"يا أهل السنّة... إياكم أن تضعوا السلاح فإن تضعوه هذه المرة فلَتستعبدون لدى الروافض ولن تقوم لكم قائمة بعدها... الروافض لا يجدي معهم الحلم ولا ينفع معهم السلم"، قال المتحدث باسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، الشيخ أبو محمد العدناني مهدداً بإعادة مسلحيه إلى المناطق التي كان قد انسحب منها تحت الضغط. تعليقاً على تهديده، قال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن عودة القاعدة إلى حيث كانت قد طُردت كـ"عشم إبليس في الجنة".
إمارة الفلوجة الإسلامية
الحرب الدائرة حالياً في محافظة الأنبار العراقية هي وليدة مسارين يتقاطعان بشكل يُصعّب عملية الفصل بينهما. الأول، هو شنّ الجيش العراقي عملية عسكرية واسعة ضد تنظيم القاعدة في المحافظة. الثاني، يرتبط بالصراع على السلطة، فالأنبار تشهد توتراً بين جزء كبير من أهاليها وبين السلطة المركزية كان قد أفضى إلى تنفيذ العشائر اعتصاماً مفتوحاً، منذ كانون الأول 2012، في مدينة الرمادي، مركز المحافظة، للمطالبة بوقف ما تعتبره سياسات تهمّش السنّة.
في ظرف الحملة على القاعدة، اعتبر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن ساحة الاعتصام "تحوّلت إلى مقرّ لقيادة القاعدة". الأحداث الجارية أخذت بعداً دراماتيكياً مع اعتقال القوات الأمنية العراقية النائب أحمد العلواني، أحد أبرز الداعمين لاعتصام الأنبار، في عمليّة كانت تهدف إلى اعتقال شقيقه، علي، المتهم بدعم الإرهاب. في هذا المناخ المتوتّر أزالت الشرطة المحلية خيم الاعتصام فاندلعت اشتباكات بين العشائر المؤيدة للاعتصام وبين قوات الشرطة في مدينة الرمادي. انسحبت قوات الشرطة من مراكزها وتمكّن مسلحون تابعون لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، من الدخول إلى بعض أحياء مدينة الرمادي وإلى الفلوجة معلناً الأخيرة ولاية إسلامية وداعياً أهلها إلى "الوقوف إلى جانبنا ضد جيش المالكي الإيراني الصفوي".
أمام هذه المستجدّات، انقسمت العشائر. في الرمادي، تدور معارك قاسية بين داعش وبين عشائر مناوئة للقاعدة. هنا، تمتلك العشائر التي تشكل جزءاً من "الصحوة" نفوذاً واسعاً. أما في الفلوجة فالوضع الميداني غير واضح. البعض يتحدث عن سيطرة "داعش" على المدينة. البعض الآخر يقول إنه تم تشكيل مجلس لإدارة المعركة يضم وجوهاً عشائرية ورجال دين وممثلين عن جماعات مسلحة كانت تعمل مع "قوات الصحوة" وأخرى تنتمي إلى القاعدة ولكنها لم تبايع أمير "داعش" أبا بكر البغدادي وإن مقاتلي "داعش" موجودون ويقاتلون في نفس الجبهة مع مسلّحي العشائر المعارضة ولكنهم لا يسيطرون على المدينة لا بل أنهم يأتمرون بتعليمات المجلس المذكور.
حتى الآن، يتمركز الجيش العراقي خارج المدينتين وهناك يقوم بحشد قواته. كل القوى السياسية السنّية، المتحالفة مع الحكومة المركزية والمعارضة لها، تفضّل حلّ الأزمة دون تدخّل الجيش لأن هناك خلافاً وطنياً حول تركيبته فالبعض يسميه "ميليشيات المالكي".
أمام هذا الواقع، أمر المالكي بوقف عمليات قصف الجيش للفلوجة ووجّه نداء إلى عشائرها طلب منهم فيه "طرد الإرهابيين من المدينة حتى لا تتعرض أحياؤها إلى أخطار المواجهات المسلحة". رئيس الوزراء قال: "لا نريد لهذه المدينة أن تعاني أبداً ولن نستخدم القوة ما دامت العشائر تعلن استعدادها لمواجهة القاعدة وطردها". في المقابل، دعا الناطق باسم التنظيم أبو محمد العدناني، في تسجيل صوتي، الجنود وعناصر الشرطة وقوات "الصحوة" إلى تسليم أسلحتهم إلى مقاتليه وهدّد بـ"تدمير المدينة على رؤوس سكانها" في حال ألقوا سلاحهم. تعقّدت الأمور: إما تنجح العشائر أو سيدخل الجيش. في الحالتين لا حلّ بلا معركة حاسمة.
حرب اقليمية على "داعش"
ليست صدفة أن تتزامن الحملة العراقية على الإرهاب في محافظة الأنبار مع بدء حملة عسكرية ضد فرع التنظيم في سوريا. منذ مدة و"داعش" تقوّي تواجدها في صحراء الأنبار ذات التضاريس الصعبة وتعتمدها كقاعدة تنطلق منها إلى سوريا وإلى المحافظات العراقية القريبة. للمحافظة أهمية استراتيجية فهي تقع على الحدود العراقية ـ السورية (طولها 600 كلم) وهي ممرّ إجباري بين بغداد وسوريا وهذا يعطي لـ"داعش" ميزات استراتيجية تجعلها قادرة على اللعب في ساحتين مختلفتين.
الحملة العراقية على الإرهاب بدأت من أماكن قريبة من الحدود السورية وشاركت فيها مروحيات هجومية. المستشار الإعلامي لوزارة الدفاع، الفريق الركن محمد العسكري، أكد أن "المعلومات والصور الجوية المتوفرة لدينا تفيد بوصول أسلحة ومعدات متطورة من سوريا إلى صحراء الأنبار الغربية وحدود محافظة نينوى" وتحدث عن إحياء القاعدة بعض معسكراتها التي كانت القوات الأمنية العراقية قد دمّرتها بين العامين 2008 و2009. العسكري أشار إلى أن "هناك صور ومعلومات استخباراتية تشير إلى أنه كلما حدث ضغط على الجماعات المسلحة في سوريا، انسحبت إلى العراق لتفعيل دورها وإعادة تنظيم صفوفها ومن ثم القيام بعمليات إرهابية في البلدين".
كل المعطيات تشير إلى تنسيق أميركي عراقي سبق الحملة العراقية. قبل أيام من بدئها، سلّمت الولايات المتحدة العراق 75 صاروخاً هجومياً موجّهاً من طراز "هيلفاير". صحيفة "نيويورك تايمز" كشفت أن هذه الصواريخ أرسلت لضرب أهداف محدّدة هي "معسكرات المتمردين" في صحراء الأنبار. هذه المعلومات ليست سرية. المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي علي الموسوي أكّد أن "الجيش العراقي استخدم في حملته في صحراء الأنبار صواريخ وصلت مؤخراً من أميركا".
الدعم الأميركي لم يقتصر على مدّ القوات العراقية بالمعلومات والسلاح. وزارة الخارجية الأميركية أكدت فور بدء الحملة العراقية أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام فرع من تنظيم القاعدة الذي هو عدو مشترك للولايات المتحدة وجمهورية العراق، ويشكل تهديداً لمنطقة الشرق الأوسط الكبير"، وأضافت التزام أميركا "بالمساعدة في تعزيز القوات العراقية في معركتها المستمرة ضد الدولة الإسلامية". في البيان نفسه، تحدثت الوزارة عن ارتباط الساحتين السورية والعراقية حين اعتبرت أن المقاتلين الأجانب الذين يتدفقون إلى سوريا "يقوم الكثير منهم لاحقاً بتنفيذ تفجيرات انتحارية ضد مدنيين أبرياء في العراق".
المواقف الأميركية الداعمة تتالت. المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية ماري هارف، أكدت أن تنظيم القاعدة هو "تهديد مشترك" و"عدو مشترك" وأن المعركة هي "معركة مشتركة". "هذه معركة أكبر من أن تكون في العراق وحده"، قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري. بعد أخذ الاشتباكات أبعاداً أخرى، بقي الدعم الأميركي ثابتاً وصار يُرفق بنصيحة تحث "على مواصلة العمل مع الزعماء على المستوى المحلي والعشائري والوطني"، كما لفت نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في اتصال أجراه مع المالكي اعتبر فيه أن العراق يقوم بحرب "ضد الإرهاب العالمي".
إلى المواقف الأميركية، أضيفت مواقف إيرانية تؤكد استعداد إيران على مساعدة العراق في حال طلب ذلك ومواقف من إقليم كردستان تؤكد جهوزية البشمركة للمشاركة بالعمليات العسكرية التي تنفذها القوات العراقية في صحراء الأنبار. وفي الوقت نفسه شدّدت الأردن من الإجراءات الأمنية على مثلث الحدود الأردنية ـ السورية ـ العراقية. إذن هي حملة "دولية" على "داعش" تهدف إلى التخلص من هذا التنظيم الذي صار يزعج لاعبين عدّة. أميركا تمتعض منه لأنه يجبرها على اللعب معه في ساحتين. إيران تريد التخلص منه لدعم النظام السوري. المالكي يقضي على مصدر تهديد للأمن العراقي ويحقق، على الهامش، مكاسب سياسية داخلية.
على هامش المعارك
على هامش المعارك التي تتمتع بغطاء دولي، قام المالكي بإزالة اعتصام الرمادي. الاعتصام نُفّذ أساساً ضد حكومة المالكي ولمطالبة الحكومة المركزية بتنمية المحافظات السنّية وبوقف ما يعتبره المعتصمون تمييزاً رسمياً بين السنّة والشيعة. إلى ذلك، يطالب المعتصمون بمحاسبة ميليشيات شيعية مسؤولة عن القتل والتهجير في بغداد وديالى، وبإطلاق سراح معتقلين احتجزوا لأسباب احترازية دون صدور مذكرات قضائية بحقهم.
أهم مطالب المعتصمين هو إلغاء قانون المساءلة والعدالة (القانون الذي حلّ محلّ قانون اجتثاث البعث) وإلغاء ما يعرف بالمادة "أربعة إرهاب" في القانون العراقي، التي يعتبرون أنها تستهدف العرب السنّة وأن المالكي يستغلها لتصفية خصومه السياسيين بما أنها تسمح للقضاء بالتوسّع في تفسيرها. هذه المادة "الفضفاضة" يعود تشريعها إلى العام 2005، وتنص على إعدام مرتكبي ومخططي وممولي العمليات الإرهابية (لا تعرّف الإرهاب بدقة) وبالسجن المؤبد لمن يتستر على الإرهابيين، وقد شكّلت القاعدة القانونية لصدور الأحكام القضائية بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ما سبّب أزمة سياسية حادة لا تزال مفاعيلها مستمرة. مجموع مطالب المعتصمين يتكلّل بالدعوة إلى استقالة المالكي.
تسلسل الأحداث أحدث ربطاً بين الحملة على الإرهاب وبين ملفات سياسية داخلية معقّدة. على الساحة الشيعية، يعاني رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من تراجع ملحوظ في شعبيته أمام تقدّم يحققه كلّ من الزعيمين عبد العزيز الحكيم ومقتدى الصدر. في المقابل، ترفض القوى السياسية العربية السنّية رؤية المالكي مجدداً في مركزه على عتبة استحقاق الانتخابات البرلمانية التي ستجري في أبريل القادم. حرب الأنبار وتداخل الملفات سيجبر معارضي المالكي الشيعة على التضامن مع سياساته وسيعيد العراقيين إلى ذات الوضعية السياسية التي كانت سائدة عام 2010. من هنا، فإنه من مصلحة المالكي تضخيم التهديد الآتي من الأنبار.
حين اعتبر المالكي أن اعتصام الأنبار تحوّل إلى مقرّ للقاعدة، خرج مقتدى الصدر محذراً من أن تكون "تهديداته محاولة لتصفية حسابات طائفية مع أهل السنة وتأخير موعد الانتخابات" داعياً الحكومة إلى "الحوار مع المتظاهرين السلميين بدل تهديدهم بالقمع". بعد فض الاعتصام وتطور الأمور ضاقت المساحة التي تمكّن معارضي المالكي الشيعة من انتقاده. مؤخراً، اعتبر ممثل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في كربلاء، أحمد الصافي، أن "مساندة قوات الأمن مهمة وطنية... والدليل على ذلك هو أن جميع مكونات الشعب العراقي تقف اليوم مع القوات المسلحة وأبناء العشائر في مطاردتهم الإرهابيين". ولكن، في الحقيقة، هذا "الدليل" ضعيف فمجريات الأمور أسفرت عن معارضة جزء كبير من المجتمع السنّي لتوسّع العملية العسكرية إلى داخل المدن.
بعد ساعات من فض الاعتصام وبدء الاشتباكات، أعلن رئيس مجلس النواب العراقي أسامة النجيفي انسحابه من "وثيقة الشرف الوطني" بسبب تنصّل رئيس المالكي من الالتزام ببنودها. الوثيقة المذكورة، التي تم التوصل إليها في أيلول الماضي، تدعو إلى "معالجة الخلافات التي قد تستجد أو تحصل في المشهد السياسي بشكل توافقي". كذلك، أعلن 44 نائباً ينتمون إلى قائمة "متحدون"، التي يتزعمها النجيفي، استقالتهم معتبرين أن ما يجري هو "حرب السلطة والامتيازات السياسية" وليس حرباً ضد الإرهاب. رجل الدين البارز الشيخ عبد الملك السعدي وجّه رسالة إلى أهل الفلوجة قال فيها: "أنتم يا أهل الفلوجة الأبطال والمدن الأخرى هبوا، واقطعوا الطريق أمام المعتدين حقناً لدماء العراقيين، ولا تتركوا إخوانكم في الميدان، لأن المالكي يريد إبادة الجميع بذريعة الإرهاب، وليجعل من ذلك دعاية انتخابية له".
المواقف الحادة تناسلت. المجمع الفقهي العراقي لكبار علماء الدعوة والإفتاء في العراق دعا "ممثلي السنّة إلى الانسحاب من جميع الالتزامات بما فيها وثيقة الشرف بعدما أثبت رئيس الحكومة أنه لا يحترم عهوده ومواثيقه". نائب رئيس الجمهورية الملاحق طارق الهاشمي طالب دول الخليج بدعم "الوطنيين" للتخلص من "خطط وضعها المالكي وإيران لإشاعة الفوضى". القيادي في ائتلاف "متحدون" أثيل النجيفي هدد بتدويل قضية "مظلومية السنة وانتهاك حقوقهم في العراق"...
تداخل الحرب على الإرهاب مع طبيعة المجتمع الأنباري العشائري ومع مطالب السنّة السياسية عقّد المسألة كثيراً. الآن، عاد الوضع في الفلوجة إلى ما كان عليه عام 2004. داخلها مسلحون يرفعون السلاح لأهداف مختلفة ولكنهم ينسقون في ما بينهم، وخارجها يحشد الجيش العراقي قواته (عام 2004، كانت القوات أميركية). تعقيدات الأزمة تشير إلى صعوبة التوصّل إلى حلّ. فإن كان ممكناً التوصل مع العشائر إلى حلّ يقضي بطردها مسلحي "داعش" منها، إلا أن الأخيرة تهدّد بتدمير المدينة فوق رؤوس أبنائها إن ألقوا السلاح! إذاً الحرب ستقع إما على الفلوجة أو داخل الفلوجة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 10 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 11 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت