لماذا لا يملّ المصريون من الأفلام القديمة؟

لماذا لا يملّ المصريون من الأفلام القديمة؟

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 13 ديسمبر 202510 دقائق للقراءة

قيل في الأمثال إن "من فات قديمه تاه"، و"القديمة تحلى ولو كانت في الوحلة"! وجزء من ثقافة المصري الاحتفاظ بالقديم وعدم التخلص منه، ولكن هناك كثير من المصريين يتعلقون بالأفلام القديمة، وخاصة من تخطوا سن الأربعين و الخمسين، ولا سيما أفلام الفترة الممتدة من أربعينيات القرن الماضي حتى بداية الثمانينيات.

ماضٍ جميل حتى العصابة فيه في منتهى الأناقة

بالنسبة لهؤلاء المغرمين بأفلام الماضي، مشاهدة فيلم قديم هي حالة من النوستالجيا لماض كان أكثر أماناً ورحابة ونظافة وجمالاً، حيث الشوارع شديدة النظافة والخضرة تحيط بكل شيء والسيارات قليلة، والفيلاهات أكثر من البنايات، وملابس الأبطال في أناقة عظيمة، لدرجة أن أفراد العصابة كانت ترتدي بذلات أنيقة بأربطة عنق! تلك الأفلام تعيد إحياء الذكريات عند أجيال عاشت فترات من طفولتها في زهو هذا الماضي، والمشاهد الذي يشاهد عملاً للمرة المائة سيذهب تركيزه للاستمتاع ليكتشف في كل مشاهدة شيئاً جديداً يزيد من متعته.

مستوى معيشة أفضل

نجد سهير رمزي (ليلى زيدان) في فيلم "ثرثرة فوق النيل" (1971) تدخر المال لكي يصل إلى ثلاثة آلاف جنيه حتى تمتلك شقة على النيل في حي الزمالك، أرقى أحياء مصر وقتها، بينما هذا المبلغ لا يكفي اليوم لتأجير شقة في نفس الحي لمدة يوم واحد! مثل هذه الأمثلة على التفاوت بين أسعار الماضي والحاضر تحدث حالة من الأسى على الماضي الذي رحل، كما أنها تحمل أيضاً نوستالجيا لذلك الماضي الذي كان كيلو اللحمة فيه لا يتجاوز الـ68 قرشاً.

ففي فيلم "على باب الوزير" (1982) نجد الجزار حلاوة العنتيلي يأخذ كيلو اللحمة من المجمعات الاستهلاكية بسعره الـ68 قرشاً ليبيعه بأربع جنيهات، بينما وصل سعر كيلو اللحم هذه الأيام إلى 500 جنيه. وفي فيلم "أم العروسة" (1963) يشتري أبو العروسة عماد حمدي غرفة نوم كاملة بـ100 جنيه فقط!

ولعل أغنية الطفلة فيروز البديعة (معانا ريال) في فيلم "ياسمين" ( 1950) الذي تستعرض فيه بخفةٍ البضائعَ الكثيرة التي ستشتريها بالريال يعكس هذا الرخاء مقارنة بحاضر تدنت فيه القوة الشرائية للجنية، وابتلع التضخم أحلامَ عدةِ طبقات اجتماعية في العيش في مستوى لائق وكريم.

أفلام تنتصر للخير والحب والتماسك الأسري

ينتصر الخير في معظم الأفلام النوستالجية على الشر، ويتجاوز الحب كلَّ العقبات والمصاعب، بل يقدَّم كحلٍّ للتغلب على الفوارق بين الطبقات؛ فالغني يتزوج من الفقيرة والعكس، والطلاق والخيانة والتشرذم والأنانية وانفراط عقد الأسرة، هي أمور مدانة في هذه الأعمال.


التماسك هو المنتصر، وحتى إن حدث شرخ في الأسرة فسرعان ما يعود الزوجان، ويلتئم شمل الأسرة من جديد، وهو أمر مفتقد هذه الأيام.

الحكومة تحتشد لإنقاذ مواطن بسيط

في فيلم "حياة أو موت" (1954) تقف أجهزة الداخلية على أصابعها لمنع وصول دواء فيه سم قاتل إلى مواطن بسيط يعيش في حي فقير بعد أن أخطأ الصيدلي في التركيبة. فهل يتمتع الأمن الجنائي بنفس درجة الاهتمام بالأمن السياسي الآن؟ وهل أثر ذلك على أمن المواطن؟ حيث انتشرت ظواهر كالسرقات والتحرش والبلطجة والفوضى المرورية. عكَسَ هذا الفيلم حالة من الأمان المجتمعي والاهتمام بحياة المواطن ربما يفتقدها كل مواطن اليوم.

حرّيات أكبر

تقبل المجتمع في الماضي مشاهد الحب والقبلات والرقص والمايوهات والاستعراضات، ولم يكتب على تلك الأفلام "للكبار فقط"، ولكن هذه الأفلام المنتجة طوال فترة الثلاثينيات وحتى بداية الثمانينيات تعرضت في مراحل لاحقة لرقابة إضافية جديدة، حيث أخذ الرقيب الجديد يحاول تفصيل الأفلام على التغييرات التي حدثت في المجتمع المصري، وانتشار مفهوم "السينما النظيفة" أي التي تخلو من التقبيل ومشاهد الرقص!

هذا الأمر يعكس فداحة التحول والتأثر بقيَم شكلانية على حساب مجتمع يتميز بالبساطة والتسامح والتحرر منذ عصور الحضارة المصرية القديمة حتى مطلع الثمانينيات. ناقشت أفلام الماضي الذهبي قضية الإيمان والإلحاد، والبحث عن الله والفلسفة العبثية، فهناك مناقشة عن الفلسفة العبثية وأعمال بيكيت في فيلم "الخائنة" (1965)، وهناك فيلم "الطريق" (1964) الذي يتناول رمزية الأب وبحث البطل عنه كمعادل لبحثه عن الله، وأفلام أخرى حملت أسئلة وجودية وناقشت الإيمان والإلحاد وعذابات الإنسان الباحث عن اليقين وتمزقه بين العلم والروحانيات.

ويمكن فهم مدى الحرية السينمائية المتاحة في الماضي عندما ندرك أن فيلم "الملحد" لم يخرج للنور منذ آب/أغسطس 2024، وتشكلت هيئة من كبار علماء الدين لمشاهدته في 29 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وأوصت بعدة تغييرات من ضمنها تغيير عنوان الفيلم! وفي 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 صدر تقرير من هيئة المفوضين بمحكمة القضاء الإداري بإلغاء الترخيص ومنع عرض الفيلم في جميع دور العرض بمصر وخارجها وكذلك على المنصات الرقمية.

الاكتمال الفني

الفيلم القديم كان أروع من الناحية الفنية لاكتمال عناصر العمل من روايات لكبار كتابنا مثل طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان إدريس وأعمال عالمية مترجمة، وظهور جيل عظيم من المخرجين والمصورين وكتاب السيناريو والشعراء والملحنين والمطربين والممثلين، مثل زكي رستم والمليجي وأمينة رزق ويوسف وهبي وحسين صدقي وسناء جميل وهند رستم وفاتن حمامة وسعاد حسني ونادية لطفي وماجدة وزبيدة ثروت وعبد الحليم حافظ وماري منيب ونجيب الريحاني وبديع خيري مؤلفاً و إسماعيل ياسين، وفؤاد المهندس، وفي الإخراج صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وبركات وعاطف سالم وفطين عبد الوهاب وحسين كمال وكمال الشيخ.

باختصار كان هناك زخم عظيم في المواهب لم يتكرر وقد تناقص تدريجياً مع الأجيال التالية مما جعل تلك الافلام أعمالاً أيقونية رائعة.

صورة أكثر إيجابية للمرأة

حملت الأفلام القديمة قيماً تنويرية وتقدمية أكثر من أفلام الثمانينيات وما بعدها، وانعكست تلك القيم على صورة المرأة، ولعل أفلام كـ"السكرية" (1973) و"أنا حرة" (1959) و"الباب المفتوح" (1963) أمثلة جيدة على ذلك، بينما إذا تمت مقارنة صورة المرأة في فيلم "الباب المفتوح" بفيلم "تيمور وشفيقة" (2007) لتبين لنا الفارق الضخم بين نظرتين للمرأة وبين زمنَين كان الماضي فيهما هو الأكثر جمالاً وتنويراً وتقدماً عن الحاضر!

العلاقة بين الطبقات الاجتماعية سينمائياً

نرى نفس التباين في صورة الطبقات الأعلى اجتماعياً واقتصادياً في تعاملها مع الطبقة الأدنى منها في فيلمين هما "غزل البنات" (1949) وفيلم "المنسي" (1993). يمكن رصد حالة التماسك الاجتماعي في فيلم "غزل البنات" والتوافق بين الطبقات رغم الفوارق، فالعلاقة بين الباشا سليمان نجيب والمدرس الفقير نجيب الريحاني علاقة تخلو من الحقد، بل فيها قدر كبير من التعاطف على الرغم من سخريته من اسمه (حمام) ولكن كرم مطاوع في فيلم "المنسي" هو تجسيد لطبقة اجتماعية أكثر شراسة تتعامل بعنف، ولا يتورع عن قتل عطشجي السكة الحديد (عادل إمام) لأنه يعتبره تهديداً لمكاسب طبقته الاجتماعية الصاعدة فجأة في ظل مناخ انفتاحي أوصله بطرق غير مشروعة لهذه المكانة.

العلاقة بين الطبقات لم تكن عنيفة أو دموية في تلك الأفلام كما سنرى في أفلام ما بعد الانفتاح الاقتصادي بعد عام 1977، حيث سنجد أن الصراع في فيلم "الغول" (1983) يصل إلى حد قتل رجل الأعمال الفاسد، وضربِ السائق النشالَ في لم "سواق الأتوبيس" (1982).

هذه الدموية والصراع بين الطبقات لا نجدها في الأفلام القديمة حيث كانت أفلام الريحاني تعكس واقعاً اجتماعياً تتسع فيه الفوارق بين الطبقات، ولكن طبقة "الذوات"كانت تحترم في كثير من الأحيان الفنَّ والتعليم، ولا عداء بينها وبين الطبقة الأدنى، ولكن تبدو الأمور أكثر عنفاً وصراعاً في فيلم "المنسي" (1993) فالطبقة الجديدة الصاعدة لا تريد من يذكرها بماضيها القريب، وهي ترى أن الفقراء لا داعي لوجودهم، فهم يزحمون الدنيا بلا مبرر، وهذا ما يؤكده جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين من 1945 إلى 1995".

هكذا لعبت أفلام الريحاني دوراً في تقريب الطبقات وطرحت مشكلة الفقر في إطار كوميدي ساخر يبرز الفوارق بين العاملين، فخادم الباشا الذي يرعي كلبه يتقاضى أجراً شهرياً لا يحلم أن يتقاضاه المدرس في السنة! ولكنهم كلهم يعملون تحت رعاية ومظلة الباشا. لهذا فأفلام الأبيض والأسود والأفلام القديمة كانت أبسط وأقرب في خلق حالة من التماسك الاجتماعي من أفلام أتت بعد الانفتاح الاقتصادي وعكست صراعاً اجتماعياً بين الطبقات الاجتماعية بسبب الحراك الاجتماعي الذي صعد بطبقات اجتماعية وحطّ من الطبقة المتوسطة وسحق كثيراً من الفقراء.

الفيلم الغنائي والاستعراضي

يفضل الجمهور الأفلام الغنائية الإستعراضية بسبب موهبة أصوات لامعة تفجرت في هذه المرحلة مثل أم كلثوم أسمهان وعبد الوهاب ومحمد فوزي وشادية وصباح وفيروز ونجاة ونور الهدي ومها صبري وهدي سلطان وفايزة وسعد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد واكبهم عمالقة من الملحنيين السنباطي وكمال الطويل وبليغ حمدي وعبد العظيم عبد الحق، فريد الأطرش مع كوكبة من كتاب الأغاني والشعراء كشوقي وأحمد رامي والأبنودي ومرسي جميل عزيز، وكل هؤلاء لم يجد الزمن من يقترب من عبقريتهم الإبداعية.

السينما في الستينيات تشهد قفزة نوعية

تأسيس المؤسسة العامة للسينما في مصر في الستينيات لعبت دوراً هاماً في دعم صناعة السينما المصرية. خلال هذه الفترة، تم إنتاج العديد من الأفلام البارزة التي لا تزال خالدة حتى اليوم ولا يمل أحد من إعادة مشاهدتها؛ أفلام تعد أيقونات فنية، ومن أهم كلاسيكيات السينما المصرية ومن أفضل ما أنتج على مدار التاريخ السينمائي كله؛ من أهم هذه الأفلام: "اللص والكلاب" (إخراج كمال الشيخ، 1962)، "القاهرة 30"(إخراج صلاح أبو سيف، 1966)، "ميرامار" (حسين كمال، 1969)، و"معبودة الجماهير" (حلمي رفلة، 1967).

عشق المصريين للأفلام القديمة لها أسباب كثيرة أهمها الهروب من واقع قبيح لا يحتمل إلى ماض جميل بفنه وقيمه وتماسكه وأخلاقه وبمستوى معيشي أفضل؛ ماض ينتصر للخير والحق والجمال، ويفوز فيه الحب على كل العقبات، يتزوج فيه الفقراء من الأغنياء، وينتصر فيه الخير على الشر، وتتحقق فيه المعجزات، فالمرضى الميؤوس من علاجهم يشفون، والحكومة تهتم بحياة المواطن بشكل مبالغ فيه والشوارع جميلة ونظيفة والخضرة تملأ البيوت والشوارع، والنفوس صافية والأحلام تتحقق، والصراعات بين الطبقات لم تكن بنفس الحدة الحالية.

المرأة في ذلك الواقع النوستالجي تتمتع بمكانة أعلى وفق مفاهيم تنويرية تدعم حقها في المشاركة ومساواتها بالرجل، وهناك حركة ترجمة ونهضة فنية شاملة للمجتمع لدرجة أن الناقد محمد مندور اعتبر أن مسرحية "السكرتير الفني" لنجم الكوميديا فؤاد المهندس عمل مسف لعدم التزام المهندس بالنص الأصلي الأجنبي المأخوذ عنه المسرحية! وكم سخر توفيق الحكيم مما يقدمه "شكوكو" من هبوط فني! هذا كله يؤكد أن تلك المرحلة التي استهوت المصريين بإبداعات فنانيها السينمائية كانت مرحلة نهضة ذهبية لدرجة أن الهبوط الفني فيها كان من نوعية أعمال المهندس وشكوكو! فلا عجب أن يدمن المصريون مشاهدة هذه الأفلام ويتوحدوا معها لينتقلوا عبر آلة الزمن السينمائي إلى الماضي لأنه أجمل وأفضل في أغلب الأمور من الحاضر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image