قد لا تكون مرحلة ما بعد داعش مرحلة استقرار في المناطق العراقية المحررة وفي المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق، نظراً لما تختزنه تلك المناطق من توترات وصراعات تتضح ملامحها يوماً بعد يوم.
ومن المناطق الساخنة التي يرجح البعض انفجارها في لحظة ما، المناطق التي يتجاور فيها الحشد الشعبي الشيعي مع قوات البيشمركة الكردية.
هاتان القوتان موازيتان للجيش العراقي، شُكّلت الأولى على أساس عقائدي مذهبي، والثانية وفق مبادئ قومية. وإن كانتا حاجتين لظرف معين، فكل منهما تمتلك عصبية قوية مرتبطة بمشروع خاص، وقد يتصادم المشروعان في لحظة ما، خاصة أنهما يستمران في التوسع والتسلح.
من هي البيشمركة؟
معنى "البيشمركة" في اللغة الكردية هو (الفدائي). بدأت ملامح البيشمركة تظهر للعلن بداية ستينيات القرن الماضي عندما حمل الأكراد السلاح ضد الحكومة العراقية آنذاك وأخذوا من الجبال مكاناً يلوذون به من الهجمات الحكومية التي شُنّت عليهم.
لكن البيشمركة ليست موحدة، فهي تنقسم إلى قسمين، بيشمركة تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وبيشمركة تابعة للاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس العراقي السابق جلال طالباني.
في فترة رئاسة صدام حسين لجمهورية العراق، اشتد الصراع بين نظام البعث والبيشمركة. ولكن في التسعينيات، تقاتلت البيشمركة في ما بينها، في الحرب الأهلية الكردية، وتحالفت بيشمركة بارزاني مع صدام لكسب معركة النفوذ داخل المناطق الكردية، بعدما ناشده بضرورة مساعدته في مواجهة مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني.
عندما تمتع الإقليم الكردي عام 2005 بحكم ذاتي، أصبحت البيشمركة وزارة في حكومة الإقليم، وهي أشبه بوزارة الدفاع، لكنها ما زالت تنقسم إلى قسمين بشكل غير رسمي، واحد قاعدته أربيل ويتبع البارزاني وآخر قاعدته السليمانية ويتبع الطالباني.
من هو الحشد الشعبي؟
بعد سيطرة تنظيم "داعش" على مدينة الموصل في العاشر من يونيو 2014، أصدر المرجع الديني في مدينة النجف السيد علي السيستاني فتواه الشهيرة التي سُميت بفتوى "الجهاد الكفائي" في الثالث عشر من الشهر نفسه.
أُسس الحشد بشكل تطوعي على أساس محاربة تنظيم "داعش"، لكن بعد عام ونصف العام على تأسيسه أصبح للحشد قانون صوّت عليه مجلس النواب العراقي، وسُمي بـ"هيئة الحشد الشعبي"، وصار قوة رسمية ترتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة.
لكن على الحشد خلافات كبيرة، داخلية ودولية، فهناك مَن يعتبره قوة وطنية ساهمت في الحرب ضد الإرهاب، وهناك مَن يعتبره ميليشيا لديها أجندات طائفية ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان.
ينقسم الحشد إلى قسمين، وربما أكثر إذا ما بحثنا في خباياه بشكل أعمق. بشكل عام، قسم من فصائله يتبع السيد السيستاني، وقسم آخر يتبع المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، وأتباعه جميعهم من مقلدي ولاية الفقيه.
مناطق ساخنة تنذر بمواجهات بين الحشد الشعبي الشيعي وقوات البيشمركة الكردية
علاقة الحشد الشعبي ببيشمركة طالباني جيدة كونها قريبة من إيران ولكنها متوترة مع بيشمركة البارزاني
لماذا الخلاف بين البيشمركة والحشد؟
عندما أعلن الحشد الشعبي قبل أيام بدء عملياته لتحرير عدد من القرى التابعة لأبناء الديانة الأيزيدية في ناحية القيروان بمحافظة نينوى، طلب رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني من قوات البيشمركة الكردية عدم السماح للحشد بدخول المناطق التي يسكنها الأيزيديون باعتبارهم أكراداً.
أوحى كلام بارزاني بأن هناك صراعاً سيحدث في تلك المناطق بين الحشد الشعبي والبيشمركة، لكن هذا لم يحدث، ويبدو أنه أجّل.
في المقابل، قالت قيادات في الحشد إنها "لن تسمح باستقطاع أي جزء من مدينة الموصل".
"الحشد ليس لديه خلاف مع البيشمركة، ولا نتوقع أن يكون هناك أي تصادم معه، لكننا لدينا ثوابت وطنية نعمل وفقها، ولا نُريد أن يستغل البعض الحرب ضد الإرهاب لتحقيق مكاسب فئوية"، قال أحمد الأسدي، المتحدث باسم الحشد الشعبي لرصيف22، في إشارة إلى التوسع الجغرافي للإقليم الكردي.
واعترضت قيادات في الحشد في مناسبات مختلفة على ما اعتبرته محاولات بارزاني لضم مناطق سنجار وسهل نينوى للإقليم الكردي.
بدوره اتفق الأمين العام لوزارة البيشمركة الكردية جبار ياور مع ما ذهب إليه الأسدي، لكنه عد الصدام الأخير (قصف من الحشد على البيشمركة) في قضاء سنجار الذي يسكنه الأيزيديون "أخطاء يُمكن تجاوزها".
وقال الياور لرصيف22 إن "البيشمركة قوة تُحارب الإرهاب، ولن تكون جزءاً في الحرب بين العراقيين أو قوة لتهديد الآخر، بل هي قوة تبعث الاطمئنان وتدحر الظلام".
إلا أن ما تحدث به الأسدي والياور يُخالف ما حدث ويحدث على الأرض. ففي الثاني عشر من مايو 2015، كانت محافظة ديالى المتاخمة للحدود الإيرانية، شاهداً على القتال الذي دار بين الطرفين.
في ذلك اليوم حاولت قوات البيشمركة الكردية حفر خندق بين منطقتي السعيدية وجلولاء، ويسيطر الحشد على الأولى والبيشمركة على الثانية، وهذا ما رفضته القوة المسيطرة على السعيدية، مما أنتج اشتباكاً قُتل فيه خمسة من مقاتلي الجانبين.
وبعد الأيام العشرة الأولى من شهر نوفمبر 2015، شهد قضاء طوزخورماتو الذي تسكنه الغالبية التركمانية ويتبع محافظة صلاح الدين، مواجهات مستمرة بين الحشد والبيشمركة أسفرت عن جرح ومقتل العشرات من الطرفين المتصارعين.
علل المواجهات آنذاك ملا كريم شكور، المسؤول عن قوات البيشمركة الكردية في طوزخورماتو، بأنها بسبب "تزايد القوات الشيعية في القضاء".
ورد الأمين العام لعصائب أهل الحق، إحدى فصائل الحشد، قيس الخزعلي بالقول إن "الحشد لن ينسحب من القضاء وسيُعزز وجوده هناك".
هذه الصدامات وقعت بين الحشد الشعبي والبيشمركة المرتبطة بحزب مسعود البارزاني. أما البيشمركة المرتبطة بحزب جلال طالباني، فهي أكثر مرونة في التعامل مع الحشد، ولم تدخل في تصادم إعلامي أو ميداني معه.
وعلاقة الحشد الشعبي ببيشمركة الاتحاد الوطني هي ضمن مشتركات علاقة الطرفين الإيجابية بطهران، فحزب طالباني يرتبط بعلاقة إيجابية وطويلة مع إيران، بالإضافة إلى الحدود الجغرافية المباشرة من السُليمانية إلى إيران. وتلقى طالباني دعماً من طهران أثناء الحرب الأهلية الكردية والمعارك ضد نظام صدام حسين أيضاً.
"خلال زيارتي إلى السليمانية، سمعت أحد أبرز المسؤولين في حركة التغيير (حركة منشقة عن حزب طالباني) يقول إنه في السليمانية وحدها يملك العملاء الإيرانيون 700 منزل آمن"، قال ديفيد بولوك وهو زميل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وهذا وحده يؤكد مدى النفوذ الإيراني الكبير في السُليمانية.
العلاقة الإستراتيجية بين الأحزاب الشيعية ونظيراتها الكردية والمشتركات التي كانت بين قادة الجانبين في فترة حكم نظام صدام حسين للعراق، هي التي تُطفئ فتيل الأزمة كلما اشتعلت، لكن يبقى السؤال: هل لأوراق إطفاء النيران أن تصمد أمام كل هذا السعير؟
يستبعد اللواء المتقاعد، مستشار المركز الأوروبي للدراسات الأمنية، عماد علو "حصول مواجهات مسلحة واسعة النطاق بين الحشد الشعبي والبيشمركة في المناطق القريبة من تلعفر وسنجار".
