من شُرفة منزلي في الطابق 17 في أحد أبنية الأشرفية، لم تعد بيروت كما غادرتها قبل خمس سنوات. ضبابٌ رماديٌّ يلُّفُ المدينة، حجابٌ كيميائيٌّ كثيف، يخنق الأفق ويخفي زرقة البحر. رائحة الديزل المُحترِق أصبحت جزءاً من هوية المدينة العطرية. تتسلَّل إلى كلِّ ركنٍ وزاوية، تلتصق بملابسنا وشعرنا، وتملأ صدورنا مع كلِّ نفسٍ وتنهيدة.
حرفيَّاً، لم نعد نستنشق الهواء بل نتذوَّقه، بطعمه المعدنيِّ الحارق، يُذكِّرنا في كلِّ لحظةٍ بأننا نعيش في مدينةٍ مريضة، مدينة تختنقُ ببطء.
إنَّها حقيقةٌ يوميةٌ تعيشها بيروت منذ نهاية الحرب، غير أنَّها زادت سوءاً بعد أن غرق لبنان في انهياره الاقتصادي المريع. الدولة رفعت يدها نهائياً عن مسؤولياتها، وعلى رأسها توفير الكهرباء، فاستلمت "مافيا المولدات" زمام المبادرة. أكثر من 9,000 مولِّد ديزل تعمل في بيروت، نعيش على إيقاع هديرها الذي لا يهدأ، وننام ونستيقظ على وقع سمومها التي تتراكم في أجسادنا.
قبل شهرٍ تقريباً، وبينما كنت وإحدى الصديقات نحتسي القهوة، التقيتُ بالصدفة بـ كلويه (صديقة صديقتي)، شابة صغيرة في السابعة والعشرين من عمرها. فور أن جلَسَتْ على الكرسي، بادرتُ بسؤالها سؤالاً عامّاً: "كيفك يا كلويه"، ردَّت مُبتسمةً: "مصابة بسرطان الثدي في المرحلة الثانية". شعرت بأنَّ أحدهم ألقى بي من سطح المول الذي كنَّا فيه.
تابعت كلويّه: "لا تنصدم، أين يمكنك أن تختبئ من التلوُّث في هذا البلد؟ إنَّه في الماء، في الهواء، في كل ما نأكله، إنَّه في كلِّ مكان". سؤال كلويّه، سؤالُ جيل كامل يشعر بأنَّه مُحاصَر. قصَّتها، التي لم تعد استثنائيةً للأسف، هي ما دفعني للبحث أعمق في هذه القضيّة التي لا تقتصر على بيروت وحدها، بل تمتدُّ كطاعونٍ صامتٍ عبر عواصمنا الأخرى.
سرطان الهواء… من بيروت إلى القاهرة فبغداد
بيروت ليست وحيدةً في هذا المحيط من السموم. ما إن ترفع رأسك من سمائها الرمادية وتنظر شرقاً أو جنوباً، حتَّى تجد أنَّ الصورة لا تزداد إلَّا قتامة. في القاهرة، المدينة التي لا تنام، يبدو أنَّ الهواء أيضاً لا يأخذ قِسطاً من الراحة. يعيش أكثر من ثلاثة وعشرين مليون إنسان في هذه المطرقة الإسمنتية العملاقة، يتنفسون هواءً يصنفه الخبراء بين الأسوأ في العالم.
هنا، لا يتعلَّق الأمر بمولِّدات الديزل، بل بشبكةٍ معقَّدةٍ من التلوُّث الصناعي، وعوادم ملايين السيَّارات التي تزحف في شوارعها المُّكتظَّة، وحرق النفايات، إضافةً إلى سحابة سوداء موسمية تخنِق المدينة ناتجة من حرق قشِّ الأرز.
تحوّل الهواء في بيروت من عنصر حياة إلى مادة سامة يومية. انهيار الدولة وتسليم الكهرباء لمافيا المولدات جعل التلوّث جزءاً من الهوية الحسية للمدينة، حيث لم يعد السكان “يستنشقون” الهواء بل “يتذوقونه” بطعمه المعدني الخانق
الأرقام الصادرة عن المؤسَّسات الدولية ترسم صورةً مرعبة. تشير تقديرات مبادرة "Clean Air Fund" إلى أنَّ تلوُّث الهواء في القاهرة يتسبَّب في نحو 18,000 حالة وفاة مبكِّرة سنوياً، أي ما يمثل 16% من إجمالي الوفيَّات في المدينة. وفي تقريرٍ أوسع، قدَّرت مُنظَّمة الصحَّة العالمية أنَّ نحو 50,000 شخص يموتون سنوياً في مصر كلِّها بسبب أمراض مرتبطة بالتلوُّث.
قد تبدو هذه الأرقام عادية في منطقتنا التي اعتادت أرقام القتلى والموتى، لكن عندما نُفكِّر في أنَّ هؤلاء الأشخاص آباء وأمَّهات وأبناء وبنات، قصصهم وحياتهم طويت قبل أوانها بدون إثارة أيِّ ضجيج، قد نتنبّه لحجم الكارثة التي نعيشها.
تقول سعاد (اسم مستعار) لرصيف22، وهي أمٌّ لطفلين تعيش في حي شُبرا في القاهرة. ابنها الأصغر يوسف البالغ من العمر ثماني سنوات، يعاني من الربو منذ ولادته. تروي سعاد كيف تحوَّلت حياتهم إلى جحيم: "جهاز الاستنشاق لا يفارق حقيبتي، تماماً مثل هاتفي ومفاتيحي. كلَّ ليلة، أستمع إلى صوت أنفاسه المتقطِّعة، وأدعو الله، ألَّا تأتيه نوبةٌ حادَّة. الطبيب قال لنا إنَّ الهواء في القاهرة يقتل رئتيه. نصحنا بالانتقال إلى مكانٍ آخر، لكن إلى أين نذهب؟ هذه إمكانياتنا المادية، وهذا هو منزلنا، بالمصري الدارج: آدي الله وآدي حكمِتهُ".
قصَّة يوسف هي قصَّة آلاف الأطفال في القاهرة الذين سُرقت منهم مُتعة اللعب في الشارع والركض بحرية، وحُكِم عليهم بالعيش في سجنٍ منزليٍّ خوفاً من الهواء الذي يُفترض أن يمنحهم الحياة.
مُنزعجاً ويائساً أخذتني الرحلةُ شرقاً، نحو بغداد، حيث الأمور تزداد كارثيةً. في تموز/ أيلول 2025، تصدَّرت العاصمة العراقية قائمة IQAir (تقرير جودة الهواء العالمي) للمدن الأكثر تلوثاً في العالم، حيث وصل مؤشر جودة الهواء فيها إلى ثمانية أضعاف المعدَّل الذي تعتبره منظَّمة الصحَّة العالمية آمناً للحياة.
بغداد، التي كانت يوماً عاصمةً للعالم ومنارةً للعلم، أصبحت اليوم مدينة تختنق تحت وطأة عقودٍ من الحرب، والإهمال، والفساد. هُنا، تتضافر كلُّ عوامل الموت: مولِّدات الديزل التي أصبحت المصدر الرئيسي للكهرباء كما في بيروت، وأسطول من السيارات القديمة التي تنفث دخاناً أسود، ومقابرُ حرق النفايات، ومصافي النفط البدائية المنتشرة حول المدينة، والعواصف التُرابية التي أصبحت أكثر تواتراً وشدَّةً بسبب تغيُّر المناخ والتصحُّر.
النتيجة كارثة صحية. أظهرت دراسة نشرتها (Journal of Asthma and Allergy – June 2025) أنَّ أعلى معدل لانتشار الربو بين الأطفال في العراق سُجِّل في بغداد بنسبة 22.7%. "لم نعد نرى السماء زرقاء"، يقول حسين لرصيف22، وهو سائق تاكسي في بغداد التقيته للمرة الأولى في بيروت عام 2017 حين كان يعملُ سائقاً أثناء زيارته مع وفدٍ لإحدى المنظَّمات الأمميَّة التي تعمل في الشأن الإنساني.
يضيف ساخراً: "حتَّى في الأيام التي لا توجد فيها عواصف ترابية، هُناك طبقة صفراء بنيَّة تغطّي كلَّ شيء. نشعر بها في عيوننا، في حناجرنا، وفي صدورنا. لقد اعتدنا السُعال، أعدُّ كحّاتي يومياً خوفاً عليها من أن تنقص".
العدو الخفي… كيف يقتلنا الهواء الذي نتنفسه؟
لفهم حجم الكارثة، يجب أن نتجاوز الصور العامة للضباب الدخاني ونتعمق في العلم وراء هذا القاتل الصامت. العدو الرئيسي هنا هو ما يعرف بالجسيمات الدقيقة (PM2.5)، وهي جسيمات مجهرية يقل قطرها عن 2.5 مايكرومتر، أي أصغر بنحو 30 مرة من قطر شعرة الإنسان. هذه الجسيمات، الناتجة من حرق الوقود الأحفوري (ديزل، بنزين) والعمليات الصناعية والحرائق، صغيرة جداً لدرجة أنَّها تستطيع اختراق دفاعات الجهاز التنفسي والوصول إلى أعماق الرئة، ومن هناك تتسرَّب إلى مجرى الدم، لتبدأ رحلتها المدمِّرة في جميع أنحاء الجسم.
قصص السرطان والربو لم تعد استثناءات، بل أعراض وباء بيئي غير معلن. من بيروت إلى القاهرة وبغداد، يقتل التلوّث ببطء، ويطوي حياة آلاف الأشخاص من دون محاسبة أو ضجيج.
في ورقة بحثيَّة صادرة عن الجامعة الأمريكية في بيروت (2012)، أشارت الدراسة إلى أنَّ 40% من التعرُّض اليومي للمواد المُسرطِنة المحمولة جوَّاً في لبنان يأتي من مصدر واحد: مولدات الديزل. هذه المولِّدات تنفثُ مزيجاً ساماً من المواد الكيميائية، بما في ذلك البنزين والفورمالديهايد، والتي تصنِّفها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان على أنَّها مواد مسرطنة من الفئة 1A، أي أنَّ هناك أدلَّة قاطعة على أنَّها تسبب السرطان للبشر.
الأطفال هم الفئة الأكثر ضعفاً أمام هذا العدو الخفي. رئاتهم لا تزال في طور النمو، ومعدَّل تنفُّسهم أعلى من البالغين، مما يعني أنَّهم يستنشقون كميَّةً أكبر من الملوِّثات بالنسبة إلى وزن أجسامهم. التعرُّض لتلوث الهواء في سنٍّ مبكِّرة يمكن أن يؤدي إلى ضعفٍ دائم في وظائف الرئة، وزيادة خطر الإصابة بالربو، ومشاكل في النمو العصبي. في الواقع، إنهم يسرقون مستقبل أطفالنا مع كلِّ نفسٍ ملوَّثٍ يأخذونه.
التكلفة الاقتصادية لهذه المأساة الصحية باهظة أيضاً. التكلفة المباشرة على أنظمة الرعاية الصحية المُنهكة أصلاً. كلُّ حالة ربو جديدة، وكلُّ نوبةٍ قلبية، وكلُّ علاجٍ للسرطان يضيف عبئاً على المستشفيات والمراكز الصحية ويستنزف الميزانيات العامَّة التي يمكن أن توجَّه بدلاً من ذلك إلى التعليم أو البنية التحتية. كل هذا بغضِّ النظر عن الخسائر الإنتاجية والزراعية والاجتماعية الناتجة من هذه الكارثة البيئية اللامحدودة.
حكومات صامتة ونخب متواطئة
أمام هذه الكارثة الصحية والاقتصادية، يبدو صمت الحكومات أسوأ من التلوُّث نفسه. فالأزمة بالمُحصِّلة، هي نتيجة مباشرة لسياساتهم الفاشلة، وأفواههم وجيوبهم الملوّثة بالمال العام.
في مصر، هناك هوّة واسعة بين الخطاب الرسمي الذي يروج لمصر "الخضراء" واستضافتها لمؤتمر المناخ (COP27)، وبين الواقع اليومي لملايين القاهريين الذين يختنقون بالضباب الدخاني.
في عام 2015، كشفت وثائق رسمية عن واحدة من أكبر قضايا الفساد في وزارة البيئة المصرية، حيث تم إهدار 2.5 ملياري جنيه من منحة ألمانية مُخصَّصة لمكافحة التلوث الصناعي في سوهاج. اكتشفت لجنة التحقيق أنَّ الشركات المُنفِّذة لم تشترِ المعدَّات المطلوبة أصلاً، واكتفت بتجديد معِداتٍ قديمة، وأنَّ سعر المعِدَّات التي ادعت شراءها لا يتجاوز 2.5% من القيمة التعاقدية.
ما يعني أنَّ الأموال سُرقت والهواء بقي ملوثاً. ورغم توصية المستشار القانوني للوزير بتقديم بلاغ للنائب العام، رفض الوزير خالد فهمي ذلك، واكتفى بنقل بعض الموظفين، بينما لم تتم محاسبة أي من الشركات المتورطة.
أزمة الهواء ليست قدراً طبيعياً، بل نتيجة مباشرة لفساد سياسي وصمت رسمي. من أموال بيئية مسروقة في مصر، إلى مصافٍ متهالكة محمية سياسياً في بغداد، يُضحّى بصحة ملايين الناس لحماية مصالح قلة نافذة
أمَّا في العراق، فإنَّ الوضع أكثر تعقيداً. الفساد مُستشرٍ في كلِّ مفاصل الدولة، المثال الأوضح هو "مصفى الدورة"، الذي يقع في قلب بغداد وينفث سمومه ليل نهار. حاول أحد وزراء النفط السابقين مراراً نقل المصفى إلى مسافة 30 كيلومتراً جنوب العاصمة لحماية صحة السكان، لكنَّه اصطدم برفضٍ قاطعٍ من زعامات سياسية لديها منشآت قريبة من المصفى، ترفض نقله حمايةً لمصالحها الخاصة. النتيجة؟ ملايين البغداديين يستنشقون يومياً انبعاثات مصفى مُنتهي الصلاحية، بينما تحمي السلطة السياسية مصالح قلّة على حساب صحة الأغلبية.
في تصريح سابق لها للإندبندنت - عام 2024 قالت الباحثة البيئية الدكتورة سعاد العزَّاوي، الأستاذة السابقة في جامعة بغداد، إنَّ "حماية البيئة تعدُ ترفاً في بلدٍ لا يزال يكافح لتوفير أبسط مقوِّمات الحياة لمواطنيه، لكنَّ الحقيقة هي أنَّ المقوِّمات موجودة، والموارد متوافرة، لكنَّها تُسرق وتُهدر".
هل من أملٍ في هواء نقي؟
نعم، الحلول موجودة. الانتقال إلى الطاقة المتجددة، وتحديث أنظمة النقل العام، وفرض معايير بيئية صارمة على المصانع والسيارات المستوردة، وزيادة المساحات الخضراء في المدن، كلُّها خطواتٌ قابلة للتطبيق إذا توافرت "الإرادة السياسية".
لكن هذه الإرادة لن تأتي من لا شيء، بل يجب أن نفرضها نحن، من خلال الضغط المستمر. صحيح، أنَّنا لن نتمكَّن من تغيير الوضع بين عشيَّةٍ وضحاها، لكن كلّ حملة توعية، وكلّ دعوى قضائية ضدَّ مصنعٍ ملوِّث، وكلّ تقريرٍ صحافيٍّ يكشف الحقيقة، وكلّ مبادرة مجتمعية تزرع شجرة، هي خطوة في الاتجاه الصحيح من أجل الحق في الحياة، ومن أجل مستقبل الأطفال.
هي تتطلَّب منّا أن نرفض القبول بهذا الموت البطيء، تتطلَّب مِنَّا أن ندرك أنَّ الهواء الذي نتنفسه هو شأنٌ عام، وأنَّ الصمت عن سرقته هو تواطؤ في جريمة قتلٍ جماعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.


