تأخذ شخصية يوسف النجّار زوج مريم حيّزاً عاطفياً بين "شخوص مغارة عيد الميلاد" كل عام، وهي شخصية محيّرة بامتياز في التاريخ الديني: الزوج الذي لم يمسس امرأته، الأب القانوني الذي يسجّل على اسمه طفلاً ليس من صلبه، المربّي الذي علّم يسوع حرفة النجارة. ولطالما اعتبر يوسف شخصية "ساذجة"، بل أن المؤرّخ الفرنسي ميشليه لم يتردّد في اعتباره نموذجاً للتفكّك الأسري، ونقيضاً للعائلة النواتية البرجوازية المثالية.
يوسف النجّار كمعضلة
وجدت الكنيسة صعوبة بالغة ولفترة طويلة في تحديد موقع يوسف في مجمع القدّيسين. فشخصيته حاضرة باقتضاب شديد في المدوّنة الإنجيليّة، وفقط عند متى ولوقا. حاضرة بشكل أفضل في الكتب "المنحولة". وهي غائبة تماماً في القرآن، ما أفسح بالمجال لكمال الصليبي للتمييز بين عيسى ابن مريم وبين يسوع ابن يوسف النجار.
يحتلّ يوسف النجّار اليوم موقع ثالث ثلاثة ضمن "العائلة المقدّسة"، وتتكوّن من يسوع (الإله الإبن في المسيحية)، وأمه مريم بنت يواكيم (المعتبرة أم الله منذ مجمع أفسس عام 431)، ومنه. لكن مفهوم العائلة المقدّسة أيضاً له تاريخ. لم يكن هو هو على مر العصور، وطالما ظلّ يوسف نسياً منسياً، أو مهمّشاً، ظلّ مفهوم العائلة المقدسة غير مكتمل.
العائلة المقدّسة... غير البيولوجية
والعائلة المقدّسة هي ما رآه الرعيان يوم دعاهم الملائكة إلى بيت لحم، فـ"جاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المزود" (لوقا، 2، 16). المشهد يختلف، في انجيل متى، فلا ذكر ليوسف حين يحضر المنجمون المجوس للقاء المولود حديثاً. "ودخلوا البيت فرأوا الطفل مع أمّه مريم. فجثوا له ساجدين، ثم فتحوا حقائبهم وأهدوا إليه ذهباً وبخوراً ومراً" (متى، 2، 11).
هذا ويشترك متى ولوقا في إرجاع يوسف إلى سلالة الملك داود، إنما بشجرتي نسب مختلفتين تماماً.
خطيب أم زوج؟
في انجيل لوقا، مريم ويوسف "خطيبان"، حتى وهما يتوجهان إلى بيت لحم لولادة يسوع.
في المقابل، يعتبر متى أن يوسف كان "زوجها باراً" (متى، 1، 18)، حتى قبل ظهور علامات الحمل على مريم. والأهم: من يتلقى بشارة الحبل من روح القدس هو مريم في انجيل لوقا، لكنه يوسف في انجيل متى!
فبعد أن ظهر الحبل وعزم على تطليقها، تراءى له ملاك الرّب في الحلم، وقال له: "يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأتي بامرأتك مريم إلى بيتك. فإنّ الذي كوّن فيها هو من الرّوح القدس، وستلد ابناً فسمّه يسوع، لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى، 1، 20-21). يتلقى يوسف هنا البشارة، في المنام، وبالتالي لا يدور بينه وبين ملاك الرب حوار، في حين يظهر نص لوقا أن مريم هي التي تتلقى بشارة ملاك الرب، ويدور بينهما حوار، تسأله فيه والملاك يجيب.
يوسف زوج السيدة مريم، كيف تحول من "حاجة إدارية هامشية" إلى رمز في مواجهة "الطاعون" و"الكهنوت" و"الشيوعية"
عن شخصية يوسف زوج السيدة مريم المحيّرة: الزوج الذي لم يمسس امرأته، والأب القانوني الذي يسجل على اسمه طفلاً ليس من صلبه
من هنا يعتبر المؤرّخ بول بايان أنّ المسيحية أخذت مطوّلاً بشهادة لوقا على حساب شهادة متى، خصوصاً في الفن الأيقوني في العصر الوسيط، سيما وأنّ لوقا صنّف كرسّام، ومؤسس للفن الأيقوني، وشفيعه.
