الموت، تلك الكلمة الغامضة المثيرة للخوف والرهبة، التي طالما مثلّت جداراً فاصلاً بين ما نعرفه وما لا نعرفه، وكانت الحافز الأول للإبداع والخيال وأشكال لا تعد ولا تحصى من الطقوس الدينية والاجتماعية. كانت مادة لا تنضب للقصص التي ذكرتها الكتب المقدسة، وآمنت بها الشعوب عبر العصور، ومنها قصص العودة من الموت التي لا تخلو منها ثقافة أو عصر. ففي التراث الإسلامي، تطرق لها القرآن الكريم والحديث الشريف، في قصص اختلفت النظرة لها في المذاهب الإسلامية المختلفة، وبالأخص عند كلّ من السنة والشيعة والصوفية.
في القرآن الكريم: عُزير وعيسى بن مريم
في القرآن الكريم العديد من القصص التي تشير إلى معجزة إحياء الموتى، ولكن أهم تلك القصص قصتا قتيل بني إسرائيل وعُزير.القصة الأولى، ذُكرت بشكل واضح في الآيات 72 و73 من سورة البقرة. وملخص القصة، بحسب ما ورد في تفسير الطبري، أن حادثة قتل قد وقعت في بني إسرائيل زمن النبي موسى. ولما كان القاتل مجهولاً، فإن الله قد أوحى لنبيه بأن يتم ذبح بقرة، وأن يُضرب القتيل ببعضها، فلما تم ذلك، بعد طول جدال ومعارضة من اليهود، عاد القتيل إلى الحياة ونطق باسم قاتله. أما القصة الثانية، فقد وردت في الآية 254 من سورة البقرة أيضاً، يذكرها أكثر المفسرين من أمثال الطبري وابن كثير والسيوطي. تشير القصة إلى عُزير الذي مرّ على مدينة أورشليم بعد أن تم تخريبها على يد البابليين، فتعجب كيف سيتم إعمارها بعد كل ما نالها من الخراب، فأماته الله لمدة مائة عام ثم أحياه مرة أخرى، وجعله يشاهد عملية إحياء حماره، حتى يتأكد من قدرة الله على كل شيء. والملاحظ في كلتا القصتين السابقتين، أنهما ورغم تناولهما لحادثتين من أحداث التاريخ اليهودي، إلا أنه لا يوجد أي ذكر لهما في كتب العهد القديم المقدسة عند اليهود، وهو الأمر الذي كان مثاراً للخلاف والمجادلة ما بين اليهود والمسلمين على مدار القرون السابقة. وفي الوقت نفسه، فقد ذكر القرآن الكريم بشكل واضح أن المسيح عيسى بن مريم قد أوتي القدرة على إحياء بعض الأموات بإذن من الله. حيث ورد في الآية 49 من سورة آل عمران: "ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله".
ويعلق أبو إسحاق أحمد الثعلبي النيسابوري، في كتابه عرائس المجالس على تلك الآية، بتحديد أربعة أشخاص قد قام عيسى بإحيائهم بعد موتهم، وهم أليعازر، الذي ذهب المسيح لعيادته في مرضه فوجده قد توفى، وكذلك ابنة أحد رؤساء كهنة اليهود، وابن لسيدة عجوز ليس لها من يكفلها.
والحالات الثلاث السابقة، وردت في مواضع مختلفة من العهد الجديد.
أما الحالة الرابعة، فيقتصر ورودها في التراث الإسلامي ولم ترد في العهد الجديد.
حيث يذكر الثعلبي أن عيسى لما دعا بني إسرائيل لاتبّاعه، طلبوا منه أن يقيم سام بن نوح من الموت، فلما أقامه وخرج لبني إسرائيل، أنكروا ورفضوا التصديق بالمعجزة واستمروا في مخالفة عيسى وتكذيبه.
أما في الحديث النبوي، فإن الأحاديث التي تطرقت لمعجزات إحياء الموتى، كانت في غالبيتها موجهة نحو تفسير القصص القرآنية الذي وردت فيها تلك المعجزة، ولم يُذكر أن الرسول الكريم قد قام بتلك المعجزة أو أنها وقعت لأحد من الصحابة.
الاستثناء الأوحد هو ما أورده كلٌّ من البيهقي في دلائل النبوة وابن كثير في البداية والنهاية، عندما نقلا عن أنس بن مالك، أن عجوزاً عمياء مهاجرة كان لها ابن أصابه وباء فمرض أياماً ثم مات، فغمضه الرسول وأمر بتغسيله.
وأثناء تجهيزه للدفن جاءت أمه وجلست بجواره ودعت الله باكية: "اللهم، إني أسلمت لك طوعاً وخلعت الأوثان زهداً وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمّت بي عبدة الأوثان، ولا تحمّلني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها".
فما انتهت من كلامها حتى قام ولدها حياً، وعاش بعد ذلك عمراً طويلاً.
سمك الرفاعي وتمساح الدسوقي هي من أشهر قصص إحياء الموتى عند الصوفية.
جاءت معجزة العودة من الموت في المذاهب الإسلامية بصيغ مختلفة ومعانٍ عديدة.
وعلى الرغم مما عُرف به من تشدد وإنكار للكرامات والخوارق التي تؤمن بها الصوفية، فإن ابن تيمية (تـ 728هـ/ 1327م)، قد صرّح في كتابه النبوات، بإمكانية أن يقوم بتلك المعجزة الصالحين والأتقياء من عامة الناس.
كما قال بعدم اختصاصها بالأنبياء والرسل وحدهم دون غيرهم، فقال: "والآيات التي يبعث الله بها أنبياء قد يكون مثلها لأنبياء أخر مثل إحياء الموتى فقد كان لغير واحد من الأنبياء، وقد يكون إحياء الموتى على يد أتباع الأنبياء".
كما ذكر ابن تيمية في كتابه الفرقان بعضاً من الأمثلة على القيام بإحياء الحيوانات النافقة.
ومن ذلك ما حكاه عن التابعي صلة بن أشيم الذي عندما مات فرسه وهو في الغزو، قال "اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة"، ويكمل ابن تيمية بأنه "دعا الله عز وجل فأحيا له فرسه".
كما ذكر ابن تيمية أيضاً رجلاً كان له حمار مات في الطريق، فقال له أصحابه "هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم: أمهلوني هنيهة، ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين، ودعا الله تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه".
عند الشيعة: الأئمة يحيون الموتى
إذا كانت الروايات التي ذكرت معجزات وكرامات إعادة الموتى للحياة عند السنة لم تزد عن بضع روايات، فإن الروايات المماثلة كثيرة في المذهب الشيعي الإمامي. على سبيل المثال، جمع هاشم البحراني (تـ.1109هـ/ 1697م)، في كتابه مدينة المعاجز، معجزات وكرامات الأئمة الإثنى عشر، الذين يؤمن الشيعة الإمامية الإثناعشرية بإمامتهم. وبحسب المصادر الشيعية، فقد تكررت معجزة إحياء الموتى عند جميع الأئمة الإثناعشر، ولكن كان هناك اختلاف وتباين في عدد تلك المعجزات، فبينما نسبت تلك المصادر لبعضهم إحياء شخص واحد، فإنها نسبت للبعض الأخر إحياء العديد من الأشخاص. ذكر البحراني عن الإمام الأول علي بن أبي طالب، عدداً كبيراً من تلك المعجزات. منها عندما أتاه شابٌ من بني مخزوم، أصابه حزن شديدٌ لوفاة أخيه، فخرج معه علي حتى وصلا إلى القبر، فضربه برجله، عندئذ خرج الميت من مدفنه وعاد إلى الحياة. كما يروى أن علي قد أعاد الحياة إلى سام بن نوح، وتبادل معه الحديث أمام جمع من الناس، وكذلك أنه أحيا عدداً من جنوده الذين قتلوا يوم واقعة صفين. وروي كذلك أن الحسين بن علي، قد قام بإحياء سيدة ماتت قبل أن توصي بميراثها، فلما قامت وأوصت عادت مرة أخرى ميتة من فورها. ورغم تواتر وكثرة تلك النوعية من الروايات في المصادر الشيعية، خصوصاً في المصادر التي تعود لعصر الدولة الصفوية، إلا أن هناك اتجاهاً شيعياً معاصراً يدعو لنقد تلك الروايات.عند الصوفية: إحياء الموتى من علامات التمكن في الولاية
الفِرقُ الصوفية أيضاً كان عندها بعض القصص المثيرة، عن الأفعال الخارقة لبعض المشايخ والأولياء، الذين ظهرت كراماتهم في إعادة بعض الأموات إلى الحياة. ومن ذلك ما ذكره عبد الوهاب الشعراني في كتابه الأنوار القدسية، من أنه قد ثبت لبعض الأولياء أنهم كانوا يقولون للرجل مت فيموت، ثم يقولون له قم فيقوم حياً. فإحياء الموتى عند الصوفية من علامات التمكّن في الولاية، ومما يُنقل عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه قال "الولي المتمكن يحيي الموتى بإذن الله". ومن القصص التي ذكرت عن الرفاعي، ما أورده الصيادي في كتابه قلادة الجواهر، حيث ذكر أن الرفاعي قد خرج مع جماعة من مريديه في يوم ما إلى النهر، فلما جاعوا، نادى الرفاعي على السمك في الماء، فخرج إليه مشوياً مطبوخاً. ولما أكل الأتباع وشبعوا، قال الرفاعي لبقايا السمك "كوني سمكاً كما كنت أولاً بإذن الله تعالى"، وعندما أنهى كلامه، بحسب الصيادي، "قامت وتناثرت سمكاً حياً". ولعل أشهر القصص الصوفية عن إحياء الأولياء للموتى، هي تلك التي يرويها الشيخ أحمد الشرنوبي في كتابه المعروف بطبقات الشرنوبي، عن إبراهيم الدسوقي، وهو من أشهر الأولياء وأعظمهم مكانة عند صوفية مصر، وهناك العديد من الطرق المتفرعة عن طريقته. القصة تقول أنّ إحدى السيدات قد ذهبت باكية إلى إبراهيم الدسوقي (تـ.696هـ/1296م)، وأخبرته أن تماسيح النيل قد التهمت ابنها وهو يسبح في النهر. عندها أمر الدسوقي أحد أتباعه بأن يذهب إلى النيل، وأن ينادي على التمساح الذي أكل الطفل، فلما فعل تابعه ذلك خرج له التمساح وصحبه طائعاً، حتى أتى إلى مقام الشيخ. أمر الدسوقي التمساح أنْ يُخرج الطفل فأخرجه من فمه، وعاد الابن إلى الحياة بعد موته، بينما مات التمساح من فوره. واستمرت آثار القصة في العالم المادي، فهناك "فقرة" يعتقد من يؤمن بهذه المعجزة بأنها من فقرات عنق التمساح المذكور في قصة الدسوقي. وهي محفوظة في مقام سيدي إبراهيم المشهور في مدينة دسوق الواقعة في شمال الدلتا في مصر. ولا تزال هذه الفقرة حتى الأن في مكانها يراها كلُّ من يزور المقام. المصادر: تفسير الطبري؛ تفسير ابن كثير؛ دلائل النبوة للبيهقي؛ البداية والنهاية لابن كثير؛ طبقات الشرنوبي لمحمد الشرنوبي؛ قلادة الجواهر للصيادي؛ عرائس المجالس للثعالبي النيسابوري؛ مدينة المعاجز لهاشم البحراني؛ الأنوار القدسية لعبد الوهاب الشعراني؛ كتابا النبوات والفرقان لابن تيمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين