29 يوليو 2014: أطل أبو بكر البغدادي من مسجد النوري الكبير في الموصل، متشحاً بالسواد ومتزيناً بساعة "الرولكس" الشهيرة، ليعلن نفسه "خليفة المسلمين" في العراق وسوريا، بينما كان علم "الدولة الإسلامية" يرفرف أعلى مئذنة المسجد المعروفة بـ"منارة الحدباء" (التي اتخذت الموصل منها صفة لها).
وهكذا، إلى جانب أهميته التاريخية، اكتسب "النوري" الكبير شهرة فريدة، بسبب استضافته الإطلالة العلنية الوحيدة للبغدادي, فضلاً عن تحوله إلى مركز الثقل في "عاصمة الخلافة".
29 يوليو 2017: أعلنت القوات العراقية بأجواء نصر احتفالية سيطرتها على جامع النوري، لما لسقوطه من دلالات بالغة الرمزية في تحرير الموصل من "داعش"، بعد انطلاق معركة "دقت ساعة الحدباء" قبل أشهر، وتحديداً في 17 أكتوبر العام 2016.
طوال النهار استمرت المعارك في المدينة القديمة في الموصل حتى التحرير الكامل، لكن السيطرة على المسجد كانت كافية لإعلان "سقوط دولة الخرافة"، بحسب وصف المتحدث باسم العمليات المشتركة العراقية يحيى رسول، وبدء التحضير لـ"بيان النصر".
وكان التنظيم قد أقدم قبل أسبوع على تفجير منارة الحدباء التاريخية، مثيراً حملة استنكار دولية رأت في هذه الخطوة مجرد محاولات يائسة للدفاع في وجه تقدم القوات العراقية ودلالة على الخسارة الوشيكة للتنظيم في الموصل. حينها اعتبر رئيس الوزراء حيدر العبادي التفجير بمثابة "إعلان الهزيمة".
"ساعة النصر" وصراع المصالح
بين الحدثين، مرّت ثلاث سنوات بالتمام والكمال. أيامها ولياليها كانت شاهدة على فصول الرعب والظلم التي عاشها المدنيون على يد التنظيم. يترك التنظيم الموصل اليوم وفيها دماء آلاف من سقط منها ولأجلها، وفيها المقابر الجماعية وحالات الاختفاء والسبي التي لا تُحصى… يتركها كذلك عرضة لتخبط المصالح العراقية - العراقية وتلك الإقليمية ناهيك عن الدولية. فالمشاركون في العملية كانوا كثراً، على اختلاف مصالحهم، بدءاً من التحالف المشترك مروراً بتركيا وإيران وصولاً إلى الحشد الشعبي والبشمركة. اشترك هؤلاء في هدف معلن وهو دحر "داعش"، لكنهم اختلفوا في خلفيات المشاركة في المعركة، ويختلفون بالتالي في استثمار نتائجها والاستفادة منها. تنفع العودة هنا إلى مواقف كل طرف مع انطلاق معركة التحرير ليُبنى عليها مقتضى التعامل مع نتائجها. حين شدد الأتراك على ضرورة مشاركة القوات التركية في عملية الموصل، عبروا عن خوفهم من نتائج المعركة والسيطرة الشيعية (الحشد الشعبي) على منطقة سنية الهوية، كما أصروا على ضرورة مشاركتهم في المفاوضات التي تعقب العملية. في المقابل، أبدت بغداد حساسيتها من مشاركة أنقرة. حينها كذلك، أكد الحشد الشعبي عدم تنسيقه مع قوات التحالف، في وقت خرجت أخبار كثيرة عن انقسامات في الولاء والتبعية داخل صفوف الحشد. أما البشمركة، أكبر القوات الكردية والتي تلقت دعماً أمريكياً في مواجهة داعش، فقد تخوفت قياداتها من مشاركة الحشد وما ستجره من "تعاظم للدور الإيراني".ماذا بعد "التحرير"... إنسانياً؟
عند بدء المعركة، قبل حوالي تسعة أشهر، استعرت حرب مذهبيّة على مواقع التواصل الاجتماعية. ازدحمت الاتهامات بين من يحمّل الحشد الشعبي مسؤولية إبادة "الإخوان السنة" معتبراً أن الحرب ظاهرها دحر داعش بينما باطنها فضرب السنة، في مقابل من أبدى حماسته للمعركة التي سيأكل فيها العراقيون لحم "السنة الإرهابيين". شكل الجانب الإنساني خلال المعركة وبعده هاجساً لكثر. بحسب خبر وكالة "فرانس برس" اليوم لا يزال نحو مئتي ألف مدنيين محتجزين في الموصل القديمة كدروع بشرية، في حين تخوفت "يونيسف" على مصير حوالي مئة ألف طفل جراء المعارك. وكانت الأمم المتحدة قدرت هروب 10 آلاف مدني مطلع الشهر الحالي، في حين خرج حوالي 750 ألف منذ أكتوبر الماضي.ولا تنحصر المخاوف حول الوضع الإنساني بفترة المعارك فحسب، بل أيضاً بما سيكون عليه واقعهم بعد انتهاء المعارك. كما يطرح المتابعون السؤال حول آلية حماية المدينة من السقوط بيد داعش مجدداً في المستقبل. في المقابل، تبرز المخاوف من هوية الجهة التي ستسيطر على الموصل وما إذا كان سيحصل انتقام من الطرف السني الغالب في المدينة، في إشارة إلى الحشد الشعبي والطرف الإيراني.فصول الرعب والظلم التي عاشها المدنيون على يد داعش تنتهي اليوم… سقطت دولة الخلافة
عسكرياً وسياسياً؟
تُعدّ الموصل، وهي مركز محافظة نينوى في شمال العراق، ثاني أكبر المدن العراقية بحسب وزارة التخطيط التي تعدّ السكان بثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة أغلبهم من السنّة. لطالما كانت حاضنة لجميع مكونات الشعب العراقي، من عرب وكرد وتركمان، مسلمين ومسيحيين وأيزيديين وشبك. أثارت سيطرة "داعش" على الموصل في العام 2014 جدلاً واسعاً باعتبارها سقطة عسكرية كبرى، لما تمثله من حلقة ربط بين تركيا وسوريا. وهي أساساً كانت قد حملت الاسم لأنها تصل بين الشام وخورستان الكردية. في عهد صدام حسين، كانت تُعرف بمدينة الضباط في الجيش العراقي، لكثرة أعداد من انتسبوا منها إلى الجيش، ومع الغزو الأمريكي قام الآلاف منهم بمقاتلة القوات الأمريكية قبل أن يتمكن تنظيم "القاعدة" من جذبهم. من هنا، يتخوف المراقبون ممن سيتبقى على أطراف الموصل من المتعاطفين مع داعش والمعادين للقوات العراقية، محذرين من قدرتهم على إثارة القلاقل مستقبلاً. وحذرت "بي بي سي" من إمكانية اندلاع معركة أخرى في المستقبل، فالإهمال الذي عانته المدينة من قبل الحكومة عمّق فيها الصراع الطائفي وجعلها هشّة أمام سيطرة داعش بعدما استقطبت كثراً ممن يشعرون بالغبن في ظل الواقع العراقي المتردي.وعند سؤال أحد المسؤولين العراقيين عن احتمالات عودة مناصري داعش للتحرك مستقبلاً في المدينة، أجاب قائلاً "ممكن... في العراق دائماً ثمة معركة أخرى". كما لفتت هيئة الإذاعة البريطانية إلى تحديات أخرى تتمثل بالصراع المتوقع على النفوذ بين تركيا وإيران، إضافة إلى تلويح الأكراد بالاستفتاء على الاستقلال في سبتمبر المقبل. بدوره يشير الباحث السياسي مانويل ألميدا إلى الجانب السياسي متناولاً دور العبادي باعتبار أنه من الطبيعي لرئيس الوزراء العراقي أن يكون على علاقات طيبة بإيران، في المقابل يشير إلى دور السعودية في مستقبل الموصل، ناقلاً ما قاله العبادي لوزير خارجيتها عادل الجبير عن ضرورة مشاركة الرياض في مرحلة إعادة بناء الموصل. وأكد ألميدا على أهمية التنسيق بين السلطات العراقية والسعودية لما في ذلك من ضمان في ضبط القبائل العراقية السنية. على خط آخر، يقول الكاتب العراقي أمين ناصر لرصيف22 إن الأنظار تتوجه اليوم إلى معركة تلعفر، التي تشكل حساسية لتركيا باعتبارها الحديقة الخلفية للتحركات التركية ونقطة ارتكاز القواعد العسكرية. ويلفت ناصر، نقلاً عن القيادي في الحشد الشعبي هادي العامري، إلى الخشية في المرحلة المقبلة كذلك من "العناصر المنفلتة" في الحشد، ومعظمهم مرتبط بايران. فبينما يدعو العبادي الحشد إلى الانضمام للقوات العراقية، قد تخرج أطراف لتعلن عدم امتثالها وتطبيقها لأجندات أخرى. كما يشير ناصر إلى الدور الأمريكي والقواعد العسكرية وإلى الدور الإيراني بوجود استشاري للحرس الثوري، كما إلى صراع القيادات الأمنية العراقية والاستقلال الكردي وتحديات كثيرة أخرى. برأيه، يُفترض في المستقبل أن تسلم الموصل لأهلها بعد إنشاء مجلس محلي وفقاً للدستور العراقي، لكن ذلك دونه إحراءات كثيرة كتطهير المدينة والبحث عن المقابر الجماعية وكشف مصير المفقودين والسبايا، والبت في ملف النفط... وسط كل هذه التحديات، تنبغي الإشارة إلى أن الاحتفال المعتاد بسقوط "داعش" عبر قتل رموزه أو استعادة المناطق منه، يبقى منقوصاً طالما أن التطرف أصبح ثقافة ونمط حياة، في ظل استمرار وجود التربة الخصبة التي أدت لنشوئه... وتمدده.مخاوف من هوية الجهة التي ستسيطر على الموصل وإذا كان سيحصل انتقام من الطرف السني #نهاية_داعش
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...