد، فلا تكون إلا لورثته. والقطب، هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان، وهو على قلب إسرافيل. صاحب الزمان وصاحب الوقت والحال: هو المتحقق بجمعية البرزخية الأولى، المطلع على حقائق الأشياء، الخارج عن حكم الزمان وتصرفات ماضيه ومستقبله إلى الآن.اسم آفاق خواجه، قائد ديني صوفي وسياسي في الصين، في تسلسل نسب النبي محمد
الأوتاد: هم رجال أربعة على منازل الجهات الأربع من العالم، أي الشرق والغرب والشمال والجنوب، بهم يحفظ الله تلك الجهات لكونهم محال نظره. البدلاء: سبعة رجال يسافر أحدهم عن موضع ويترك جسداً على صورته فيه، بحيث لا يعرف أحد أنه فُقد، وهم على قلب النبي إبراهيم. النقباء: هم الذين تحققوا باسم الباطن فأشرفوا على بواطن الناس، واستخرجوا خفايا الضمائر لانكشاف الستائر لهم عن وجوه السرائر، وهم ثلاثمائة. النجباء: هم أربعون إنساناً يقومون على إصلاح أمور الناس، وحمل أثقالهم، ويتصرفون في "حقوق" الخلق. العارف: من أشهده الله ذاته وصفاته وأسماءه وأفعاله، فالمعرفة حال تحدث عن شهوده. العالم: من أطلعه الله، لا عن شهود، بل عن يقين. الشيخ: هو الإنسان الكامل، في علوم الشريعة والطريقة والحقيقة، البالغ إلى حد التكميل فيها، لعلمه بآفات النفوس وأمراضها وأدوائها، ومعرفته بذواتها وقدرته على شفائها، والقيام بهداها، إن استعدت ووفقت لاهتدائها. الولي: من تولى الحق أمره، وحفظه من العصيان ولم يخذله، حتى يبلغ في الكمال مبلغ الرجال. والولاية هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه، وذلك بتولي الحق إياه حتى يبلغه غاية مقام القرب والتمكين. المجذوب: من اصطفاه الله لنفسه، لحضرة أُنسه، وطهره بماء قدسه، فحاز من المنح والمواهب ما فاز به، بجميع المقامات والمراتب بلا كلفة المكاسب والمتاعب. والجذبة، هي تقريب العبد بمقتضى العناية الإلهية، المهيئة له كل ما يحتاج إليه في طي المنازل إلى الحق بلا كلفة وسعي منه. والعامة يرون المجاذيب نوع من المجانين المتعلقين بأضرحة الأولياء. المستهلك: الفاني في الذات الأحدية، بحيث لا يبقى منه رسم "يعيش بين الناس كجسد فقط، وروحه ليست معهم". العامة: هم الذين اقتصروا علمهم على الشريعة، ويسمى علماؤهم: علماء الرسوم. يقول عبدالحليم العزمي إن هذه المراتب معترف بها من مشايخ السلفية، الذين يعادون التصوف، كابن تيمية نفسه، الذي اعترف بهم، في كتابه "مجموع الفتاوى"، حيث يشير إلى أنهم أفضل من الملائكة التي لا تنقطع عن عبادة الله. ويقول ابن تيمية في مقارنة الملائكة بالصالحين من المسلمين: "أين هم من الأقطاب والأوتاد والأغواث والأبدال والنجباء". كما أفرد جلال الدين السيوطي رسالة بعنوان "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال"، وكان السيوطي شيخاً للإسلام في عصره، وهو من أكثر علماء السنة تأثيراً. كذلك تناولهم بالشرح الإمام محمد ماضي أبو العزائم في كتابه "دستور السالكين طريق ربّ العالمين". للصوفية خصوصيتها في استعمال المفاهيم والمصطلحات التي تميزها عن غيرها؛ مثل الفقه وعلم الكلام والفلسفة وسواها، وقد أغنى الفكر الصوفي الثقافة العربية الإسلامية بألوان بديعة من الفهم والتأويل وابتكار المعاني الجديدة لمفردات كان بعضها موجوداً من قبل، وبعضها الآخر من ابتكار أعلام التصوف وشيوخه. وهنا بعضاً من هذه المصطلحات ومعانيها عند الصوفية، تبين طريقة المتصوفة في الفهم الجديد: المريد: الفرد التابع للطريقة الذي لا يريد إلا ما يريد الله. الاتحاد: ذوبان الذات الفرية في الذات الإلهية؛ أي تصيير ذاتين ذاتاً واحدة. الفناء: هو فناء الصوفي عن الأشياء كلها، وانشغاله بالله وحده. السكر: هو غياب الصوفي عن تمييز الأشياء دون الغياب عنها. الوجد: هو ما يصادف القلب من خوف أو غم أو رؤية معنى من معاني الآخرة. الأفق الأعلى: هو نهاية مقام الروح، وهو الحضرة الإلهية، وحضرة الألوهية. الحجاب: كل ما يستر من صور الكون، ويمنع تجلي الله. البصيرة: هي قوة القلب المنور بنور القدس تتيح للمتصوف أن يرى حقائق الأشياء وبواطنها. الذر الأول (أو الذرو الأول): عالم الأرواح قبل أن تلبس الأجساد، أي قبل أن يهبط الإنسان على الأرض. الحال: هو مايرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمّل واجتلاب، كحزن أو خوف أو بسط أو قبض أو ذوق. اللبس: الصورة التي تلبس الحقائق النورانية؛ فالحقيقة الأصيلة للنفس هي تلك الصورة النقية النورانية، ولكن تلبسها أحوال دنيوية تغيّرها. الموت: قمع هوى النفس "الذي يحييها"، فلا تميل إلى لذاتها، ومقتضيات الطبيعة البدنية إلا به. فقمة الحب هو الموت فناء في المحبوب، وهذا الحب هو الله بالنسبة للمؤمن. يوم الجمعة: وقت اللقاء والوصول إلى عين الجمع، أي اجتماع الروح بخالقها وأصلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه