شاعر عامية في غابة

شاعر عامية في غابة "دار العلوم"... كغزال في عرين أسد

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 23 ديسمبر 202514 دقيقة للقراءة

بإرادة حرة اخترت دار العلوم، لم أكنْ أعرف أني دخلت عَرين الأسد بقدميَّ، فأنا شاعر العامية، وهم دُروع الفصحى وملوك غابات اللغة، مَنْ خالفهم افترسوه بظفر وناب. لم يكن الشعر هوايةً منذ أول سطر كتبته في مراهقتي، حينها قررتُ أن أصبح شاعراً مما دفعني للاتحاق بدار العلوم.

ماذا بعد التخرج؟ لم يكن هذا السؤال مهماً حينها، مما جعلني جاهلاً تمام الجهل أن الكلية تمنح خريجيها شهادة تسمى: "ليسانس اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية"، وهي - بالنسبة إلي – لا تعني غير الأدب والشعر والبلاغة والنقد، ولا شيء آخر.

أحلامٌ طائرة ارْتَطمتْ بزجاج دار العلوم

في عام 2014، وقفت أمام المبنى بحماس وشَوق للمشاركة في الندوات الشعرية التي تُنظمُها الكليةُ، وقراءة قصائدي - باللهجة العامية - ولقاء أساتذة الأدب والنقد، والاستماع إلى تعليقاتهم. في أولى المحاضرات جلستُ بين الطلاب أخبرتُ أحدهم أني شاعر، فجأة.. بدأ قراءةَ أبيات من الشعر الرديء بالفصحى التراثية، وكانت المفاجأة الأولى أن هذا الخراء من كتاباته. والثانية هي ردُ فعلهِ عندما عَلِم أني أكتبُ بالعامية وليس الفصحى.

تهكمَ وسخرَ قبل أن يسمعَ شيئاً، وطَلبَ مني التوقف: "عامية ايه وأنت درعمي، سِيبك الكَلام الفَارِغ ده، كُلْ الدكاترة هنا ضد العامية، ويلا نصلي الضُهْر".

لم أهتم برأيه، بخاصة عندما نصحني بقص شَاربي: "زي باقي الإخوة كده، بلاش تبقى زي اليهود والنصارى". قلتُ هذا التافه لا يمثل إلا نفسَه، فهذه الكلية كانت المحطة الأولى للشعراء: محمود حسن إسماعيل، وفاروق شوشة، وأحمد بخيت، وقد اسْتَحْسنَ الشاعر إيهاب البشبيشي نية الْتحَاقي بالكلية عندما أخبرْتُه بها خلال الثانوية، وفي اليوم ذاته شجعني الشاعر حاتم الأطير على ذلك قبل أن يقدمني للبشبيشي، وكل هذه الأسماء أهم عندي من آراء مليون شاب سَلفي مجتمعين على قَلْب رجل واحد.

إنهم يحرِقون أغْصانَ العامية وقصيدةِ النثرِ

لم يمرَ أكثر من يوم حتى تَصدّعَ جدارُ عزيمتي الذي رممْتُهُ بالأمس. أحدُ الأساتذة نَهَرَ طالباً بعدما طلبَ مواصلة المحاضرة بالعامية، حينها أخبره الأستاذُ أن "اللغة العربية تموتُ في كل مكانٍ وتحيا في دار العلوم، هذا شعارنا، فكيف تُريدُ أن ننطقَ العامية هنا؟"، هكذا اتضحتِ الأمورُ، حمدتُ اللهَ أن الأستاذَ لا يعرف عني شيئاً وانصرفتُ إلى صديقي الشاعر محمد إسماعيل، فقد عرفتُه قبل مرحلة الجامعة عبر "Facebook" وكان في السنة الثالثة، وأخبرني أن الرأي السائد هنا: "ضد شعر التفعيلة وقصيدة النثر أصلاً، ده بيقدسوا التراث، يبقى هيعملوا مع العامية ايه!".

