إن وضع المرأة في الإسلام موضوع معقد. ما بين الأسئلة المتعلقة بالحقوق والواجبات، وبالحجاب، والحياة الجنسية للنساء، وحتى إزالة الشعر وطقوس التجميل، فإن قائمة المطالب والتوقعات والقيود التي تقع تحت وطأتها النساء في العقيدة الإسلامية تبدو بلا نهاية. وهذا لا يعني أن القائمة واضحة؛ فإن وضع المرأة موضوع مثير للجدل، ولا تزال العديد من الأسئلة دون إجابة في حين أن البعض الآخر تتم مناقشته بكثرة.
أحد تلك الأسئلة التي شغلت علماء الدين والمسلمين بشكل عام هو النبوة؛ وبشكل أكثر تحديداً، ما إذا كان بإمكان المرأة أن تكون نبيّة. وهو جدل تمحور بشكل أساسي حول مريم بنت عمران.
لمريم مكانة عظيمة في أديان عديدة، فهي مثال للفضيلة يقتدي به الرجال والنساء. في الإسلام، يشير إليها القرآن بوصفها امرأة قد اختارها الله من بين كل النساء الأخريات في موضعين: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) من سورة آل عمران، الآية 42، و(إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) من سورة آل عمران، الآية 35 و36.
ماذا تعني حقاً صورة مريم القرآنية؟ وهل يمكن تفسيرها على كونها نبيّة؟ لمريم مكانة عظيمة في الإسلام فاعتبرها القرآن واحدة من الصديقين، ومثال للفضيلة يقتدي به الرجال والنساء
اختلف العلماء المسلمين بين من اعتبر مريم نموذجاً للتقوى ومن اعتبرها نبيّة بدون رسالة أو كتاب مقدس
نبوة حقة أم امرأة صالحة؟
في جوهر المناقشات المحيطة بنبوة مريم، تكمن ضرورة فهم الوحي؛ وبشكل أكثر تحديداً، إرسال الملاك، جبريل، كوسيط لرسالة الله. بحسب الفقيه والمفكر الأندلسي ابن حزم، النبوة هي إلهام شفهي ينزل على أولئك الذين يعتزم الله إلهامهم بالرسالة التي يريد إعلامهم بها. وأشار إلى أنه فيما يتعلق بنبوة المرأة، فإن المسألة قد "تسببت في جدل واسع في قرطبة... لأن مجموعة من العلماء نفوا كون النبوة ممكنة للنساء واتهموا أولئك الذين ادعوا أنها ممكنة بالهرطقة، لذلك نستنتج أنه كان هناك أولئك الذين اعترفوا بنبوة النساء وغيرهم ممن فضلوا اتخاذ موقف محايد". اتفق أيضاً الإمام والفقيه الأندلسي شمس الدين القرطبي مع ابن حزم، وأشار إلى أن اختيار الله واصطفاء مريم كان علامة على نبوتها. واستشهد بالحديث التالي كدليل ثانٍ: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (رواه مسلم والبخاري). وكان في رأي القرطبي، أن النبوة هي ما تحقق الكمال بين البشر. عامة كبار العلماء والفقهاء، خاصة من الشرق الإسلامي، لا يشاركون آراء العالمان الأندلسيان. فعند أبو جعفر بن جرير الطبري، لا يرتبط اصطفاء مريم بالنبوة، وعند مناقشة البشارة، يهتم الطبري بالملاك الذي بعث إلى مريم لا بالإلهام اللفظي. وعلى نهجه، ذكر الزمخشري، وهو فقيه ينتمي للمعتزلة أن اصطفاء مريم كان لأن الله رفعها لتكون امرأة تقية ومتعبدة. وبهذا الشكل تحلّ التقوى محل الوحي.رسول أم نبي أم صديق
يستكشف عبد الرحمن شمس الدين، الباحث في الدراسات الإسلامية وأستاذ اللغة العربية موقع مريم في الإسلام وصورتها في القرآن. وعلى الرغم من الآراء المتضاربة بشأن نبوة مريم، إلا أن شمس الدين ذكر، بالإشارة إلى ابن حزم، أنه لا يوجد بين علماء المسلمين من ادعى أن بإمكان المرأة أن تصبح رسولاً. التوضيح الضروري بين الرسالة والنبوة أمر مفصليّ هنا، وهما مصطلحان متماثلان في ظاهر الأمر لكنهما يحملان في طياتهما اختلافات عقائدية هامة. يتمتع الرسول بأعلى المراتب بما أن النبي محمد كان رسولاً. وعلى الرغم من أن محمد كان أيضا نبياً، فإن هذا اللقب وفقاً لشمس الدين يتمتع بمرتبة أقل، كما أن الآيات القرآنية التي تذكر كلا المصطلحين غالبا ما تذكر وصف الرسول أولاً، يليه النبي: "كل رسول نبي ولكن ليس كل نبي رسولاً"، فالرسول يأتي برسالة إلهية لينشرها وتكون هذه الرسالة في كثير من الأحيان أساساً لدين جديد. يقدم شمس الدين مصطلحاً هاماً آخر كثيراً ما يردُ في القرآن، وهو "الصديق"، ويذكر أن موسى قد وُصف بالرسول والنبي والمخلص في سورة مريم، الآية 51، (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً)، بينما وُصف شقيقه هارون في الآية 53 بأنه نبي فقط (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً). يستخدم شمس الدين هذا المثال لإظهار إمكانية وجود أنواع مختلفة من الأنبياء: الرجال عظيمو الإيمان، والرسل والأنبياء، والرجال الذين يؤيدون انتشار الدين مثل هارون. إلا أن مصطلح صديق في القرآن يصف الأنبياء مثل يوسف وإدريس وإبراهيم، ويصف كذلك مريم. وهكذا يقترح شمس الدين أنه حتى إذا لم تتمتع مريم بالنبوة، فإنها تتمتع – على أقل تقدير – بمرتبة الأنبياء الذكور الذين وصفوا على هذا النحو.
