مكافحة الحرائق في لبنان… عجز الدولة في ميزان نقص التمويل وسوء تدبير المساعدات

مكافحة الحرائق في لبنان… عجز الدولة في ميزان نقص التمويل وسوء تدبير المساعدات

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الاثنين 22 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة

يتكرّر مشهد اشتعال النيران في مناطق لبنانية عدّة في بداية فصل الشتاء من كل عام، وكانت قد اندلعت حرائق على امتداد الأراضي اللبنانية من الجنوب إلى الجبل وصولاً إلى عكار، في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، وسط عجز واضح من مؤسسات الدولة ومن بينها وزارة البيئة على التعامل مع هذه الأزمة المتجدّدة رغم الأموال الطائلة التي صُرفت على مدى سنوات في هذا الإطار.

تعود أسباب الحرائق في لبنان بشكل أساسي إلى التغيير المناخي والإهمال، وهذا لا ينفي الدور البشري الذي كثر الحديث عنه بعد الأزمة الاقتصادية عام 2019، حيث يلجأ البعض إلى تفحيم المساحات الخضراء بغية الاستفادة من الأخشاب لأغراض التدفئة. يُضاف إلى هذه الأسباب زيادة الغارات الجوية والاعتداءات الإسرائيلية إذ تعمد إسرائيل إلى إلقاء موادّ حارقة في مساحات خضراء شاسعة مما يُساعد في انتشار الحرائق وصعوبة إطفائها.

كل ذلك يُثير التساؤلات حول مصير الأموال المخصصة لمعالجة مشكلة الحرائق التي كان من بينها منحة قدرها 3.48 ملايين دولار أمريكي من صندوق البيئة العالمي في إطار مشروع "إدارة مخاطر حرائق الغابات بمشاركة المجتمع في المناطق المعرضة للخطر في لبنان". علماً أن المناطق التي وقعت فيها الحرائق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 تقع ضمن هذا المشروع.

فيما تلتهم النيران الغابات، تتعثّر المنح المخصّصة لمكافحة الحرائق في دوائر البيروقراطية المالية، ويحوّل بعضها نحو أمور لا تشكّل أولوية في الملف… فمن يحمي المساحات الخضراء في لبنان؟

أين ذهبت أموال علاج هذا الملف؟

لم يتثنَّ لرصيف22 التواصل مع وزيرة البيئة الحالية تمارا الزين للاستفسار حول مصير هذه المنحة وكيف استُخدمت في مكافحة الحرائق. غير أن وزير البيئة السابق، ناصر ياسين، يقول، لرصيف22، إن "هذه الهبة عملنا عليها لمدة عام كامل، وكان الهدف منها تعزيز تجربة سابقة بدأت في عام 2022 تقوم على توفير دعم لوجستي (ثياب وآليات وغيرها) لفرق الاستجابة الأولية المؤلَّفة من سكان المناطق المعرَّضة للحرائق وكذلك فرق الدفاع المدني في هذه المناطق".

ويُتابع ياسين: "تجربة هذه الفرق كانت ناجحة جداً وعلى هذا الأساس حاولنا تكريس هذه الهبة لدعمها واخترنا لذلك المناطق الأكثر عرضة للحرائق مثل عكار والضنية والشوف وغيرها"، مؤكداً أن تنفيذ هذه الخطة أدّى إلى تراجع نسبة المساحات المحترقة بشكل كبير حيث سجّل عام 2022 تراجعها بنسبة 91%، وعام 2023 بنسبة 86%، في حين ارتفع هذا الرقم في العام 2024 بسبب الاعتداءات الإسرائيلية.

هذا ما كانت قد أشارت إليه الوزيرة الزين، في كلمتها لمناسبة إطلاق "الحملة الوطنية للحد من حرائق الغابات"، قائلةً إن الإحصاءات المقلقة تُظهر تزايد عدد الحرائق، إذ بلغ عددها 6365 في عام 2024، و466 حريقاً حتى منتصف تموز (يوليو) 2025.

بالعودة إلى ياسين، فهو يوضح أن "توقيع هذه الهبة جرى في أوائل العام 2025، قبل فترة قصيرة جداً من تشكيل الحكومة الجديدة مغادرتي الوزارة بوقت قصير. فبات تنفيذها لدى الحكومة الجديدة ولكن خلال الـ11 شهراً الماضية لم يحدث أي أمر، وقد فهمت أن سبب التأخير يعود إلى أسباب تتعلّق بالبيروقراطية المالية بين الدولة والبنك الدولي".

إلى ذلك، أخبر مصدران منفصلان، تحدّثا إلى رصيف22 شريطة عدم الكشف عن هويتهما، بأن سبب التأخير يعود إلى تحويل جزء من الهبة إلى المجلس الوطني للبحوث العلمية، حتّى باتت اجتماعات هذا المشروع تحدث في قاعات المجلس وبرئاسة الأمين العام للمجلس.

ويتوقع أحد المصدرين أن يصرف المجلس الأموال على الدراسات والإنذار المبكر وغيره من المشاريع المتعلِّقة بمكافحة الحرائق على اعتبار أن هذه الأعمال تقع ضمن مهامه، مستدركاً بأن هذه الأعمال "لا يمكن اعتبارها أولوية على حساب استكمال دعم فرق الاستجابة المحلية". حاول رصيف22 التواصل مع الأمين العام للمجلس الوطني للبحوث العلمية، شادي عبد الله، للتحقّق من هذه المعطيات لكن دون جدوى.

مساعدات وهبات لا تحل المشكلة

هذه المنحة التي لا يُعرف مصيرها بشكل واضح، يمكن اعتبارها عيّنة صغيرة على طريقة إدارة الدولة اللبنانية للمنح والهبات والمساعدات التي تناهز ملايين الدولارات والتي تتلقّاها لأجل مكافحة الحرائق. الدليل على سوء توظيف ملايين الدولارات هذه أنه لا تزال النيران تشتعل في كل عام في أحراش وغابات لبنان من دون وجود خطط إستراتيجية قصيرة أو طويلة المدى للتعامل معها.

90%" من فرق إطفاء الحرائق في لبنان لا تملك بدلات حماية" رغم المنح المليارية التي تُخصّص لمكافحة الحرائق في البلاد فيما جمعيات غير حكومية مثل "درب عكار" تواجه الكارثة بتمويل محدود… هل غياب الرؤية وسوء التدبير خلف فشل الدولة في إحراز تقدّم في هذا الملف؟

أحد الشواهد الحديثة على غياب الرؤية في التعامل مع هذه القضية، جاء على لسان الزين نفسها، في منشور في حساباتها بمواقع التواصل الاجتماعي، بعد موجة الحرائق الأخيرة، قالت فيه: "منذ أشهر قليلة، أطلقنا مشروع الحد من حرائق الغابات في السراي الكبير، وهو مشروع متواضع لا يغطي سوى ثلاث بقع صغيرة تشهد حرائق متكرّرة ولن تبرز مخرجاته المحدودة إلا عند انتهائه بعد ثلاث سنوات"، في ما قد يُعتبر محاولة من وزارة البيئة للتنصّل من مسؤوليتها في معالجة هذه الأزمة، وحجة لتبرير فشلها في إدارة الملف حتى اللحظة.

البلديات مسؤولة أيضاً

في حديث مع رصيف22، يؤكد رئيس "جمعية الأرض - لبنان"، بول أبي راشد، أن الجمعية جهّزت عشرات القرى بأدوات لمواجهة الحرائق، بمبلغ لا يتجاوز الـ 5 آلاف دولار، شارحاً "وزّعنا 200 مخباط (أداة لمكافحة الحرائق) على 100 مؤسسة متنوعة، ما بين جمعية وبلدية واتحاد بلديات ومحميات… هذا سيساعد في الاستجابة الأولية لمكافحة الحرائق"، متسائلاً: فكيف سيكون الأمر في حال استخدام هبة الـ3.48 ملايين دولار لمكافحة الحرائق؟

ويُحمل أبي راشد وزارة البيئة "مسؤولية عدم تمكين البلديات والقرى من مواجهة الحرائق في حين أن الأموال موجودة معها"، لافتاً إلى أنه "حتّى في حال عدم امتلاكها الأموال، يمكنها على الأقل إطلاق حملات توعية وتدريبات". كما يضع جزءاً من المسؤولية على البلديات "سواء في ما يتعلّق بمنع المواطنين من إطلاق المفرقعات والأسهم النارية، أو المراقبة التي يشرحها بقوله: "مثلاً، اندلع حريق كبير في بلدتيّ بشعلة وترتج ووصلت إلى دوما بسبب قيام أحد الأشخاص بإشعال الحريق تحت شجرة الزيتون، في حين كان يتوجَّب على البلدية منع هذه الممارسة بالأساس".

ويوضح ياسين، بدوره، أن "جزءاً من موازنات البلديات مخصّص لتنظيف وصيانة جوانب الطرقات وغيرها من الأمور التي تحد من الحرائق، مثل تقليم الأشجار، إلا أن موارد البلديات محدودة جداً بسبب الأزمة الاقتصادية"، مبرزاً أنه "حتّى قبل الأزمة الاقتصادية وانخفاض مداخيل البلديات بشكل كبير، كان أحد أسباب حدوث الحرائق في بعض البلدات، خصوصاً في عكار والضنية والهرمل، أن بلدياتها منهكة مالياً ولا تملك موارد كافية والجباية فيها محدودة".

إضافة إلى ما سبق، يُشير ياسين إلى أن عرقلة مرسوم تعيين 106 حراس أحراش على مدى سبع سنوات لأسباب طائفية أثَّر بشكل سلبي في ملف مكافحة الحرائق وساهم في غياب الرقابة على الأحراش وإدارة الغابات حيث انحصرت الرقابة على المحميات الطبيعية التي فيها لجان إدارية".

ويشدّد الوزير السابق على أن "هذه المحميات تُشكّل جزءاً صغيراً من الغابات في لبنان، في حين أن الغابات والأحراش تحتاج إلى إدارة يومية، وغياب مأموري الأحراش أثَّر كثيراً في ذلك".

بحسب طالب، فإن "لبنان أُغرق بإستراتيجيات مكافحة الحرائق إلا أن هذه الإستراتيجيات تبقى حبراً على ورق ما لم تُقدَّم أدوات تنفيذية من آليات وبدلات ومعدات لفرق الاستجابة على الأرض"

مقاربة وزارة البيئة لقضية الحرائق

ولا يقتصر تقاعس الدولة في ملف الحرائق على وضع رؤية إستراتيجية أو إجراء التعيينات اللازمة، وإنما يتصل أيضاً بغياب الدعم للمبادرات المحلية حيث يُشير رئيس جمعية "درب عكار" البيئية، علي طالب، في حديثه إلى رصيف22، إلى أن "الجمعية لم تتلقَّ أي مساعدة أو دعم من أي جهة رسمية كانت بما فيها وزارة البيئة في الحكومة الحالية، إذ إن الفريق يعمل بتمويل وتبرعات محلية، علاوة على تلقيه دعماً خاصاً بالمعدات من إحدى الجمعيات"، ويستطرد طالب بأن "الفريق لم يتلقَّ أي مساعدة من البلديات إذ لا تملك المجالس البلدية في المنطقة إمكانات لدعم فرقها".

يتألَّف فريق درب عكار لمكافحة حرائق الغابات والإنقاذ الجبلي التطوّعي من نحو 20 عنصراً، ويملك آليتان جرى تجهيزهما بتمويل محلي وصُممتا بطريقة تراعي البيئة اللبنانية، وعمله غير محصور بمحافظة عكار إذ يشمل مناطق أخرى وفق الحاجة. ويُحاول الفريق قدر الإمكان الاعتماد على الوسائل الحديثة مثل الدرون.

ويرى طالب أن فشل الدولة في وضع إستراتيجية طويلة المدى لمكافحة الحرائق يعود إلى "ضعف التمويل من ناحية، وتعدّد مدارس إدارة حرائق الغابات بين الأمريكية والأوروبية وغيرها من ناحية أخرى"، شارحاً "كل جهة، من وزارة البيئة والزراعة والدفاع المدني والدفاع وهيئة إدارة الكوارث، تتبنَّى مدرسة مختلفة ومن الصعب جداً اجتماعها على مدرسة واحدة في ما يخص التعامل مع حرائق الغابات"، قبل الحرائق وخلالها وبعدها.

ويلفت طالب إلى أن "لبنان أغرق بإستراتيجيات مكافحة الحرائق إلا أن هذه الإستراتيجيات تبقى حبراً على ورق ما لم تُقدَّم أدوات تنفيذية من آليات وبدلات ومعدات لفرق الاستجابة على الأرض. فـ90% من الفرق التي تواجه حرائق الغابات لا تملك بدلات مخصّصة لذلك أو حتى الحد الأدنى من معدات الوقاية الشخصية PPE".

*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع فريدريش إيبرت - مكتب لبنان FES.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image