حاولت الباحثة في مجال العلوم زاريا غورفيت التعمّق في عادات المبدعين اليومية، لتناقش تأثيرها على الدماغ وبالتالي على قدراته، وحازت عادات ألبرت أينشتاين على الحيّز الأكبر من اهتمامها.
وعلى اعتبار أن دماغ "أب النسبية" كان بوصلة العلماء لدراسة الذكاء وأشكاله ومسبباته منذ وفاته في العام 1955 ولا يزال، رأت غورفيت أنه يمكن لعاداته أن تخبر شيئاً عن مدى ارتباط التفاصيل اليومية التي يمارسها الشخص بالتفكير العبقري.
وهكذا، أحببنا ذلك أم لم نحبه، فلعاداتنا اليومية تأثير كبير على الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا، حسب غورفيت.
أسرار العباقرة وعاداتهم: فرقعة أصابع، أمفيتامين، عذرية…
عُرف عن المخترع والفيزيائي وعالم الكهرباء نيكولا تيسلا أنه كان يقوم يومياً بفرقعة أصابع رجليه، مئة مرة لأصابع كل قدم. لم يأخذ تيسلا حقه في عالم الكهرباء كتوماس إديسون، إلا أن ما تركه في هذا العالم يشكل جزءاً أساسياً لا يتجزأ منه.
وبحسب ما أورده الكاتب مارك ج. سايفر في كتابه عن تيسلا، لم يكن واضحاً ما تنطوي عليه آلية فرقعة الأصابع بالضبط، لكن الفيزيائي الصربي - الأمريكي كان يؤكد أنها تساعده على تحفيز خلايا دماغه.
الأمفيتامين كان عادة عالم الرياضيات المجري بول إيردوس لتحفيز دماغه. عُرف عن إيردوس، الذي نبغ مبكراً في الرياضيات وبلغت بحوثه ما يقرب الـ1600 بحثاً، بأنه كان غريب الأطوار يتنقل بحقيبته بين منازل أصدقائه وطلابه.
أدمن القهوة مطولاً حتى قال إن "الرياضي هو آلة تحويل القهوة إلى نظريات رياضية". في الإطار، وفي سياق موضوع عن "مصدر الإلهام"، كانت مجلة "نيويوركر" قد شرحت كيف يساعد تناول الكافيين الجزء الخاص بالتحليل في العملية الإبداعية، لكنها في المقابل قالت بأنه يعرقل الجزء الخاص بالإلهام.
كيف ذلك؟ تعزز القهوة التركيز مقابل أنها تعطل القدرة على التفكير بشكل واسع ومستفيض. من هنا، أشارت المجلة إلى أن وقت تناول القهوة عامل مهم وحاسم، إذ يمكن تطويعها لصالح الإلهام عن طريق اختيار الوقت المناسب لتناولها.
بعد القهوة، انتقل إيردوس إلى تعاطي الأمفيتامين الذي ساعده كما يقول على الاهتمام بنظرية الأعداد والطرق الاحتمالية وتقديم الكثير من الإثباتات في نظرية الأعداد.
عندما شارطه أحد أصدقائه على مبلغ 500 دولار للتوقف عن الأمفيتامين لمدة شهر كامل، ربح إيردوس الشرط لكنه اشتكى إليه قائلاً "لقد أعدت الرياضيات شهراً كاملاً إلى الوراء".
بدوره، كان إسحق نيوتن يتفاخر بحسنات العزوبيّة. عندما توفي في العام 1727، كان قد غيّر نظرتنا وفهمنا للعالم تاركاً وراءه 10 ملايين كلمة على شكل ملاحظات، بينما كان لا يزال في حالة العذرية. والجدير ذكره أن تيسلا كذلك كان أعزباً، بينما ادعى في إحدى المراحل أنه قد وقع في حب حمامة.
…وحظر الفاصولياء
هكذا نرى أن أصحاب أكثر العقول إبداعاً وبراعة في التاريخ كانوا كذلك غريبي الأطوار والعادات بشكل عجيب. من قانون الحظر لدى فيثاغورس إلى حمامات بنجامين فرانكلين العارية.
في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية"، يذكر برتراند راسل بعض القواعد التي جاءت في مذهب فيتاغورس ومنها:
1- الامتناع عن أكل الفاصولياء
2- عدم التقاط ما يسقط أرضاً
3- عدم الإمساك بديك أبيض
4- عدم كسر الخبز
5- عدم التسلق من فوق حاجز
6- عدم تحريك النار بالحديد
7- عدم أكل رغيف كامل
8- عدم نزع الزهر من الأكاليل
9- عدم الجلوس فوق مكيال
10- عدم أكل القلب
11 - عدم المشي في الطريق العامة
12- عدم السماح للعصافير أن تبني أعشاشها في المنزل.
أما فرانكلين، العالم والمخترع وأبرز مؤسسي الولايات المتحدة، فعُرف بتفضيله الاستحمام عارياً في الهواء الطلق.
ليست قصة جينات بل عادات؟
تقول غورفيت إن العادات هي أكثر من معلومات سطحية، فالعلماء بدأوا يدركون على نحو متزايد أن الذكاء لا يعتمد على الحظ الجيني بالقدر الذي كنا نعتقده. بحسب آخر الدراسات، تلعب البيئة المحيطة 40% من تشكيل ما يميز الدماغ في مرحلة البلوغ.
وهكذا يصبح لعاداتنا اليومية أثراً بالغاً في تشكيل الدماغ وتغيير الطريقة التي نفكر بها. وتقترح غورفيت دراسة عادات أينشتاين، فـ"من بين كل العقول العظيمة التي مرت في التاريخ، يمكن القول إن أينشتاين كان سيّد الجمع بين العبقرية والعادات اليومية غير العادية".
لقد علمنا أينشتاين الكثير عن الطاقة والذرات، وعليه، ربما يمكنه تعليمنا شيئاً حول تحقيق أقصى استفادة من أدمغتنا، سواء في نظام النوم أو النظام الغذائي وحتى خيارات الموضة.
10 ساعات من النوم... وقيلولة
من المعروف أن النوم مفيد للدماغ، ويبدو أن أينشتاين كان أكثر من أخذ الأمر جدياً. بحسب ما نُقل عنه، فقد كان ينام بحدود عشر ساعات على الأقل يومياً، ولكن هل حقاً يحل النوم المشاكل؟
أجاب الكاتب جون ستينبك مرة عن الأمر قائلاً "إنها تجربة مشتركة تؤكد أن المشكلة التي يصعب حلّها ليلاً يمكن النجاح في حلها نهاراً بعد أن تعمل عليها اللجنة المكلفة بالنوم (أي بعد أخذ القسط الوافي من النوم).
عندما شارطه صديق للتوقف عن الأمفيتامين لشهر ربح إيردوس الشرط لكنه قال إن الرياضيات عادت شهراً إلى الوراء
تقول الباحثة إن أكثر نظريات أينشتاين تأثيراً في البشرية تبلورت في حالات لا وعيه (كما حصل مع حلم البقرات والمزارع والبطارية)، وتذكر بعدد من الدراسات عن دورات النوم المختلفة بين مرحلة النوم الخفيف ومرحلة النوم العميق ومرحلة النوم المرتبطة بالأحلام المعروفة بنوم حركة العين السريعة الذي يفيد في ترسيخ الذكريات الإجرائية والذكريات المكانية.
وقد بقيت مرحلة النوم الأخيرة غامضة لفترة طويلة، وكثرت حولها النظريات، بينما يقول الطبيب ستيوارت فوغل إنها تحتل 60% من نومنا، وكلما ازدادت فترة نومنا كلما طالت تلك المرحلة.