بإرادة حرة اخترت دار العلوم، لم أكنْ أعرف أني دخلت عَرين الأسد بقدميَّ، فأنا شاعر العامية، وهم دُروع الفصحى وملوك غابات اللغة، مَنْ خالفهم افترسوه بظفر وناب. لم يكن الشعر هوايةً منذ أول سطر كتبته في مراهقتي، حينها قررتُ أن أصبح شاعراً مما دفعني للاتحاق بدار العلوم

حينها فقدتُ ما تَبقى من الأمل وأعددتُ نَفْسي لخوض المعارك، ضد الجمود، على جَبهتيّ قتال "ما يتعلق بالآراء الدينية والأدبية".

كانتْ أولى المواجهات التي خَرجتُ منها منتصراً ضد طالب يكتبُ الشعرَ العمودي، سَلَفِي مُتعصب للدين وللشعر القديم. عَرفتُ أن الكليةَ تعقدُ جلسات أدبية لمناقشة قصائد الطلاب، بإشراف أساتذة متخصصين في الأدب والنقد تحت مسمى "جماعة الشعر". فكان اللقاء الأول مع شعراء الكلية.

عندما قرأتُ أول جملة في قصيدتي، أوقفني الشابُ معترضاً: "العامية ماء عَكر يجب أن لا يقترب من الفصحى". سألتُه عن شعراء العامية الذين قرأ لهم، فأشار إلى أني لم أفهم عبارته السابقة عن الماء العكر، حينها عَرفت أنه جاهل يَرفض شعراً لا يعرف عنه شيئاً، أخبرتُه بذلك صراحة دون مجاز أو كناية، وختمتُ المحاضرةَ التي ألقيتُها على وجهه بأنه لا يتحدثُ عن الماء العَكِر إلا من يَشربُه يومياً، ولا أعرف لماذا صُدم ولم ينطق.

معاركُ خاسرة دفاعاً عن الحداثة... لا ناقةَ لي فيها ولا جمل

لم تكنْ هذه المعركة الأخيرة في "جماعة الشعر"، ولا أقول معركة من باب المبالغة، فقد بلغتْ الصراعات حول الدين والأدب حد التشابك بالأيدي والتراشق بالألفاظ مع الزملاء الذين ينتمون إلى التيار السلفي الأصولي، فَهُم يُحَرّمون علينا ما نقول في قصائدنا، وينكرون شعر التفعيلة والعامية وقصيدة النثر، ويرفضون الحداثة بحجة أنها تهدف إلى هدم ومحاربة الإسلام والأدب الإسلامي المحافظ، وضد الفسق الذي يخرج من قصائدنا. ولا أعرف هل الفسق في شكل القصيدة أم المضمون؟!

لقد حاولنا أن تصبحَ "جماعة الشعر" مساحةً حرةً لكل الآراء وجميع أنواع وقوالب الأدب، بخاصة العامية وقصيدة النثر، وهذه الأخيرة التي تسبّبتْ في حُصولي على (صفر) في اختيار شَفَوي للتحليل الأدبي والبلاغي.

قرأتُ قصيدةً نثر أمام الأستاذ المُمْتَحن، وكانتْ لزميلي في العام الدارسي ذاته عبد المنعم الذي دخلَ اختبَارَهُ بأبيات من الشعر الجاهلي وهي مساحة آمنة، واخترتُ (أنا) قصيدتَهُ فلم تَلق قَبُولَ الدكتور، ولم يعجبه موقفي من هذا الشعر، وضاعَ الوقتُ في نقاشٍ عَقيم، وقد أفسدتُ اختبارَ صديقي الروائي محمد السعيد جمعة الذي دخل معي، فخرجتُ ألْعَنُ "عبد المنعم" وقصيدته، وألْعَنُ رغبتي في تغييرِ العالم، فهذه حربُ لا ناقةَ لي فيها ولا جمل، وخرج السعيد يلَّعَنُ الجميع.

بدأتْ الأنشطةُ خاليةً من العامية، صُدِمْتُ بإعلان الكلية عن مسابقة لشعر الفصحى فقط، وحفظ القرآن والأحاديث، فصَرفْتُ نظري عن الكلية وتوجهتُ إلى مسابقة الجامعة، حصلتُ على المركز الأول في شعر العامية. ورشّحَتْني الجامعةُ دون عِلم الكلية للمشاركة في مسابقة لطلاب الجامعات المصرية.

عندما قرأتُ أول جملة في قصيدتي، أوقفني الشابُ معترضاً: "العامية ماء عَكر يجب أن لا يقترب من الفصحى".

حينها تواصل معي مُشرِفُ الأنشطةِ الذي أدخلني إلى عرين الأسد ذاته، وسَلَّمني إلى أحد ملوك غابة دار العلوم مُقيدَ اليدين. أخبرني أنه أرسلَ قصيدتي إلى أحدِ الأساتذة لكتابة تقرير نقدي ويجب أن أذهبَ لإحضار الأوراق منه، سألتُه مَنْ الأستاذ، نَطقَ الاسمَ فشعرتُ أني تَلقيتُ صَفعةً على وَجهي وأذني معاً بكف واحدة.

العاميةُ في عَرين أسد النحو والصرف

أنهى الموظفُ المكالمةَ بعدما نطقَ اسم الدكتور أحمد كِشْك، أستاذ النحو والصرف وأحد عُمداء الكلية السابقين، شعرتُ بغصة في قلبي ومرارة في حلقي، وقلتُ في نفسي: "هتخانق معاه إزاي ده!".

وقفت أمام مكتبه وقررت ألا أفصحَ له عن نفسي، فهو لا يعرف وجهي ولا يعلم من صاحب القصيدة التي أظنُه بَصَقَ عليها ـ فهي عامية ـ وقد يفهمُ أني مجرد طالب أرسلَهُ الموظف ولا علاقة لي بالشعر. دخلتُ المكتبَ، قلتُ له: "أنا جَاي من رعاية الشباب أخدْ وَرق المسابقة".

وجدته مبتسمًا مُرحباً لطيفاً متواضعاً، أعجبني هذا الرجل وتمنيتُ أن أكشف له عن نفسي ولكن عندما مَدَّ الأوراقَ أخذْتُها وقفزْتُ خارج المكتب قبل أن يسألني عن اسمي أو علاقتي بالموضوع. هكذا فَر الوعلُ من الأسدِ.

خارج المكتب، تفقدتُ الأوراقَ، فقرأتُ تعليقًا يَمدحُ القصيدةَ وجماليات تخص شعر العامية، وقعتْ عيني على جملة: "هذا مَدخلٌ جميل مُوفق وسَلِس للقصيدة، يُدرك خفةَ العامية"، لم أكمل التقرير لنهايته حتى لم أقرأ جملته الأخيرة: "قصيدة جميلة تستحق التقدير لها ولصاحبها". لم أتردد لحظة، طرقتُ البابَ مرة أخرى، قال: "اتفضل، محتاج حاجة"، شكرتُ له ما كتبَ عن القصيدة، وأخبرُته أني صاحبها. صاحَ فرحاً: "طيب مش تقول، ده أنت شاعر جميل يا راجل".

أخذَ أستاذُنا الأوراقَ ووجَّهَ حديثَه لمجموعة من الأساتذة في مكتبه قائلاً: "اسمعوا الشاعر ده كتبْ ايه". قرأ الأستاذُ مَقْطعاً من قصيدتي وأثْنَى عليها: "العامية حاجة جميلة، ولازم ترتقي بلغتك وتكون غير مبتذلة لأن ده الشعر، واللي كتبته ده شعر راقي، استمر عليه".

خرجتُ من المكتب وحاولتُ إقناعَ نفسي أن ما حدثَ حقيقةً، حينها رأيتُ وجهاً آخر لدار العلوم. فهذا رأي لم يخرج من طالب أو مُعيد، إنما هو رأي أستاذ كبير.

قَابَلتُ أستاذاً يَستَحقُ لَقَبَه

اصطحبني زميلي الشاعر محمد إسماعيل إلى مكتب أحد الأساتذة وأخبرني أنه شاعر فصيح وناقد كبير، ترددتُ قليلاً وقلتُ لنفسي: "لا بأس أن تدافعَ عن العامية بأدب هذه المرة حتى لا تعود إلى البيتِ مفصولاً". جَهزْتُ حُجتي ودفاعي واستعدَ لساني. وصلنا مكتب الدكتور أحمد بلبولة أستاذ الأدب وعميد الكلية الحالي، ولم أكنْ أعرفُ أن مرحلةً جديدةً في حياتي بدأتْ للتو من هذه الغرفة. لم أجد منه غيرَ محبة بالغة وجمالاً وشعراً وحياة وحيوية.

بلغتْ الصراعات حول الدين والأدب حد التشابك بالأيدي والتراشق بالألفاظ مع الزملاء الذين ينتمون إلى التيار السلفي الأصولي، فَهُم يُحَرّمون علينا ما نقول في قصائدنا، وينكرون شعر التفعيلة والعامية وقصيدة النثر، ويرفضون الحداثة بحجة أنها تهدف إلى هدم ومحاربة الإسلام

أثْنَى الدكتور "أحمد" على قصيدتي وشجعني على الكتابة. لم يذكر العامية بسوء، فهو لا يقف مُعادياً لأي نوع أدبي كغيره من النقاد أو الأساتذة فلا يرفض قصيدةَ النثر، ولا التفعيلة، هو حداثي ومثقف حقيقي، يَمتلكُ رؤيةً واسعةً للأدب وللإسلام، يكتبُ الشعرَ العمودي والتفعيلي، ويَهتمُ بقصدة النثر ولا يعادي روادها، ففي السنة الرابعة درَّسَنا قصائد أدونيس الذي يراه كثيرون كافراً مُخرباً للأدب، واستضاف الشاعر رفعت سلام في ندوة بالكلية، وعَقَدَ مناقشات عن قصائد حلمي سالم وعبد المنعم رمضان.

لقد وقعتُ في حب هذه الشخصية التي لم أر مثل جمالها، واقتربتُ منه حتى صار أبي الثاني وأخي الأكبر، فهو النبيل الكريم الجميل، متفتح الوعي الذي علمنا كيف نقرأ جمال الحياة بعين شاعرٍ حقيقي وبروح مثقف موسوعي.

دفعني هذا الأستاذ دفعاً إلى حب الشعر ومواصلة الكتابة؛ لأن العامية شعر لا يقل جمالاً ولا أهمية عن الفصحى ولا يهدم حصونها كما يعتقدون.

قدمني لقراءة قصائدي خلال أكبر ندوات الكلية، وفي حضور أهم الشعراء على رأسهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. وكان الدكتور أحمد من أوائل الذين احتفلوا بديواني الأول في قلب دار العلوم، فعقد ندوةً لمناقشته مع ديوان للشاعر شريف أمين وشاعر آخر.

لم تكنْ رعايةُ أستاذنا تشملني وحدي، فقد رعى مجموعة من المواهب منهم: الشعراء محمد إسماعيل، عبد المنعم شريف، يونس أبو سبع، محمد طايل، حسان البربري، نور نادر، والروائي محمد السعيد جمعة. وهم جميعًا على الساحة الأدبية بعد عشر سنوات.

فريسةٌ بين ضَبْعَين

لم تَسر الأيامُ في دار العلوم على هذه الحال. في أحد الأيام اصطحبني مدرس مساعد في قسم الأدب إلى غرفة المُعِيدين. كانتْ علاقتي به طيبة، وقد وجدتُ منه تقديراً ومحبةً. أظن أنه لا يحتقر العامية، وليسَ رَجعياً فقد عاد للتو من بعثته إلى ألمانيا، لذلك اعتقدتُ أنه سيجلسني مع من لا يوافقونه الآراء والقناعات، فلم أُجَهّزْ عُدَّتي لهذه المعركة، وأُخِذتُ غَدراً.

لقد وضعني بين أساتذين مساعدين كلاهما شاعر. طلبَ أحدُهُم أن أقرأ قصيدةً، وعندما انتهيتُ اتفق الاثنان أن هذا ليس شِعراً، ولا يسَتحق أن يُوصفَ بالشعر إلا ما كتبَه القدماءُ، أما الشعر منذ أحمد شوقي يجب أن يُوصف (بالشعر الحديث) حتى لا يختلط بالشعر القديم (الحقيقي)، فهذا في منزلة والحديث في دونها.

اصطحبني زميلي إلى مكتب أحد الأساتذة وأخبرني أنه شاعر فصيح، جَهزْتُ حُجتي ودفاعي ولم أكنْ أعرفُ أن مرحلةً جديدةً في حياتي بدأتْ للتو ولم أجد منه غيرَ محبة وجمالاً.

لا يخفَى أن هذا التعريف يُنْكرُ قيمةَ وأهميةَ الشعر الحديث. فهو لا يعجبه المستوى اللغوي المعاصر، ويُعيب التخلي عن تقاليد القصيدة القديمة.

أذكرُ أني صُدمتُ بهذا الرأي خصوصاً أنهما شاعران، فكيف يرى كلُ واحد نفسه! وهلْ يَكْتُبَا شعراً جاهلياً أم عباسياً! نصحني أحدُهُم بعنف أن أعودَ إلى دراسة النحو والصرف: (وبَلَاشْ كلامْ فَارغْ)، أو الانصراف عن الشعر لأن العامية عَار إذا كتبها من ينتسب لدار العلوم وكذلك قصيدة النثر.

كانتِ الصدمة شديدةً فلم أحسن الردَ، خرجت من المكتبِ بوجه يَغلي. كيف يعيشُ الرجلان بهذه الآراء؟ ألم يَسْمعا عن تطور الأدب وعصوره المختلفة وتطور لغته ذاتها عن القديم؟ وهذا أمر طبيعي في حياة كل اللغات.

لا مكان للعامية في عيد دار العلوم الأقدس

إن كان أهم عيدين للمسلمين هما الأضحى والفطر، فاليوم العالمي للغة العربية هو عيد المسلمين الثالث في دار العلوم، فكلُ عام تستعدُ له الكلية باحتفاليات تليق به، وكانت برامج هذه الندوات خالية من اسمي طوال وجودي في الكلية (ليسانس وماجستير) باستثناء مرة واحدة حين كنتُ في السنة الثالثة.

قدمني مُقِدم الندوة لقراءة قصيدة، ومع أول جملة سَمِعْتُ صَوتاً يقول: "شاعر عامية في دار العلوم، وفي يوم اللغة العربية، دي مصيبة"، فإذا بها شاعرة تجلس متصدرة المنصة. حاولتُ تجاوزَ الموقف ولكن بدتْ مُنزعجةً وأرادتْ ألا أكمل القصيدة، طلبتُ منها الاستماعَ لكنها أظهرتْ انزعاجاً كأن خنزيراً دنَّسَ الحَرمَ.

نظرتُ إلى الدكتور أيمن ميدان الذي يجلسُ بجوارها، وأشرتُ أني أهتم برأيه، فهو أستاذ كبير في الأدب العربي، فكان ردُ فعله مُشجعاً وأعجبْتُه القصيدة حتى أنه التقط ثلاث صور بهاتفه لي ولزميليَّ عبد المنعم شريف ويونس أبو سبع أثناء قراءة الشعر، ونشر الصور على حسابه عبر فيسبوك معبراً عن احتفائه بثلاثة شعراء في دار العلوم، أحدهم يكتبُ العاميةُ. وقد عرفتُ في ما بعد اهتمامه بالأدب الشعبي وشعر العامية والأغاني باللهجة الدارجة، فهو عقلية مُنْفَتحة يَكْرَهُ التَعصبَ والرجعيةَ.

تَرددَ اسمُ الناقد الدكتور أحمد درويش كثيراً أمامي، حتى أخبرنا الدكتور أحمد بلبولة أنه سيعقدُ ندوةً ضيفُها الدكتور درويش. هذه المرة لم أفكر كيف ستكون المواجهة، وتمنيتُ ألا أشارك، فقد سمعت أنه يكره قصيدة النثر ولا يعترف بها، ولكن ما حدث كان مفاجأة سعيدة فقد انتصر درويش لقصيدتي وأي قصيدة عامية أخرى إذا جاءت موزونة وسليمة دقيقة، حيث علق: "هذه قصيدة عامية جميلة ومقبولة، لأنها مُوَقَّعَة، وهي أهم منْ كل ما كُتِبَ تحت مُسمى قصيدة النثر".

لا أريدُ أن أقفَ عند الجملة الأخيرة بإعجابٍ وفخر، ربما قالَ أستاذُنا ذلك ليَدْفع الشبابَ الحاضرين للتمسك بعروض الشِّعرِ الأوزان، وليس انبهاراً بما أكتبُ مقارنةً بقصيدةِ النثرِ، ولكن على أي حال لم يناصب الرجل شعرَ العامية عداءً، وقد أشارَ في الندوة ذاتها إلى إعجابه بأغنيات الشاعر حسين السيد التي كَتَبَها بالعامية المصرية. أما موقفه من قصيدة النثر فهذا رأيه الخاص الذي نحمل له الاحترام والتقدير، فهو صاحب بصيرة مستنيرة، ويكتب عن تطوير وتجديد اللغة العربية.

دار العلوم ليستْ رأي رَجلٍ واحدٍ

بعد هذه التجربة عَرفتُ أنه كلما اتسعتْ ثقافةُ الإنسانِ اتسعتْ رؤيتُه للجمالِ حتى إن بدأ طريقه تقليديًا، فلن يقفَ مُعاديًا لأي جنسٍ أدبي أو فن، أو يغلق عقله على رؤية أدبية أو نظرة دينية. لم يكنْ كلُ أساتذة دار العلوم على عداء مع قصيدة النثر، وأذكر الدكتور أبو اليزيد الشرقاوي الذي كتب ثلاث دراسات عن قصيدة النثر، وقد هاجمه كثير من الأساتذة المحافظين، وأفسدوا له ندوة عن شعر عبد المنعم رمضان في دار العلوم.

كذلك لم يكن الجميع ينكر شعر العاميةـ رغم أنه لا يُدرس مقارنة بكلية الآداب ـ فقد ناقش الدكتور أحمد بلبولة ديواناً لشاعر العامية حسان البربري في ندوة خارج الكلية. وكتبَ الناقدُ الأستاذ الدكتور عادل ضرغام عميد دار علوم الفيوم سابقاً مقالاً نقدياً عن ديواني الأول "زمار الحي" ونشره في مجلة الثقافة الجديدة، كما ناقش الديوان في أمسية في بيت الشعر العربي بالقاهرة، مع الناقد الأستاذ الدكتور محمد عليوة أستاذ البلاغة والنقد والأدب المقارن بالكلية، وتحدثَ كلُ واحدٍ منهما بكلام طيب عن العامية.

كثيراً ما تحدث الدكتور "عليوة" في محاضراته الممتعة عن شعر العامية وخاصة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي يحفظُ أبياتاً من شعره ويذكرها في المحاضرات، وكذلك يُحسن أداء بعض الأغنيات بالعامية المصرية بصوتِه الجميل العذب، ويُنْشد الشعرَ بصوت حَسن، فيجعل المحاضرة حفلاً علمياً ممتعاً. فهذه دار العلوم بين الانفتاح والانغلاق، وكلٌ لا يمثل إلا نفسَهَ!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image