لا يفوّت الساسة والحكام أيّة فرصة لتوطيد أركان حكمهم. وإذا ارتبط الأمر بالدين فإن الفرصة تكون حينئذٍ عظيمة. فعل المماليك ذلك عندما استغلوا الصراع المذهبي بين مذاهب السنة الأربعة وأجّجوه لخدمة مصالحهم وتعضيد سلطانهم، غير عابئين بتبعات هذا الاستغلال.
كان المذهب الشافعي الأكثر انتشاراً في مصر والشام أيام الدولة المملوكية. فال أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور عبد الباقي السيد لرصيف22 أن ذلك لم يمنع وجود مذاهب أخرى مثل الحنبلي والمالكي والحنفي وإن كانت أقل انتشاراً.
وبحسب السيد، اندلعت خلافات بين فقهاء المذاهب أججت الصراع بين أتباعهم، مثل ذلك الذي وقع بين الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي وعلي بن يعقوب البكري الصوفي الشافعي. وروى أن السجال الفكري تحوّل أحياناً إلى صراع مذهبي استقطب العامة من الناس.
المساجد تدفع الثمن
نالت المساجد نصيب الأسد من أثر المذهبية. وذكر السيد أن أربعة محاريب وُجدت في كل مسجد خُصص كل واحد منها لأتباع كل مذهب على حدة، وكان أتباع كل مذهب يصلون خلف إمام خاص بهم. وبحسب السيد، كان يتم تخصيص أيام معينة لكل مذهب لأداء الصلاة بالمسجد، على أن يصلي أتباع المذاهب الأخرى في مساجد أخرى. وفي دراسته المعنونة "الأوضاع الدينية للمسلمين في الشام في العهد المملوكي"، ذكر الباحث منصور إحميد سالم أن جميع الطوائف المذهبية كانت تجتمع في بعض المساجد في نفس وقت الصلاة، كالمغرب، لضيق الوقت، فيحدث تشويش وخلط في الركوع والسجود والتسليم. وحرّمت فتاوى كثيرة الصلاة بمذهب مخالف، ما فجّر صراعاً مريراً بين رواد المساجد من المصلين. وروى سالم أن عام 835هـ/1431م شهد صراعات بين الحنابلة والشافعية في مساجد دمشق تعرّضت على إثرها مؤسسات دينية كثيرة للنهب والحرق.طلاب متعصبون
اتخذ الصراع المذهبي من المدارس ساحة له، وبعض المدارس كانت تابعة للفقهاء الشافعية، وأخرى للمالكية، وثالثة للحنفية. وبحسب سالم كان الطلاب يتأثرون بميول معلميهم المذهبية، وتدخل بعض المعلمين للتأثير على طلاب المذاهب الأخرى، حتى يغيّروا مذهبهم مستخدمين عدة وسائل أبرزها كانت اقتصادية. وذكر المقريزي أن الأمير يلبغا الناصري (تولى نيابة حلب بين عامي 783 و787هـ ثم عاد إليها ثانية عام 789) أوجد درساً في جامع أحمد بن طولون بالقاهرة فيه سبعة مدرسين للحنفية، وقرر منح كل فقيه من الطلبة أربعين درهماً وإردباً من قمح شهرياً، فانتقل جماعة من الشافعية إلى مذهب الحنفية. وكانت بعض المدارس تكتب على أبوابها شروط الواقف التي منعت في بعض الأحيان دخول أتباع المذاهب الأخرى. وذكر سالم أن المدرسة السلطانية بحلب كُتب على بابها: "يشترط دخول المدرسة للشافعية فقط". وسار زنكي الدين بن رواحه الشافعي المذهب (توفي سنة 622هـ/1224م) على النهج نفسه، فأنشأ مدرستين في دمشق وحلب، وكتب على بابيهما: "لا يدخلها مسيحي أو يهودي أو حنبلي". وكان من المنطقي أن تنتهي هذه المعطيات إلى تكوين طلاب متمذهبين ومتعصبين. فكثيراً ما كان أتباع المذهب الواحد يستقدمون شيخاً من رجال مذهبهم لإلقاء درس أو محاضرة عامة والتعريض بالمذاهب الأخرى، فتنشب الفتن وتثور الخصومات، ذكر سالم. وبحسب السيد، فإن مصر لم تعرف مدارس موقوفة على أتباع مذهب معين، وإنما كان يدرس فيها كل المذاهب مثل المدرستين الصالحية والمنصورية. ولكن سالم يرى أن المدارس السنية المشتركة لم يكن يجمعها سوى المبنى والمرافق والجرايات (الرواتب الجارية وحصص الطعام اليومية) فقط، وكانت كل طائفة مستقلة بجهتها وقاعاتها، وطلابها وأساتذتها، ومذهبها وبرامجها، فهي وإن خففت نوعاً ما من التعصب والنزاع، فإنها من جهة أخرى كرّست الفرقة والتمذهب في مبنى واحد. ومورس الترهيب المذهبي أيضاً في المؤسسات الدينية، وأُجبر كثير من الحنابلة على ترك مدارسهم ومساجدهم وبقائهم في بيوتهم، وجُرّد فقهاؤهم من كثير من المناصب، وطرد مدرسوهم من المدارس، ذكر سالم.قرر أمير أن يمنح كل طالب في مدرسة حنفية أربعين درهماً شهرياً، فانتقلت جماعة من الشافعية إلى الحنفية
على باب إحدى مدارس الشافعية في عهد المماليك كُتب: "لا يدخلها مسيحي أو يهودي أو حنبلي"
فتن مذهبية
تسبب فقهاء المذاهب في وقوع فتن كثيرة، إحداها بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق. يروي الدكتور خالد كبير علال في كتابه "التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي" أن الفقيه تقي الدين بن محمد الحصني الشافعي الأشعري تعصب للأشعرية وكثر حطه على ابن تيمية، وبالغ في ذلك علانية أمام طلابه بدمشق، فأحدث فتناً مذهبية كثيرة بين الطائفتين. فتنة أخرى أشار إليها علال حدثت بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق سنة 835هـ، أثارها الشيخ علاء الدين البخاري عندما هاجم الحنابلة، وكفّر ابن تيمية، فأحدث بذلك صراعات كبيرة بين الطائفتين، ووصل الأمر إلى السلطان الأشرف برسباي فأمر بعدم اعتراض أي أحد على مذهب غيره، فهدأ الوضع وسكن الحال.قضاة ومذهبيون
جعلت الدولة الأيوبية (569-648هـ) القضاء بيد الشافعية ومكنتهم في دولتها، ثم تغير الحال في دولة المماليك، عندما أمر السلطان الظاهر بيبرس سنة 663هـ بتعيين أربعة قضاة بمصر يمثلون المذاهب السنية الأربعة، وطُبق الأمر نفسه بالشام في العام التالي، ما كرّس التعصب باسم القانون، وأصبحت الدولة تحتكم على أربعة مذاهب تختلف أحكامها في كثير من المسائل. قادت هذه الأوضاع القضاة إلى التعصب المذهبي تجاه فقهاء وأتباع المذاهب الأخرى. وبحسب علال اعترض الأشاعرة على ابن تيمية في مسألة صفات الله تعالى ورفعوا أمره إلى القضاء، فحكم عليه القاضي المالكي ابن مخلوف بالكفر والسجن. وعندما أظهر الفقيه أحمد بن مري البعلي الحنبلي انتصاراً لآراء شيخه ابن تيمية، رُفع أمره إلى القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي سنة 725هـ، فتعصب ضده وبالغ في عقابه، آمراً بضربه ضرباً مُبرحاً أدماه، وشهّر به بين الناس، فكادت العامة أن تقتله، ثم سجنه، وبعد مدة شُفع فيه فأخرجه ورحّله من القاهرة إلى الخليل بفلسطين، ذكر علال.مذاهب السلاطين والأمراء
كان المذهب الشافعي هو المذهب الرسمي للدولة المملوكية، حتى بدأ يتراجع لصالح الحنفي في عهد السلطان طومان باي المملوكي سنة 923هـ/1516م. وذكر سالم أن ذلك حدث عندما بدأ النفوذ العثماني يظهر في الشام (الدولة العثمانية كانت حنفية المذهب، حتى أنهم جعلوا ولاية القضاء بيد الأحناف وحدهم، دون المذاهب الأخرى). استمال سلاطين المماليك فقهاء المذاهب الأربعة وعينوهم في وظائف مهمة. وذكر أستاذ الآثار في جامعة القاهرة الدكتور مختار الكسباني لرصيف22 أن تلك السياسة هدفت إلى كسب ود المصريين السنة بمختلف أطيافهم المذهبية خاصة في فترات القلاقل السياسية والاقتصادية. بيد أن الشافعية، وكانوا أكثر المذاهب عدداً ونفوذاً في مصر والشام، لم يرق لهم تعيين بعض أتباع المذاهب الأخرى في مناصب كي لا تنافس مذهبهم، ولذلك كثرت الأقاويل حول شرعية فعل الظاهر بيبرس بتعيين أربعة قضاة يمثلون المذاهب السنية، ذكر سالم. وفي ذلك الوقت ردد الشافعية أن بيبرس رأى رؤيا، بعد استحداث المذاهب الأربعة، مفادها أن الإمام الشافعي قال له: "بهدلت مذهبي في مصر، وفرقت كلمة المسلمين، والله لأعزلنك أنت وأولادك إلى يوم القيامة". ورددوا أيضاً مقولة: "ما جلس سلطان على كرسي مملكة مصر، وكان متقلداً بغير مذهب الإمام الشافعي إلا عُزل سريعاً أو قُتل، وقد جرب ذلك في الملك قطز، فإنه كان حنفياً فلم يمكث إلا يسيراً وقتل".وفنّد سالم هذا الكلام ووصفه بـ"غير الموضوعي"، لأن السلطان الناصر محمد بن قلاوون مثلاً (تولى السلطنة ثلاث مرات منقطعة في العقود الأولى من القرن السابع الهجري أي الثالث عشر الميلادي)، استمر حكمه طويلاً، برغم تجاهله للمذهب الشافعي، وتفضيله الحنفي. أكثر الأمراء والسلاطين المماليك كانوا حنفيين. وأرجع الكسباني ذلك إلى أنهم كانوا يعتنقون أفكار فقهاء وأئمة مواطنهم الأصلية في آسيا الصغرى التي وفدوا منها إلى العالم العربي، وكان أغلبها يصب في المذهب الحنفي. سبب آخر ذكره سالم يتمثل في أن الحنفية لا يشترطون في الحاكم أن يكون قرشياً عربياً كما يرى الشافعية. ورغم ذلك فإن أغلبية الجماهير في مصر والشام كانوا من أتباع المذهب الشافعي، ما دفع السلطة المملوكية إلى الرضوخ للأمر الواقع والاعتراف بسيادة المذهب الشافعي، بحسب سالم. وفي بعض الفترات التاريخية، ظهرت مساندة المماليك لمذهبهم الحنفي. فقد ذكر سالم أن أمراء الناصر محمد بن قلاوون سيطروا، في بداية القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) على جوامع، وكان يدرس فيها المذهب الشافعي، فجعلوا التدريس على مذهبهم. وروى الدكتور محمد زغلول سلام في كتابه "الأدب في العصر المملوكي" أن الأتابك يلبغا الناصري، كان نائب الظاهر برقوق على حلب قبل أن ينقلب عليه ويسيطر على كامل سوريا سنة 791هـ/1389م، كان حنفياً، وتعصب لمذهبه وحاباه حتى أنه كان يعطي مَن يتمذهب لأبي حنيفة العطاء الجزيل. وبحسب سالم، عيّن الظاهر برقوق، سلطان مصر في فترتين (784هـ - 791هـ ثم 792هـ - 801هـ،) في بعض المدن ثلاثة قضاة من الأحناف وواحداً شافعياً. أما السلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي (حكم حلب بعد وفاة والده سنة 541 هـ، وقام بتوسيع إمارته تدريجياً)، فكان حنفي الفروع بلا تعصب في تعامله مع الطوائف السنية، لكنه فضل بعضها على بعض في بناء المدارس، وانتصر لها على حساب الشيعة، كما ذكر علال. وكان الظاهر سيف الدين ططر المملوكي (حكم مصر سنة 1421مـ)، شديد التعصب للمذهب الحنفي، حتى أنه كان يريد أن لا يدع أحداً من فقهاء المذاهب الأخرى في مصر والشام إلا فقهاء الحنفية، بحسب علال. ورغم ذلك، شذّ بعض السلاطين كالناصر محمد وفضل المذهبين الحنفي والحنبلي. وذكر ابن كثير أنه اختصهما وجعلهما عنده في دار العدل دون سواهما من المذاهب. وكان الأمير علم الدين سنجر الحلبي (تولى حكم حلب والقدس سنة 658هـ أي 1260م) نائباً في القدس وحلب، وكان متعصباً للشافعية لوجود مصلحة معهم. وعرف عن الناصر حسن بن محمد بن قلاوون (تولى عرش مصر عامي 751 و752هـ أي 1350 و1351 مـ) أنه كان يناصر الشافعية على الأحناف، ما أثارهم ودفعهم إلى تأليف الكتب للطعن في المذهب الشافعي، ذكر سالم.زمن المماليك والصراع بين مذاهب السنة... حين راح المصريون يرددون أنه ما جلس سلطان غير شافعي على كرسي مصر، إلا عُزل أو قُتل
تحول الفقهاء واستكتابهم
كان سلاطين المماليك بالإجمال يختصون المذهب الشافعي أولاً، ثم المذهب الحنفي ثانياً، في التعيين بقضاء العسكر، ونظارة بيت المال وغيرها من الوظائف المهمة، ذكر سالم. كان ذلك كافياً لبروز ظاهرة التحول من مذهب إلى آخر للوصول إلى مطمع أو غاية دنيوية، كالتقرب من السلطان أو الحظوة بالوظائف، أو التدريس بالمدارس، أو لمجرد الحصول على جائزة أو مبلغ من المال. وضرب سلام مثالاً على ذلك بأثير الدين أبو حيان، العالم النحوي المفسر الأندلسي الأصل (654 - 745 هـ، أي 1256 - 1344 م)، الذي تحول من المالكية إلى الشافعية ليكون مقرباً عند أرباب السلطان في مصر. وألّف الفقيه الحنفي بدر الدين العيني كتاباً يمجّد السلطان المؤيد أبو النصر شيخ بن عبد الله المحمودي الظاهري الذي حكم مصر سنة 815هـ أي 1412م وبقي حتى وفاته في يناير سنة 823هـ أي 1421مـ، وذلك بعنوان "السيف المهند في سيرة الملك المؤيد"، حسب السيّد.عزل القضاة
وعندما كان السلطان يستشعر أن نفوذ بعض المذاهب زاد عن حده في السلطنة، كان يقوم بعزل القضاة وتأنيبهم، والتخفيف من نوابهم، وتجريدهم من صلاحياتهم. ووفقاً لسالم عزل السلطان الناصر محمد القضاة الثلاثة دون المالكي. ودأب بعض السلاطين على عزل الفقهاء والقضاة من أتباع المذاهب إن خالفوا رغبتهم أو اعترضوا على سياستهم. وذكر المقريزي أن السلطان الناصر محمد أراد إضافة بعض الوقف إلى قطعة أرض له من أوقاف الظاهر بيبرس، وأراد الفتوى في ذلك فعارضه القضاة، ما أغضبه فعزل بعضهم.صدامات بين الأئمة والسلاطين
لم تسر علاقة السلاطين بفقهاء المذاهب على وتيرة واحدة من الوفاق، وشابها بعض الصدامات بين الحين والآخر، أبرزها ما شهدته دمشق عام 699هـ عندما رغب الحنابلة في تطبيق حدود الشرع على المماليك المخالفين لأوامر الدين ونواهيه بأنفسهم. وروى سلام أن ابن تيمية صحب جماعة من الناس فدار بهم على الخمارات والحانات فاعتدوا عليها وعلى أهلها، دون الرجوع إلى السلطان ولا رجاله، فأودع الفقيه السجن مدة طويلة. وعاود ابن تيمية الدعوة إلى ذلك بالقاهرة فسجن مرة أخرى، ثم ثالثة بدمشق وظل مسجوناً حتى مات. واقعة أخرى رواها ابن حجر حدثت بالقاهرة في النصف الثاني من شهر شعبان عام 714هـ كان بطلها الفقيه نور الدين علي بن يعقوب البكري الذي ثار بعدما استعار النصارى قناديل جامع عمرو بن العاص وعلقوها في مجمع بالكنيسة المعلقة، فأخذ معه طائفة كبيرة من الناس، وهاجم الكنيسة وشتم كبار الأقباط ممن يتولون المناصب. واستدعى السلطان محمد بن قلاوون الفقيه الشافعي وعقد له مجلساً من قضاة المذاهب الأخرى، وفي المجلس وصف البكري السلطان بالحاكم الجائر، فما كان من الأخير إلا أن طلب من ابن مخلوف القاضي المالكي توقيع عقوبة عليه، لكنه رفض وقال "لم يقل شيئاً يوجب عقوبته".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.