"القرآن بين دفّتَي المصحف لا ينطق، إنما ينطق به الرجال".
الإمام علي بن أبي طالب
انطلق نصر أبو زيد، المولود في 10 تموز/ يوليو 1943 في مصر، من أزمة الأمة في الواقع الذي عاش فيه، وبدأ يبحث عن مواطن الخلل. كان يظنّ أنّ الأزمة سياسية فحسب، وبتغيير السياسة سيتقدّم البلد. لكنه بعد أن رأى تجربة جمال عبد الناصر، وتمعّن فيها، أدرك أنّ الأزمة أعمق من ذلك، فذهب يبحث في جذور الفكر الذي يشكّل السياسة، ودرس التراث الإسلامي وفي القلب منه القرآن.
عام 1994، نشر نصر حامد أبو زيد، في مجلة "العربي"، مقالةً بعنوان "المقاصد الكلية للشريعة… قراءة جديدة"، اقترح فيها ثلاثة مقاصد كلية تستوعب المقاصد الكلية الخمسة التقليدية (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل والمال)، وكذلك المقاصد الجزئية. وهذه المقاصد هي الحرية والعدالة والعقلانية.
المقاصد الجزئية
الحرية: ومقصودة بها حرية الفكر التي تصل إلى حماية حرية الكفر، فلا سبيل للتقدم إلا بحرية التعبير والرأي دون قمع واستبداد من المجتمع أو السلطة.
العدالة: ومقصودة بها المساواة بين البشر، فلا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا مسلم ولا مسيحي، ولا رجل ولا امرأة، وهو تعريف المواطنة في الدولة الحديثة. والأهم من هذا أنه لا فرق بين مواطن عادي وصاحب سلطة، إذ يجب أن يُهدم مصطلح العامة والخاصة حتى يسود مبدأ العدالة الاجتماعية.
اقترح أبو زيد في سنواته الأخيرة، التعامل مع القرآن باعتباره خطاباً وليس نصّاً مكتوباً، وقال إنّ التعامل معه باعتباره خطاباً سيحلّ أزمة التأويل
العقلانية: ومقصود بها التخلي عن العاطفة في التفكير الجمعي للمواطنين، وتقديم العقل على النقل، وتمكين البحث العلمي من القيام بدوره وعدم وضع شروط ومعوقات تمنع الباحث من الدراسة والتجريب بدوافع عاطفية كالخوف من المجهول الجديد.
وقد أضفت إليها مقصداً رابعاً: الديموقراطية، ومقصود بها تداول السلطة بين الأحزاب المختلفة، وهو ما سيضمن للدولة أن تتقدم إلى الأمام، وهذه الرابعة هي نتاج تفعيل المبادئ الثلاثة السابقة، فإذا توافرت حرية الرأي للمواطنين وأصبحت هناك عدالة وتوزيع متوازن للثروة، وأصبح البرهان العقلي هو ما يقود المصالح والمفاسد، انطلقت عجلات السياسة إلى الأمام بقوة تدافع الأحزاب المختلفة التي ستُحسّن من مسارات بعضها بعضاً كنتيجة للتنافس الشرعي بينها.
وقد استخلصت هذه الفكرة المركزية الرابعة من كلامه عن المقاصد في كتابه "مفهوم النص"، والذي ذكر فيه: "وفي عصرنا هذا الذي خضع فيه الفكر الديني لأهواء الحكّام، وتحوّل فيه دور الفقيه من رعاية مصالح الأمة إلى تبرير سلوك الحكام ورعاية مصالح الطبقات المستغِلَّة، فلا يكون الإجماع من أهل الحل والعقد هما الطبقة الحاكمة بل يجب أن يكون الفقهاء الممثِّلون للأمة معبّرين عن مصالح الشعب. إن الإجماع الذي يجب أن يُعتدَّ به في النصوص الدينية يجب أن يستند إلى مناخ ديمقراطي شعبي حقيقي بحيث يعبّر معيار التأويل عن مصالح عموم الشعب".
ولكي يستخلص نصر هذه المبادىء، درس القرآن الكريم باعتباره الكتاب المؤسس الذي قامت عليه حضاراتنا، ودرس تراث التأويل عند أسلافنا، وكيف فهموه وما هي أسباب تأخرنا وتراجعنا وتعطل قيام حضارتنا.
بين حياته الخاصة وأفكاره العامة
بدأ نصر اهتمامه بالشأن العام منذ صغره، فقد كتب أول مقال له وعمره 19 سنةً عن مشكلات الفلاحين، فقد كان واعياً بأنّ مشكلة الفقر ليست مشكلته وحده أو مشكلة أسرته فحسب، بل هي مشكلة عامة في القرية، لذلك كان يؤمن بالعدالة الاجتماعية والفكر الاشتراكي، وكان يمزج هذه الأفكار بالنصوص الإسلامية التي تحثّ على المساواة ومساعدة الأغنياء للفقراء بدفع الزكاة، إلى أن اصطدم بقمع الدولة الناصرية وفرض سلطتها بالقوة واعتقال أي مخالف لها. فبدأ ينتقد استبداد السلطة وقمع الحرية وإن رفعت شعارات العدالة والكرامة من منظور ديني.
ثم في عصر الانفتاح الاقتصادي الساداتي، زادت الفوضى وتحولت دفة الدولة إلى أمريكا الليبرالية بدلاً من روسيا الشيوعية. واستطاعت الدولة أن تجد المبررات الدينية لأفعالها والنصوص القرآنية التي وجّهت بها الخطاب الديني الرسمي للسياسات التي تريدها، ومارست القمع والتضييق على من له رأي مخالف، وهذا ما أثار في نفس الباحث الرغبة في معرفة الطريقة التي يفكر بها السياسي حتى ينتج هذه الممارسات.
لذلك انطلق أبو زيد من المنظور المعاكس لفكر الأزهر، فهو يدرك أنّ الأزهر مبنيّ على العقيدة الأشعرية، فراح يدرس طريقة التأويل والتفكير عند المعتزلة باعتبارهم أقدم من الأشعرية، ووجودهم التاريخي التراثي هو منبع ظهور أبي حسن الأشعري، الذي كان معتزلياً وقرر أن يؤسس فكراً مغايراً، أصبح في ما بعد مذهباً عقدياً جديداً.
استنطاق النص
ظنّ أبو زيد أنّ دراسة المعتزلة يمكن أن تكون إجابةً على الخطأ الذي ارتكبه الأشعري بتأسيس مذهبه وإبراز نقاط الضعف في فكرته، مما يمكّنه من تفكيكها وهدمها من الأساس، لكنه اكتشف أن المعتزلة أيضاً كانت لديهم أخطاء كالأشعرية، فبّين هذا في بحثه وأبرز محاسن المعتزلة، كتعظيمهم مبدأ العدل وخلق الإنسان لأفعاله، وتقديمهم العقل على النقل.
انتقل الصراع إلى الصحافة وأصبح أبو زيد "تراند" الساعة، وقامت حملات من الردود بين علماني وإسلامي، إلى أن تحول الأمر إلى المحكمة التي حكمت بردّته عن الإسلام وتفريقه عن زوجته.
ثم درس أكثر نماذج التصوف تطرفاً في التراث الإسلامي، أي ابن عربي صاحب الفتوحات المكية، كي يفهم إلى أي مدى يمكن أن تذهب عملية التأويل بعيداً عن ظاهر النص، وقد وجد من المشكلات في استنطاق النص بما ليس فيه ما لا حصر له، وأن عملية استنطاق النص بما ليس فيه مشكلة تمتد بجذورها في تاريخ الحضارة الإسلامية، وبدأ يدرس علاقة السلطة في توجيه عمليات التأويل الديني ودرس نموذج الغزالي الذي قام بخدمة الدولة؛ فقد باعد بين العلوم الإسلامية والفلسفة التي قامت على حضارة اليونان مما دفع بالفكر الديني إلى التأخر والتراجع، وقد انتقل هذا الفكر إلى الخطاب الديني المعاصر.
سافر إلى اليابان هرباً من الوضع الخانق الذي لا يساعد على البحث في عصر مبارك، وقام بدراسة الثقافة اليابانية واعتزازها بماضيها برغم تقدّمها، وقارن بين وضعنا من حيث الانصياع الكامل للأمريكيين على مستوى الدولة، والرفض الكامل على مستوى الجماعات الدينية.
وكتب كتابه "نقد الخطاب الديني"، الذي حاول فيه دراسة الخطاب المعاصر وتحليله ونقد الأسس المركزية الذي ينتجه، ثم كتاب "مفهوم النص" الذي أراد به دراسة القرآن باعتباره كتاب العربية الأهم في الحضارة العربية، وتالياً يُعدّ المدخل الرئيس لفهم بنية العقل العربي الذي شكّله النص وكيف يفهمه ويطبقه هذا العقل.
"نقد الخطاب الديني"
على عكس ما يتصور البعض من أنّ كتاب "نقد الخطاب الديني" يهاجم تيار الصحوة الذي انتشر في الثمانينيات، فهذا البحث الصادم الذي أحدث رجّةً في المجتمع إنما هو بحث لنقد السلطة بالأساس. فقد وجه الباحث نقده إلى الدولة ونظام مبارك الذي يتبنّى الاستبداد ويرعاه ويحاول استخدام الدين استخداماً نفعياً يضمن له السيطرة والاستدامة. أي أنّ الدولة تمارس القمع على جميع التيارات وتعمل على توجيهها جميعاً نحو ما تراه نافعاً لها في لحظة معينة، والقادر منها على إنتاج خطاب يتماهى مع الدولة يحظى بالقرب وتُفتح له المنصّات والأبواب والمعارض، ومنها من يحارب وتُفتح له السجون حتى يعود إلى رشده ويقدّم التنازلات والمراجعات الفكرية.
"مفهوم النص"
يؤكد نصر على أنّ الحضارة الإسلامية والعربية هي حضارة النص، أي أنها قامت على النص المركزي وهو القرآن الكريم الذي شكّل وعي القبائل العربية، ونقلها من الرجعية إلى القراءة والتدوين ثم الترجمة والتأليف وازدهرت العلوم وقامت الإمبراطورية بفضل النص. لذلك يُعدّ القرآن الأساس الذي يجب أن ننطلق منه في دراستنا للتراث، وهو ما حاول أن يقدّمه في كتاب "مفهوم النص".
قامت الدراسة على عنصرين:
1- استعراض علوم القرآن المختلفة ودراسة الأقوال المختلفة للعلماء، ومحاولة الاستفادة من الأقوال العقلانية، وتفكيك/ تفنيد الأقوال غير الصحيحة أو التي لم تعد تصلح لتطبيقها في الواقع.
2- محاولة ضبط نظرية علمية لتفسير/ تأويل القرآن تحافظ على المعنى الموضوعي للنص، وتبعد تأثير انحياز المفسِر عن السياق التاريخي للنص.
من الخارج وإليه
بعد العودة من اليابان، تقدّم بكل الأبحاث والكتب الذي ألّفها للترقّي إلى درجة أستاذ، لكن عضو اللجنة انسحب رفضاً لبعض ما جاء في الأبحاث، وأوكل الأمر إلى الدكتور عبد الصبور شاهين، عضو الحزب الوطني ومستشار شركة "الريان"، والذي رفض الترقية بل شنّع عليه في الصحف وعلى المنبر في خطبة الجمعة. لكن أبو زيد تحدّى لجنة الترقية ورئيس الجامعة ورفض التفاوض وعمل التعديلات المطلوبة وكتب مقالاً عن الجامعة احتفظ به جمال عمر في كتاب "أنا نصر حامد أبو زيد"، ويوضح فيه "أنه لا سبيل أمامنا جميعاً لتجاوز أزمتنا الراهنة إلا بنظامٍ تعليمي قادر على تنمية قدرات الفرد الذهنية والعقلية بل والخيالية أيضاً، وتنمية حواسه التذوقية للآداب والفنون، وإشاعة مناخ الحرية في الثقافة والمجتمع، وليست الحرية السياسية فقط كحرية التصويت وإنشاء الأحزاب وإصدار الصحف، بل حرية التفكير والنقاش والبحث والحوار دون شروط مُسبَّقة، ودون أهداف بعينها يسعى الباحث أو المفكر للوصول إليها. والجامعة هي نقطة البدء والختام، يشيع ذلك في جنَباتها وداخل قاعاتها، فتعكسه في مرآة المجتمع".
كان يظنّ أنّ الأزمة سياسية فحسب، وبتغيير السياسة سيتقدّم البلد. لكنه بعد أن رأى تجربة ناصر، أدرك أنّ الأزمة أعمق من ذلك، فذهب يبحث في جذور الفكر الذي يشكّل السياسة
انتقل الصراع إلى الصحافة وأصبح موضوع أبو زيد، "تراند" الساعة، وقامت حملات من الردود بين علماني وإسلامي، وتراشق الفريقان على صفحات الجرائد إلى أن تحول الأمر إلى المحكمة وتمّ رفع دعوى من مجموعة محامين بردّة نصر عن الإسلام وتفريقه عن زوجته.
في خضم الأحداث واللقاءات والمقالات التي كان يكتبها دورياً للردّ على منتقديه، حدثت حادثة في البيت المجاور له، حيث تم القبض على العمال الذين يعملون في شقة جارهم إثر حادثة سرقة تمت في عمارته، فذهب إلى القسم ليدافع عن العمال فتعجّب الشرطي لدفاعه عنهم وليس من بينهم قريب أو معرفة سابقة به. لكن هذه هي معركة المناضل، هذه هي معركة الدفاع عن حرية وكرامة الجميع والعدالة بين كل فئات الشعب، خاصةً الضعفاء منهم.
ودفاعه عن حرية الإنسان وحقه قبل الدفاع عن نفسه وعن المثقفين وكتابة المقالات للرد على منتقديه من الأزهر والجماعات، وأصدر بياناً للأمة بعنوان "الحقيقة أو الشهادة"، أظهر فيه عدم تراجعه عن أفكاره التي كتبها برغم محاولات الاغتيال المادي والمعنوي التي تعرّض لها.
ولكن بعد أن حكمت المحكمة بحكمها النهائي بتأييد حكم التفريق، اضطر هو وزوجته إلى السفر خارج مصر والبقاء هناك بعيداً عن كل تلك الضوضاء، فذهب إلى هولندا حيث قام بتدريس الدراسات الإسلامية في جامعة لايدن، ثم جامعة أوترخت.
إشكاليات في نظرية تحليل الخطاب
قدّم أبو زيد في سنواته الأخيرة، مقترحاً للتعامل مع القرآن باعتباره خطاباً وليس نصّاً مكتوباً، وقال إنّ التعامل مع القرآن باعتباره خطاباً سيحلّ أزمة التأويل، وهذا لم يحدث ولم يأتِ بجديد في مشروع نصر الفكري، وظل كتابه "مفهوم النص"، هو ما قدمه للفكر الإسلامي المعاصر، والذي لا بد من الاعتناء به والبناء عليه. أما ما ذكره من النظر إلى الآيات باعتبارها وحدات خطابيةً، فيمكن الاستفادة منه والبناء عليه في عملية التفسير، لكنه لن يغيّر من عملية التفسير ذاتها، لأنّ القرآن معلوم من اليوم الأول أنه رسالة من ربّ العالمين إلى المؤمنين به عبر مبلّغ الرسالة، وهو الرسول، فهذا بديهي ومعروف ولم يزد فيه نصر عما قدّمه سابقوه، وكل المحاولات التفسيرية الذي قدّمها نصر مبنية على نظريته في التأويل التي ذكرها في كتاب "مفهوم النص"، بينما لم يقدّم أي تفسير مختلف مبني على نظريته في تحليل الخطاب.
مشروع بلا نهاية
تُوفِّي نصر حامد أبو زيد في عام 2010، ودُفِن في مسقط رأسه في طنطا، تاركاً إنتاجاً علميّاً يحظى بتقدير المكتب العلمي الغربي في حقل الدراسات القرآنية والتحليل الأدبي للنصوص. وبعد سنوات أظنها ليست ببعيدة، ستتمّ دراسة أفكار أبو زيد في الجامعات العربية والإسلامية جميعها، وسيتم الاحتفاء بهذا المفكر الإسلامي والمجدد الحقيقي للفكر العربي، وسيكون مشروعه الفكري بدايةً ليست لها نهاية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