وقال لرصيف22: "تحرص قيادة العمليات المشتركة على أن تكون ساحة عمليات الحشد بعيدة عن ساحة عمليات البيشمركة، وسوف تدفع بقوات الجيش إلى تلك المناطق لاستكمال تحريرها تجنباً لأي احتكاك أو تصادم مسلح بين الطرفين، وكذلك لتجنب الاعتراضات التركية".
وأشار علو إلى أنه "ليس من مصلحة الطرفين الدخول في مواجهات مسلحة، على الأقل في الوقت الراهن".
مواجهات نارية بين الحشد والبيشمركة
في 26 يناير 2017، قصفت قوات من الحشد الشعبي مواقع تابعة للبيشمركة في قضاء سنجار الذي تُسيطر عليه القوات الكردية، وهذا ما فاقم العلاقة غير المستقرة بين الطرفين.
وهدد قائد في البيشمركة ويُدعى علاء الدين رسول، بأن الرد سيكون عنيفاً إذا ما كرر الحشد الشعبي هجماته على مقارّ البيشمركة، وفي الوقت نفسه هدد القيادي في عصائب أهل الحق جواد الطليباوي بشن هجمات على البيشمركة في نينوى لإخراجها منها في حال طلب ذلك القائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي.
وأضاف الطليباوي الذي يُعتبر أحد قادة الفصائل في الحشد الشعبي في تصريحاته الصحافية: "الحشد الشعبي لن يتردد في شن عملية عسكرية خاطفة ضد قوات البيشمركة في حال رفضت الانصياع للأوامر التي تؤكد على خروجها من تلك المناطق".
ويعتبر بعض النواب الأكراد الحكومة الاتحادية منحازة للحشد على حساب البيشمركة، فعضو لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي شاخوا عبد الله قال إن "الحكومة الاتحادية لا توفر المستحقات المالية لقوات البيشمركة من الميزانية، في حين أنها تقدم دعماً مالياً سخياً لميليشيات الحشد الشعبي".
وذكر مصدر في إعلام وزارة البيشمركة الكردية لرصيف22 أن "هناك أكثر من حادث تصادم بين البيشمركة والحشد لكن شخصيات سياسية مرتبطة بالجانبين تحل الأمر خلال ساعات، وهذا مؤشر إيجابي".
مناطق الصراع بين الطرفين
تُعتبر منطقة سهل نينوى وسنجار من المناطق التي يُريد إقليم كردستان ضمها إليه. في المقابل، يرفض الحشد الشعبي والحكومة الاتحادية أن تستقطع البيشمركة تلك المناطق، برغم مشاركتها فيها لتحررها من داعش.
ففي قضاء سنجار، حاول الحشد خلال الأيام الماضية وضع قدم له عندما حرر عدداً من قرى الأيزيديين لكسب ثقتهم واستمالتهم على حساب خلق فجوة بينهم وبين البيشمركة المسيطرة على معقلهم الأساسي.
ويتحدث الأيزيديون عن خيانة قامت بها قوات البيشمركة الكردية عندما انسحبت من قضاء سنجار وهو معقل الأيزيديين، دون أن تواجه تنظيم داعش الذي اقتحم القضاء، لكن بارزاني حاول قدر الإمكان احتواء هذا الغضب من خلال الزج بمقاتلين أيزيديين في البيشمركة.
أما في سهل نينوى، فهناك الحشد الشبكي التابع للأقلية الشبكية ومرتبط بشكل مباشر بالحشد الشعبي، وهذا قد يكون بدايةً لصراع ميداني مع البيشمركة. فإن كان الأكراد يزعمون بأن الشبك من أبناء قوميتهم، فإن هذه المجموعة مرتبطة بالحشد الشعبي وتتعامل وفق مبادئ مذهبية ترفض سيطرة الأكراد على مناطقهم.
في مقال له، قال الباحث في شؤون الجماعات المتطرفة هشام الهاشمي إن "الخوف من صراع المنتصرين في مرحلة ما بعد داعش أحد أهم الأسباب التي تواجه عودة النازحين، وما يحدث من صراع في سهل نينوى وفي جنوب كركوك وفي سنجار بداية قد لا تكون لها نهاية منطقية أو قانونية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...