بعد عقد من الحرب والانهيار الاقتصادي، ومع دخول البلاد في مرحلة انتقالية جديدة تقودها الحكومة الحالية منذ نحو عام، يُفترض أنها تمهّد لاستقرار مختلف، لا يزال الواقع المعيشي في سوريا نموذجاً لاقتصاد منهَك.
ففي هذه المرحلة الانتقالية، حيث تواجه شريحة واسعة من السكان شبح الفقر وتتآكل مقومات العيش الأساسية، برزت -خاصةً خلال الأشهر الأخيرة- موجة واسعة ومتنامية من حملات التبرعات الكبيرة التي عمّت مدناً ومحافظات مختلفةً، وجُمعت فيها مبالغ وصلت إلى ملايين الدولارات، كان آخرها حملة "فداء حماة" وما أثارته من تساؤلات حادّة حول مصادر هذه الأموال ومسارات إنفاقها.
هذا التناقض الصارخ بين الانهيار المعيشي للأغلبية والقدرة المالية الظاهرة لفئة محدودة من "أثرياء الحرب وما بعدها"، يكشف عن تحولات أعمق في بنية الاقتصاد السياسي السوري. فظهور هذه الأموال -وغالباً خارج الأطر الرسمية- يشير إلى حجم الثروة المتراكمة في اقتصاد الظلّ، وإلى فاعلين قدامى وجدد يسعون إلى إعادة موضعة أنفسهم أو اكتساب شرعية اجتماعية وسياسية في لحظة يغيب فيها الدور المؤسسي والرقابي.
يقدّم هذا التقرير قراءةً نقديةً لهذا الواقع، مفككاً لغز هذه الملايين: هل تعكس هذه الأموال اقتصاد ظلّ أو شبكات ريعيةً متناميةً؟ وكيف تُستخدم التبرعات كأداة لتبييض الصورة وتعزيز النفوذ في ظل الفراغ المؤسسي؟ وماذا تقول ردود فعل المواطنين المتشككة عن فجوة الثقة في مرحلة ما بعد النزاع؟
تمدّد اقتصاد الظلّ
لفهم التناقض سابق الذكر، لا بدّ من العودة إلى الجذور والبحث في طبيعة الثروات التي تكشفت عنها حملات التبرعات، ومدى ارتباطها بتحوّل البنية الاقتصادية في البلاد.
لا يمكن قراءة هذه التبرّعات بمعزل عن الواقع الهيكلي للاقتصاد السوري. ففي وقت تعيش فيه شريحة كبيرة من السوريين تحت خط الفقر، تكشف هذه المبالغ الضخمة، بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي، محمد العلبي، عن فجوة اقتصادية هائلة بين الأغلبية الفقيرة وطبقة ضيّقة تتركز في يدها معظم الثروة ومنفصلة فعلياً عن الواقع المعيشي للأغلبية.
غياب التقارير المحاسبية في أي حملة تبرّعات مخالفة لواجبات الأمانة المالية ويطعن بشرعية الحملة نفسها، لكن في السياق السوري، يتحول هذا الغياب إلى وضع شبه طبيعي. لماذا؟
يفسّر العلبي هذا المشهد، بأنّ الاقتصاد السوري تحوّل خلال سنوات الحرب وما بعدها إلى ريع وشبكات، حيث تراكمت الثروة أساساً عبر قنوات الاستيراد المحتكر، وتهريب المحروقات، المخدرات، والسلع، والمضاربات العقارية، والاستفادة من قرب سياسي أو أمني من مراكز القرار، لا عبر نشاط إنتاجي طبيعي.
في هذه البيئة، تصبح القدرة على الإعلان عن "تبرّع بملايين" تعبيراً عن وجود كتلة رأسمال متمركزة حول أشخاص قلائل، وحجم التبرعات المعلَنة يكشف أنّنا إزاء ثروة "منفصلة اجتماعياً" عن المجتمع؛ ثروة لم تُبنَ بالتراكم التدريجي عبر الاقتصاد المنظم، بل تشكلت بخطوات سريعة في ظل الفوضى، خاصةً تلك التي ترتبط بالفصائل العسكرية أو بأثرياء الحرب، سواء في مناطق سيطرة النظام سابقاً أو في مناطق المعارضة. هؤلاء يحاولون اليوم أن يظهروا في الفضاء العام بلبوس "العمل الخيري".
من زاوية المخاطر المالية على البيئة الاستثمارية، يرى الباحث الاقتصادي ومدير منصة "اقتصادي"، يونس الكريم، أنّ تدفّق مئات الملايين من الدولارات عبر قنوات غير رسمية هو مؤشر واضح على انزلاق الاقتصاد نحو ما يسمّى بـ"اقتصاد الظلّ القوي"، ومع غياب أي تشريعات اقتصادية لأكثر من تسعة أشهر، بات هذا الاقتصاد يُعامَل وكأنه الاقتصاد الرسمي للدولة؛ رؤوس الأموال تتحرك خارج الأطر القانونية والمؤسساتية.
ويرفع الكريم، مستوى التحذير مشيراً إلى أنّ هذه التدفقات تثير "شكوكاً جدّيةً حول احتمال وجود عمليات غسيل أموال واسعة النطاق". تتفاقم المشكلة في مرحلة التحوّل وغياب الرقابة، حيث "تسعى الحكومة الحالية إلى استقطاب هذه الأموال دون مساءلة عن مصادرها، وهو ما صرّح به مسؤولون علناً".
هذا الترحيب الرسمي، بحسب الكريم، لا يقتصر تأثيره على التوازن الداخلي، بل "يعزز المخاوف لدى الشركاء الماليين الأجانب"، فغياب الضوابط القانونية يضعف الثقة الدولية، ويجعل التمويل الخارجي محفوفاً بالمخاطر ويهدد فرص جذب الاستثمارات التي تُعدّ شرطاً أساسياً لأيّ مشروع جادّ لإعادة الإعمار، وتالياً يهدد الاستقرار المالي للبلاد عموماً.
رقابة غائبة وفراغ قانوني
يجد هذا النمط من العمليات غير الخاضعة للتدقيق، غطاءً في الفراغ القانوني وغياب الرقابة الفعالة. يرى المحامي والناشط في الشأن العام، أنس جودة، أنه من الناحية الدستورية، كان من المفترض أن يعالج الإعلان الدستوري لعام 2025 فجوة الرقابة على المال العام، لكنه لم يُنشئ أي جهاز مستقل للمراجعة المالية، ولا ديوان محاسبة، ولا هيئة شفافية، ما أبقى الإشراف الفعلي رهناً بالقوانين القديمة.
الإطار العام المنظّم للتبرعات هو "قانون الجمعيات" رقم 93 لعام 1958، الذي يمنح وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل سلطة الإشراف على التبرعات عندما تمرّ عبر جمعيات مرخّصة. إلا أنّ هذا القانون لا يغطّي الحملات الفردية أو العشائرية التي أصبحت اليوم الشكل الأكثر انتشاراً.
في المقابل، أوجدت السلطة الانتقالية إطاراً خاصاً هو صندوق التنمية السوري (مرسوم 112 لعام 2025)، الذي يتمتع بالشرعية القانونية، لكنه يعمل خارج الرقابة: لا تدقيق مستقلّاً، ولا رقابة برلمانية، أو التزام بنشر البيانات المالية. هكذا، تصبح الجهة الرسمية الوحيدة الموكلة نظرياً الإشراف على التبرعات نفسها خارج الإشراف الفعلي، ما يجعل الشرعية القانونية موجودةً شكلاً لكن بلا مضمون رقابي حقيقي.
فـ"قانون الجمعيات" لا يعترف بأيّ حملة تُقاد من شخص طبيعي خارج كيان مسجّل، والقانون يشترط وجود جمعية أو مؤسسة مرخصة، لجنة مالية، وحسابات رسمية. لكن الإطار الخاص المتمثل في "صندوق التنمية"، منح غطاءً قانونياً فضفاضاً للحملات التي تُدار بـ"التنسيق" مع لجان محلية أو شخصيات مجتمعية، حتى لو لم تكن كياناتها القانونية موجودة.
بهذا، يتحول القانون إلى مظلّة شكلية تُتيح لشخصيات نافذة -دينية أو عشائرية أو فصائلية- إدارة ملايين الليرات والدولارات دون كيان قانوني واضح. ويذكر جودة، أمثلةً في تجارب مشابهة مثل العراق ولبنان وليبيا، حيث أدى هذا النوع من "الشرعية غير المكتملة" إلى تفكك منظومات الإغاثة وتحوّل المال إلى أداة نفوذ يفوق تأثيره أي سلطة رسمية. وهذا تماماً ما يتكرر في سوريا اليوم.
تبييض أموال أو تبييض صور؟
ما دام التفسير الاقتصادي يؤكد أنّ التبرّعات هي عرض لثروات غير منتجة، فإنّ السؤال التالي يتعلق بوظيفة هذه المبالغ، والدور الحقيقي الذي تلعبه هذه الحملات في المشهد الاجتماعي والسياسي، بعيداً عن العمل الخيري.
في العراق ولبنان وليبيا أدّى هذا النوع من "الشرعية غير المكتملة" إلى تفكّك منظومات الإغاثة وتحوّل المال إلى أداة نفوذ، وهو تماماً ما يتكرر في سوريا اليوم.
لا يمكن النظر إلى حملات التبرعات في السياق السوري على أنها مجرد استجابة إنسانية؛ إذ تتفق التحليلات على أنّ وظيفتها الأساسية في المرحلة الحالية هي وظيفية سياسية واجتماعية مرتبطة بالصراع على النفوذ وإعادة التموضع السياسي.
يشير الخبيران الاقتصاديان، الكريم والعلبي، في حديثهما إلى رصيف22، إلى أنّ هذه الأموال تُستخدم، في جوهرها، كاستثمار سياسي مباشر أكثر مما هي مبادرات تنموية. ويُبيّن الكريم، أنّ التبرعات الكبيرة تعمل غالباً كأداة لإظهار الولاء للسلطة وتعزيز شرعيتها، لا كمدخل لتأسيس اقتصاد منتج أو خدمات مستدامة. وهذا ما يفسّر -بحسبه الكريم- لماذا لا يُتوقّع أن تترك هذه الأموال أثراً جوهرياً على حياة الناس، حتى لو خُصّص جزء منها لتحسين خدمات عامة كالكهرباء أو الصحة أو الطرق؛ إذ تبقى هذه الخطوات أقرب إلى مظاهر سياسية وإعلامية مؤقتة لا ترتقي إلى مستوى مشاريع تنموية طويلة الأمد.
من هنا، تصبح الحملات أقرب إلى أدوات لإعادة التموضع السياسي وتلميع الصورة، بدل أن تكون مدخلاً لتحسين فعلي في بنية الاقتصاد أو حياة السكان.
قوانين هشّة
أما العلبي، فيقدّم زاويةً مكمّلةً، إذ يرى أنّ دخول حملات التبرع إلى المجال العام بهذا الحجم، ومن خارج أي رقابة أو حوكمة، يجعل أثرها يتجاوز البعد الإنساني ليصل إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ الاقتصادي. فالمتبرّع الكبير لا يوزّع المال فحسب، بل يبني شبكة ولاءات اجتماعية وسياسية، ويفرض حضوراً في السوق بوصفه "راعياً" أو "منقذاً". وفي غياب تنظيم واضح، يمكن لهذه الحملات أن تُعمّق اختلال توزيع الثروة، وتكرّس تفاوتاً اجتماعياً، حيث يصبح وصول بعض الفئات إلى المساعدات والفرص مشروطاً بالانتماء المحلي للجهات المتبرعة، فيما تُهمَّش المناطق الأقل حظاً أو الأقل قدرةً على جذب مموّلين أو رؤوس أموال.
كما يشير العلبي، إلى أنّ ضخّ مبالغ كبيرة في قطاعات محددة، من خارج أي تخطيط رسمي، قد يؤدي إلى تشوّه الأسعار المحلية، خصوصاً في مجالات البناء والإسكان، بما يجعل "العمل الخيري" أداةً لتعزيز نفوذ فئة اقتصادية معيّنة وإعادة ضبط ميزان القوة في الأسواق لصالح المناطق التي تمتلك قدرةً أعلى على جمع التبرّعات.
وفي بيئة تتقاطع فيها الثروة بالسياسة والريع، يرى العلبي أنّ التبرعات قد تصبح قناةً مثاليةً لإعادة تدوير الأموال ذات الأصل الملتبس، أو لإعادة تقديم أصحاب هذه الأموال للرأي العام كـ"فاعلي خير" بدلاً من أن يُنظر إليهم كمنتفعين من اقتصاد الحرب.
للتمييز بين العمل الخيري الحقيقي ومحاولات تبييض الصورة أو الأموال، يقترح العلبي ثلاثة مؤشرات أساسية: مستوى الشفافية في الإفصاح عن مصادر التمويل، وجود هيكل مؤسسي واضح يخضع لتدقيق مستقل، وغياب العلاقة بين التبرع والحصول على امتيازات اقتصادية أو سياسية لاحقة. كما يشدد على ضرورة النظر إلى استدامة هذا النشاط: هل هو مبنيّ على رؤية تنموية طويلة المدى أو أنه حملات ظرفية تتزامن مع أزمات سمعة أو متغيّرات سياسية؟
تبرّعات خارج الرقابة؟
بعد التحذيرات من إمكانية استغلال التبرعات لتبييض الصورة أو تدوير الأموال، ننتقل إلى سؤال أساسي آخر عن الإشراف القانوني على كيفية جمع مبالغ ضخمة دون نشر تقارير مالية؟ وما هو الإطار الذي يجب أن يحكم إدارتها؟
يشرح جودة، لرصيف22، أنّ غياب التقارير المحاسبية في أي حملة تبرّعات يُعدّ، من الناحية القانونية البحتة، مخالفةً لواجبات الأمانة المالية ويطعن بشرعية الحملة نفسها. لكن في السياق السوري، يتحول هذا الغياب إلى وضع شبه طبيعي، لأنّ الإطار الدستوري لا يُلزم بنشر البيانات أصلاً، ولأنّ "صندوق التنمية"، بوصفه الجهة الرسمية الأعلى، لا يصدر تقاريره المالية ولا يعلن تفاصيل حول حجم الأموال الواردة أو المصروفة.
في غياب تنظيم واضح، يمكن لهذه الحملات أن تُعمّق اختلال توزيع الثروة، وتكرّس تفاوتاً اجتماعياً، حيث يصبح وصول بعض الفئات إلى المساعدات والفرص مشروطاً بالانتماء المحلي للجهات المتبرّعة. كيف؟
ونتيجةً لذلك، تصبح الحملات التي تعمل "تحت مظلته"، متمتعةً بشرعية شكلية، لكنها خالية من أي شفافية فعلية.
هذا النمط ليس جديداً. ما حدث في هايتي بعد زلزال 2010، قدّم مثالاً واضحاً على كيف يسمح ضعف الإطار القانوني بتجميع مئات الملايين دون أثر ملموس. غير أنّ الحالة السورية تبدو أكثر هشاشةً، لأنّ المجتمع نفسه لا يمتلك أدوات أو مؤسسات يمكنها مساءلة هذه الكيانات أو مراجعة أدائها.
وانطلاقاً من هذا الخلل البنيوي، يوضح جودة، أنّ إدارة أيّ أموال عامة أو تبرّعات تتطلب، في الحد الأدنى، ثلاث ركائز: وجود كيان قانوني مرخص، حسابات مالية منفصلة عن الأنشطة الأخرى، وتدقيق دوري يصدر عن جهة مستقلة. وبرغم أنّ "قانون الجمعيات" يضع هذه المبادئ بوضوح، إلا أنه يبقى إطاراً عاماً لا يشمل الحملات الكبرى التي تعمل ضمن "الإطار الخاص" للصندوق. فالصندوق ذاته لا ينشر موازناته ولا يخضع لتقارير مراجعة مُعلنة، ما يجعل إدارة التبرعات قانونيةً شكلاً ولكن ناقصة جوهرياً.
وتؤكد التجارب المقارنة أنّ هذا النمط من الإدارة ينتج اقتصاداً موازياً غير قابل للرقابة، بحسبه. ففي العراق، على سبيل المثال، ضاعت مليارات الإعمار برغم وجود قوانين صارمة، فقط لأنّ الرقابة كانت غائبة. وفي سوريا، يتكرر المشهد بصورة مصغّرة: إدارة تبدو نظاميةً من الخارج، لكنها بلا شفافية حقيقية.
ومن وجهة نظر جودة، يتعمّق الخلل أكثر عند النظر إلى غياب الإطار القانوني الناظم للنشر والإفصاح، إذ يصبح التدقيق مستحيلاً عملياً، حتى لو كانت عملية جمع التبرعات قانونيةً من حيث الشكل. وتجارب مثل لبنان بعد الحرب الأهلية تؤكد النتيجة ذاتها: عندما تُحجب البيانات عن الجمهور، تتحول التبرعات إلى مساحة مثالية للاستخدام السياسي أو الريعي، دون أي قدرة على المساءلة أو التحقق.
وفي السياق نفسه، ومع غياب النشر العلني وتلاشي أدوات التدقيق، تمتدّ آثار الخلل إلى المجال الاجتماعي كله. فبينما يتوسّع نفوذ المال السياسي والاقتصاد غير الرسمي، يبقى المواطن العادي، المؤشّر الأصدق على ما يجري خلف الأرقام. فردود الفعل الشعبية تعكس فجوة ثقة متراكمة خلّفها حجب المعلومات لسنوات طويلة. وعندما يُعلَن عن مئات الملايين دون شرح لمساراتها أو الجهات التي تديرها، يصبح الشكّ موقفاً عقلانياً لا انفعالاً، في بلد اعتاد أهله أنّ ما يُخفى أهم مما يُعلن. وهكذا تُقرأ موجة التبرعات اليوم: لا كعلامة تعافٍ، بل كمرآة لاختلالات المرحلة وأسئلتها المؤجَّلة.
أزمة الثقة
يمثّل التشكيك الشعبي الواسع تجاه حملات التبرعات التي كشفت عن ثروات ضخمة ومفاجئة، إحدى النتائج المركزية التي تكشفها المعطيات الواردة في هذا التقرير. فهذه الظاهرة، التي تناولها الخبراء اقتصادياً وسياسياً وقانونياً، تنعكس اجتماعياً على شكل أزمة ثقة عميقة ببنية توليد الثروة وبالفاعلين في مرحلة التحوّل.
هنا يوضح العلبي، أنّ غياب الشفافية المالية يضعف تلقائياً ثقة المجتمع بهذه الحملات، ويحوّل التبرّعات إلى فضاء رخو وغير مستقر. ويرى أنّ ردود الفعل الشعبية المتشككة ليست انفعالات عاطفيةً، بل استجابة عقلانية لبيئة معلومات غير متكافئة: مواطن بدخل محدود يشاهد أرقاماً خياليةً تُعلَن بلا أي مسار واضح لتوليدها. يترجم ذلك في السلوك الاقتصادي اليومي: تفضيل الادّخار على الاستثمار، التوجه نحو الهجرة، والعزوف عن المبادرات الجماعية، وهي مؤشرات تقوّض أيّ محاولة لإعادة البناء على أساس داخلي.
للتمييز بين العمل الخيري ومحاولات تبييض الصورة أو الأموال، لا بدّ من 3 مؤشرات: مستوى الشفافية في الإفصاح عن مصادر التمويل، وجود هيكل مؤسسي يخضع لتدقيق مستقل، وغياب العلاقة بين التبرّع والحصول على امتيازات لاحقة.
ويشدّد الكريم على أنّ "حملة التبرعات الأخيرة أظهرت فجوةً حقيقيةً بين المجتمع وهذه المبادرات". فالقضية، كما يقول، ليست اقتصاديةً فقط، بل تتعلق بيقين شعبي بأنّ الأموال لا تُوجَّه نحو التنمية أو بناء الدولة، بل تُستخدم لتعزيز نفوذ الطبقة الحاكمة، ومشاركة شخصيات مرتبطة بالسلطة أو باقتصاد الحرب في الحملة زادت شكوك الناس ومنحتها شرعيةً اجتماعية.
تبرز الفجوة بحدّة، في شهادة أبي أحمد (اسم مستعار من حماة)، الذي يبيع أحياناً أثاثاً من منزله لتأمين أساسيات عيشه، بينما يسمع عن تبرّعات بملايين الدولارات من شخصيات مثل والد "أبو عمشة"، والأخير عُيّن قائداً لـ"الفرقة 25" التابعة للجيش السوري الجديد، ويملك سجلّاً حافلاً بالانتهاكات والسطو على موارد المدنيين.
يشير أبو أحمد في حديثه إلى رصيف22، إلى مفارقة تتمثّل في أنّ هذه العائلات كانت تعيش في ظروف مادية مشابهة لعموم الناس قبل الحرب.
الأمثلة لا تتوقف عند "أبو عمشة": أسماء أخرى مثل الداعية العرعور، الذي أعلن عن تبرّع بمليارات، تجعل السؤال الشعبي مشروعاً: من أين جاءت هذه الثروات؟ ولماذا الآن؟ يخلص أبو أحمد إلى أنّ ما يحدث ليس كرماً، بل "محاولة لتبييض الشيك الأسود".ٍ
هذه القناعة الشعبية، وفقاً لجودة، لا يمكن تفكيكها في ظل غياب الشفافية القانونية التي تعرقل المساءلة.
وفي ظلّ هذا الانفصال المزمن بين القانون وممكناته، تتخذ حملات التبرّع طابعاً استعراضياً أكثر منه اقتصادياً، لتتكشّف عند مقارنتها بالمعطيات الفعلية هشاشة الواقع الذي يُفترض أن تعالجه.
عمق الأزمة
تبرز الهوّة الصارخة بين الأرقام المعلنة في حملات التبرع وبين الواقع الاقتصادي المتهالك الذي يعيشه السوريون اليوم، إذ تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إلى أنّ نحو 90% من السكان باتوا تحت خط الفقر في عام 2025، بينما يقدّر البنك الدولي أنّ 27% منهم يعيشون في فقر مدقع، أي ما يقارب 5.7 ملايين شخص. وتؤكد المؤسسة السورية للدراسات والأبحاث (SCPR)، في تقريرها لعام 2024، اتّساع الفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة إلى حدّ جعل الدخل الشهري عاجزاً عن تغطية الحد الأدنى.
في هذا المناخ الذي تُختبر فيه هشاشة الحياة اليومية، تبدو إعلانات التبرّعات اليوم بمئات الملايين أشبه بصدمة جماعية، لا من حيث حجمها فحسب، بل من حيث تعارضها الجذري مع بنية اقتصاد محلي لا ينتج بطبيعته هذا النوع من الثروة. فالمبالغ المعلنة ـالتي بلغ مجموعها المتداول نحو 601 مليون دولار عبر الحملات المختلفة في شتى المحافظات السورية والتي لا تزال مستمرةًـ تتجاوز في واقع الأمر حجم السيولة المتوافرة في السوق المحلية، وفق تقديرات اقتصادية داخلية، ما يجعل السؤال الأكثر إلحاحاً: من أين يأتي هذا المال؟ إذ يصعب تفسيره ضمن اقتصاد منخفض الإنتاج، شبه مشلول صناعياً، ويعاني شحّاً في الاستثمار بعد أربعة عشر عاماً من الحرب.
لفهم هذا التناقض، لا بد من تذكُّر السياق التاريخي لظهور طبقة “الأثرياء الجدد” التي تشكّلت منذ 2012، في كلٍّ من مناطق سيطرة المعارضة والنظام السوري السابق، من رحم اقتصاد الحرب القائم على الريع والعنف. فالثروات التي راكمتها هذه الشبكات لم تتولد من نشاط اقتصادي طبيعي، بل من مسارات موازية جرى توثيقها في دراسات صادرة عن مؤسسات بحثية مثل مركز "كارنيغي للشرق الأوسط"، والمعهد الألماني للشؤون الدولية (SWP).
تحاول هذه الفئات في الوقت الراهن، إعادة إنتاج نفسها في صورة "رعاة خير" من خلال حملات التبرعات الضخمة، بما يشبه عملية تبييض لثروة الحرب وتأسيس رأس مال رمزي جديد يتيح لها البقاء في المشهد العام.
وهكذا، يغدو مشهد التبرّعات ليس مجرد تدفّق مالي غير متوقع، بل مرآة دقيقة تُظهر التعايش القاسي بين ثروات تراكمت في الظل وفقر واسع يطحن غالبية السكان، في مفارقة تلخص عمق الأزمة البنيوية التي يواجهها المجتمع السوري اليوم.
شهادات الخبراء الثلاثة، يونس الكريم، محمد العلبي، وأنس جودة، تكشف عن جوهر واحد للمشكلة: تبرّعات ضخمة تتحرك داخل فراغ مؤسسي يسمح بتسييسها أكثر مما يتيح توظيفها اقتصادياً. وإلى جانب هذا الاستخدام السياسي، برز بُعدٌ ديني-أيديولوجي يحمّل هذه الحملات وظيفةً أخرى تتجاوز الإغاثة، في اتجاه تعزيز نفوذ عقائدي موازٍ للنفوذ المالي والسياسي. بهذا تتعقّد الصورة أكثر، ويزداد القلق من تحوّل التبرعات إلى أدوات تشكيل القوة بدل أن تكون رافعةً اقتصاديةً واجتماعيةً، فيما يُترك المجتمع وحده لمهمة طرح الأسئلة ورصد المسارات الغامضة لهذه الأموال.
وبهذا، تبدو موجة التبرّعات أقرب إلى مرآة تُظهر خلل البنية أكثر مما تعكس قوة المجتمع، إذ تكشف هشاشة المؤسسات وغياب المساءلة، وتترك الأسئلة معلّقةً حول الجهة التي تُراكم النفوذ فعلاً.
في النهاية، ما لم يُستعَد إطار واضح للشفافية والرقابة، ستظلّ هذه التبرعات تملأ الفراغ نفسه الذي أنتج الأزمة، بدل أن تكون مدخلاً لحلّها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.