ومن المثير للفضول أن من يحظون بفرصة الاستفادة من مرحلة النوم الأخيرة يميلون للتمتع بـ"ذكاء انسيابي" أكبر يتيح لهم القدرة على حل مشاكل جديدة وعلى استخدام المنطق في المواقف الجديدة وعلى التمييز بين الأنماط المختلفة، وهو نوع الذكاء الذي تميز به أينشتاين بشكل كبير. مع العلم أن هذا الأمر والاستفادة منه تختلف بين الرجال والنساء وبين الظروف المختلفة.
كما كان أينشتاين يستفيد من القيلولة النهارية، وبحسب ما يُروى عنه كان يقوم بها وهو يحمل في يده ملعقة، ما يضمن له عدم الاستغراق مطولاً فيها، فعندما يغط في النوم ترتخي عضلاته فتسقط الملعقة من يده ويساعده صوت ارتطامها أرضاً على الاستيقاظ.
نعم للمشي والمعكرونة والغليون ولا للجوارب
كان المشي مقدساً بالنسبة لأينشتاين، وكان يقوم بجولته يومياً في جامعة برنستون حيث يعمل. مع العلم أن داروين كان يحافظ على العادة نفسها إذ يمشي لمدة 45 دقيقة يومياً. والمشي بالنسبة لأينشتاين لم يكن بدافع اللياقة البدنية بقدر ما هو عامل محفز للذاكرة والإبداع وحل المشاكل.
أصحاب أكثر العقول إبداعاً وبراعة في التاريخ كانوا غريبي الأطوار والعادات بشكل عجيب... ما العلاقة بين إبداع إينشتاين وعدم ارتدائه للجوارب؟
كما يعتقد العلماء أن أينشتاين كان من محبي المعكرونة فقد أجاب عندما سُئل عن أكثر ما يحبه في إيطاليا بالقول "السباغيتي وعالم الرياضيات ليفي تشيفيتا".
كما كان مدخناً شرهاً للغليون، إذ يُروى أن سحابة الدخان كانت ترافقه مثلها مثل نظرياته. وقال هو نفسه عن الموضوع بأن التدخين يساعده على "الحكم الهادئ والموضوعي إلى حد ما في جميع الشؤون الإنسانية". حتى أنه كان يجمع أعقاب السجائر من الشارع، ويأخذ ما تبقى فيها من تبغ ليحشو بها غليونه.
ولا يمكن ختم الحديث عن عادات إينشتاين بعدم ذكر نفوره العاطفي من الجوارب. في إحدى الرسائل التي كتبها يقول "اكتشفت أن الإصبع الكبير ينتهي دائماً بتمزيق الجوارب، لذلك توقفت عن ارتدائها".
كان ثمة نظريات كثيرة حول التحرر من قيود الملابس والإبداع، ولكن ليس ثمة دراسة موثقة حول الرابط بين إبداع إينشتاين وعدم ارتدائه للجوارب.
ما حدث في العام 1955
باتت قصة سرقة دماغ أينشتاين شديدة الشهرة، فالطبيب الأمريكي توماس هارفي الذي كان مكلفاً بتشريح جثته قرر سرقة "أعظم دماغ شهدته البشرية لكشف أسرار العبقرية".
قصة الدماغ وحفظه شغلت العلماء لعقود طويلة، تعرض هارفي على إثرها لضغوطات كبيرة وتغيرت حياته بشكل دراماتيكي، لكن ما قام به أتاح مساحة مفتوحة لدراسات معمقة حول ذلك الدماغ وتميزه، وما إذا كان مركباً بشكل مختلف عن الأدمغة الأخرى.
وكما شكل أينشتاين بوصلة في دراسة وظائف الدماغ كذلك تشكل عاداته مرجعاً، من دون أن يكون ثمة إجابات واضحة عن أهميتها وتأثيرها.
في المحصلة، يمكن القول عن لسان أينشتاين نفسه، في إحدى مقابلاته، إن "المهم هو عدم التوقف عن التساؤل. الفضول له سببه الخاص للوجود".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.