مريم وأنبياء المسلمين
لأن هناك سورة قرآنية سميت باسم مريم، يرجح ذلك نبوتها، برأي البعض، أو على الأقل، مكانتها العظيمة في العقيدة الإسلامية. وباستثناء لقمان، الذي كانت نبوته مطروحة للنقاش وفقاً لشمس الدين، لا توجد سورة في القرآن الكريم مسماة باسم من هم ليسوا بأنبياء. يقارن شمس الدين صورة مريم القرآنية بثلاثة أنبياء آخرين هم زكريا، ويوسف، ويونس. وقد كُشفت علاقتها مع زكريا في سورة العمران في الآيات 37 و38. في الآية الأولى، نرى مريم تعلم زكريا درساً: (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) وتصف الآية التي تليها زكريا وهو يدعو الله أن يرزقه بابن في غرفة مريم، وهناك تلقى الوحي النبوي أيضاً (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء). وبالاضافة إلى طهرها وشدة إيمانها، تحدثت مريم مع الملائكة واعتبرت واحدة من الصديقين في القرآن، وهي المرتبة التي تمتع بها يوسف بالمثل، فعلى الرغم من أنه لم يُنزَل عليه الوحي الإلهي، كان يُعتبر رسولاً. وفي سورة الصافات، الآية 139، ذُكر أنّ يُونس أيضاً كان مرسلاً (وإنّ يونسَ لمن المرسلين)، على الرغم من أنّ الله قد عاقبه لعدم نشر رسالته، فابتلعه الحوت وبقي في بطنه حتى طلب المغفرة، ولولا ذلك لكان قد ظل داخل بطنه حتى يوم القيامة (لَلَبث في بطنهِ إلى يوم يُبْعثون) من سورة الصافات، الآية 144. من ناحية أخرى، لم تتم معاقبة مريم أبداً في القرآن، وتبقى مرتبتها من أعلى المراتب.المعجزة معكوسة
نعود إلى سؤالنا الأول حول ما إذا كان يمكن اعتبار مريم نبيّة. في رأي شمس الدين، فإن صورتها القرآنية ترتقي إلى مرتبة أعلى من أنبياء آخرين في بعض الأحيان (مثل يونس) وعلى الرغم من أنّه لم يصحبها كتاب مقدس أو رسالة، كانت دائماً ما تُصور كمثال أكمل للتقوى والمرأة المصطفاة. ينهي شمس الدين حديثه بسؤال مثير للجدل يحتاج للتفكير: "ماذا لو كانت معجزة ميلاد عيسى معكوسة؟ ماذا لوكان قد ولد عيسى بدون أم؟ هل كانت ستحصل المعجزة على مثل هذا القدر الكبير من الاهتمام؟" تجادل الدكتورة حُسن عبود، وهي أستاذة في الفكر الإسلامي، لصالح نبوة مريم مستدلة بنسبها، وتقول أن مريم "نبية في الإسلام" نتيجة "لنسب عيسى لها وتسميته باسمها: عيسى ابن مريم". ترى عبود، "إذا كان الأنبياء زكريا وابنه يحيى ومريم وابنها عيسى، إبراهيم وابنيه إسحاق ويعقوب هم من ذرية آدم ونوح وإبراهيم وإسرائيل، إذاً كي يكون عيسى نبياً، ابناً لأمه فقط بلا أب، يجب أن تكون تلك الأم نبية". نترككم للتفكير في ذلك التحليل، فبعد كل شيء، الاستنتاجات الأكثر عمقاً هي تلك التي نصلها ونبنيها بأنفسنا.المصادر: محاضرة عبد الرحمن شمس الدين عن نبوة مريم 2017؛ مريم في الإسلام، بهار دافاري 2010؛ "إذاً مريم نبية"، حسن عبود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...