يوسف في إنجيل لوقا: حاجة "إدارية"
وظيفة يوسف في انجيل لوقا هي "إدارية" نوعاً ما: لتسجيل الولد، بشكل قانوني، وربطه بالنسب الداودي، وينقطع ذكر يوسف في هذا الإنجيل على خلفية حادثة ضياع يسوع في الهيكل وعمره اثنى عشر عاماً، إذ وجده أبواه بعد ثلاثة أيّام، جالساً بين المعلّمين، فجاء جواب يسوع على أمّه "ولم بحثتما عني؟ ألما تعلما أنه يجب عليّ أن أكون عند أبي. فلم يفهما ما قال لهما”. (لوقا، 2، 49).
مكانة يوسف في "انجيل متى": متلقي الوحي، لا مريم
في المقابل، ينفرد متى بخبر لجوء العائلة المقدّسة إلى مصر. مجدّداً المعني بتلقي الوحي هو يوسف: "قم فخذ الطفل وأمه وأهرب إلى مصر وأقم هناك حتى أعلمك، لأن هيرودوس سيبحث عن الطفل ليهلكه" (متى، 2، 13). نفس الشيء في رحلة العودة، ومجدّداً حين سيوجّهه للصعود إلى الجليل، بدل الذهاب إلى منطقة اليهودية.
يعطي انجيل متى دوراً أكبر بكثير ليوسف. الوحي يتواصل معه هو ومن خلال مناماته، الأمر الذي يفسح بالمجال لمقارنته ببطاركة وأنبياء العهد القديم، ولاعتباره آخرهم، أكثر من كونه أوّل القديسين المسيحيين.
ولما كانت المسيحية ستتطور بسرعة في حركة ابتعاد عن أصولها اليهودية، لم يكن الأخذ بصورة يوسف هذه في انجيل متى مستساغاً.
بيد أن تعريض الأخصام بعذرية مريم الدائمة، دفعت المسيحيين باتجاه المصادر "المنحولة"، وهذه ساهمت في إخراج النجار من الظل، وأعطته وجهاً وموقفاً، لكنها أظهرته كطاعن في السن.
يوسف في الكتب المنحولة: تزّوج مريم وهو في الخامسة والتسعين من العمر
نذكر مثلاً "تاريخ يوسف النجار"، الذي بقيت منه مخطوطات مترجمة بالعربية والقبطية عن الأصل اليوناني، وفيه يقدّم يوسف على أنه نموذج للنائح (المائت السعيد) إذ يموت وفي جواره يسوع ومريم، وعن عمر مئة واحد عشر عاماً، في وقت كان عمر يسوع ستة عشر عاماً فقط، أي أنّ يوسف وفقاً لهذا النص تزّوج مريم عن عمر خمس وتسعين عاماً. وهذا يختلف بشكل كبير عن التقديرات الرائجة في أماكن أخرى. حياة وسيرة القديسين في "السنسكار الماروني" مثلاً، تحدّد عمر يوسف بالثامن والثلاثين يوم خطوبته على مريم.
في كتب "أبوكريفية" أخرى، مثل النص "المنحول على متى"، سنجد في المقابل صورة سلبية عن يوسف. إذ يعرض هذا الكتاب رحلة العائلة الى مصر، ومريم التي تستند إلى شجرة نخيل، وتطلب ثمرها، فينهرها يوسف بأنّها تفكر بالثمار العالية التي لا سبيل اليها، في حين شحت الماء في القربة. يتدخل الطفل الإلهي حينها، ليأمر سعف النخل بأن تهبط وتعطي الثمار لوالدته، مظهراً محدودية يوسف وعدم قدرته على الفهم.
وتنقلب الحال في "الإنجيل المنحول على توما" المسمى أيضاً "تاريخ مولد يسوع"، فهنا يظهر يوسف كأب يحاول بصعوبة شديدة تربية ابن لا يسيطر على قدراته الخارقة، مرة يردي طفلاً اصطدم به، ومرة يهزأ بأساتذته ويسفّهم، ويجيد شغل الخشب خير من النجّار الختيار.
أما الإنجيل "المنحول على يعقوب" فيظهره أرملاً، أنجب عدداً من الأولاد من زيجات سابقة، الأمر الذي يتكفّل بحل إشكالية أخوة المسيح، ومنهم يعقوب - الراوي هنا، الوارد ذكرهم في الإنجيل.
التهميش الأيقوني فترة طويلة
لقرون طويلة، بقيت مكانة يوسف محيّرة، وضائعة بين سطوع كل من مريم ويسوع.
يعتبر بول بايان في كتابه "يوسف. صورة الأبوة في الغرب الوسيطي" (2006، عن دار اوبييه الفرنسية) أن يوسف النجار لم يحظ بمكانة بارزة طيلة القرون الوسطى، ولم تبدأ مكانته ترتفع بشكل ملحوظ الا في القرن الخامس عشر، بعد أن مهّد لذلك اللاهوتي غرسون ثم الرهبان الفرنسيسكان.
على امتداد القرون الوسطى، طغت الإشارة ليوسف على أنّه "زوج مريم"، من دون التأكيد الواضح لقداسته، وكان الفن الأيقوني يظهره بشكل هامشي، كمنزوي في زاوية من اللوحة، عجوز قرب الموقد، أو يحضّر الحساء للطفل.
لا يلغي ذلك أنّه، حتى في عزّ القرون الوسطى، وجد أيضاً فن أيقوني يعظّم يوسف، ويجلسه على عرش: ارتبط ذلك بمحاولة لإعطاء الأصالة له كونه وريث العرش الملكي الداودي، وخدمت أيقونات "يوسف النجار الملك"، على ندرتها، قضية الأباطرة في مواجهة الباباوات: أولوية الملوك على الكهنة. لكن هذا التقليد بقي معزولاً، ولم يدم طويلاً.
ما سيعطي يوسف النجار أهمية تصاعدية في نهاية العصر الوسيط هو الحاجة إلى التوسّع في مفهوم الأبوة، والحاجة إلى التكافل الإجتماعي. من هنا فرضية بول بايان: رد الاعتبار ليوسف النجار كأب، ورمز للأبوة، سترتبط بفترة نهاية العصر الوسيط، وخصوصاً في مواجهة الطاعون.
في مواجهة "الطاعون" و"الكهنوت" و"الشيوعية"
فالطاعون فكّك الروابط الاجتماعية، دمّر الأسر، رمى الكثيرين في المياتم، صار من اللازم حينها استصلاح فكرة الأبوة، عدم ربطها بمعناها الحرفي، البيولوجي. اصطدم ذلك بعائقين: هالة العذراء التي لا يمكنها الذهاب بعيداً في تكريس رابطة زوجية مع رجل، وعدم اتصاف سيرة يوسف بالأعاجيب.
ما لم يستطع العصر الوسيط تجاوزه بشكل حاسم، تكفّل به الفن في عصر النهضة، بدءاً بميكال انجلو مثلاً، الذي اعتمد على تصّور العائلة المقدّسة كدائرة وليس كمثلث. ثم جاء الإصلاح البروتستانتي، فصارت الحاجة لنموذج ربّ العائلة المبارك من الله أقوى بديلاً عن الكاهن، وهي بالتالي حاجة للمزيد من استحضار النجار. وهذا بلغ الذروة في كندا، التي تحوّل يوسف النجار إلى شفيعها في القرن السابع عشر.
أما في عالم الكثلكة، فعلينا انتظار أواخر القرن التاسع عشر، حيث سيكرّس البابا بيوس التاسع القديس يوسف عمدة وشفيعاً للكنيسة الجامعة. مع أن يوسف لن يتحوّل إلى شخصية شعبية في التدّين الكاثوليكي، ولن يكرّس له مبحث لاهوتي خاص به يعرف الآن بـ"اليوسفيات" إلا في القرن العشرين، عندما أدركت الكنيسة كم أن يوسف البتول، النجّار، الكادح، المربّي المتفاني، يمكنه أن يتحوّل الى رمز عمّالي اجتماعي محافظ وكفاحي في مواجهة الحركة الشيوعية!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع